محمود الوهب
يؤكد شكل الرسالة ومحتواها أن ميشيل كيلو حمل الهم السوري حتى آخر رمق من حياته، ولا تحتاج الرسالة إلى قراءة معمقة لفهم ما فيها فهي واضحة الدلالات، إذ لم تأت من ذهنية هائمة بل استندت إلى واقع قائم، وإلى أخطاء وقعت فيها المعارضة، وكانت سبباً، إلى جانب أسباب أخرى، فيما آلت إليه الثورة من تعثُّر لم تستطع تجاوزه.
وتعبر الرسالة، في عمقها، عن روح المناضل الوطني الذي وهب حياته للحرية، وفهمها على أنها المواطنة الفعلية، وأنها المدخل الصحيح إلى تنمية فعلية.. والرسالة امتداد لما قاله ميشيل كيلو قبل أربعين سنة، في الاجتماع التاريخي لاتحاد الكتاب والصحفيين السوريين. حينذاك كانت قضية الإخوان المسلمين (الطليعة المقاتلة) أكثر ما يقلق النظام، وقد شكلت لحافظ الأسد آنئذ حالة رعب فعلي جعلته يبحث عن منقذ، لكنه وبدلاً من استماعه لرأي المثقفين أخذ يمعن في الابتعاد عنهم، فذهب إلى حلَّ النقابات المهنية المنتخبة ديمقراطياً، قبل أن تمتد يد البعث إليها، وعيّن بديلاً عنها من البعثيين وأحزاب الجبهة الآخرين وفق قاعدة “من يأكل من خبز السلطان لا بد أن يضرب بسيفه”.
وهكذا ذهب بعض هؤلاء ضحايا مواقف قياداتهم الممالئة، والطامعة بآن، وقد خامرهم ظنٌّ أن حافظ الأسد مُقْدِمٌ على إصلاح ما! فكانت النتيجة مذبحة حماة عام 1982 التي أتت تربية لبقية الأحزاب وللمجتمع السوري كله إذ تسيّد العسكر وتسلطوا على الجميع قمعاً وفساداً وهزائم.
ومن أجواء اجتماع المثقفين مع قيادة الجبهة في 9 تشرين الأول 1979 نشر “خالد نعمة” مداخلة ميشيل كيلو في اجتماع لنحو مئة من المثقفين السوريين كتّاباً وصحفيين، كما دونها والده المرحوم دانييل نعمة عضو القيادة المركزية للجبهة ممثلاً عن الحزب الشيوعي السوري (سرِّب الشريط آنذاك واستمع إليه سراً، وأعيد نشره الآن مع رحيل ميشيل) فما الذي قاله ميشيل حرفياً وقد تحدث بعد الشاعر والصحفي “عادل محمود” الذي قال: “قضيتان مطروحتان أمامنا: القضية الوطنية والقضية الاجتماعية. في القضية الوطنية أخفقنا في الكثير من الجوانب. لم نسترجع شبراً واحداً من الأرض، بل عدنا إلى الوراء. وعلى المستوى الفلسطيني، فقد ضربنا الفلسطينيين في لبنان. أما القضية الاجتماعية، فالمشكلة تبدأ من الخبز، وتصل إلى أكبر القضايا.. إن ما حصل ليس مجرد أخطاء، وإنما هو نتاج نهج سياسي ينبغي تغييره”.
تبنى ميشيل هذا الرأي فقال: “رأْيُ عادل محمود هو رأيي”، وأضاف:
“هذه الجبهة باسم الوحدة الوطنية يـُـمنع عليها العمل في الجيش وبين الطلاب، فكيف يصح أن تكون موجودة وأطرافها غير مؤتمنين على هذه القضايا؟ وأحزابها تتطور نحو اللافاعلية، والسبب يعود إلى فكرة تقييدها، والحد من نشاطها.. مشكلة الجبهة ليست مع الجماهير، وإنما مع السلطة القيادية. الشعب ليس واضع الميثاق، ولا هو سبب الانقسامات في أحزاب الجبهة، فهذه الأحزاب هي التي سارت في سياسة أفقدتها استقلاليتها السياسية. مشكلتها في علاقتها مع النظام السياسي، وهذا ما ينبغي بحثه. القوى الحالية لم تعد أحزاباً بمفهوم العلم للحزب..
تحدثتم عن خلل: المسيرة كما قلتم صحيحة، لكن تشوبها أخطاء قليلة، وتتعرض لتآمر استعماري، والأخطاء يمكن تصحيحها. هكذا قلتم، لكن هل هذه هي الحقيقة؟ المطلوب إسقاط منجزات الشعب السوري، وهذا ممكن بضرب الحريات، وبضرب الديمقراطية. الأزمة التي نعيشها مميتة. لا دور للشعب، والحريات مخنوقة عن سابق تصور وتصميم. العيب الأساسي هو في بنية البلد، وفي القوى، وقد جُررنا إلى هذا العيب تحت شعارات التقدم..
أين الوحدة العربية؟ وماذا حول المسألة الاجتماعية؟ أين الاشتراكية؟ وعي الشعب مسألة هامة، وقد وصل إلى مرحلة خطيرة من التدمير. المهم إصلاح جذري، وليس معالجة ظواهر خارجية وأخرى داخلية. المطلوب قرار استراتيجي، لا أعمال لتأخير مرحلة السقوط أو تأجيلها..”.
وختم بسؤال: “إذا لم نكن قد حللنا مسألة الخبز، فمتى تـُـحلُّ القضايا الأخرى؟!”.
اليوم وقد تعثرت الثورة رغم كل ما قدمه الشعب السوري من تضحيات وكأنما لا أحد في عالمنا المعاصر يريد لسوريا أن تغلق حقبة الأسد التي وضعت سوريا بقدراتها وإبداع شعبها في ثلاجة الزمن مدة خمسين عاماً.. اليوم يغادر ميشيل في مرحلة مفصلية، وهو يدرك تماماً ما يمكن أن تخلقه هذه المرحلة في نفوس السوريين، فيرسل رسالته أملاً ورجاء لعله يسعف الواقع الخطأ، وصولاً إلى الحرية القادمة لا محالة.
تضمنت الرسالة/الوصية نقداً غير مباشر للمعارضة، وجاءت في ثلاثة عشر بنداً، وامتازت بنوع من حكمة الأب إذ خاطبت الشعب السوري معتزة به، راجية له ومنه مستقبلاً أفضل. وقد ركزت في بندها الأول على حقيقة واحدة، داعية إلى التمسك بها سبيلاً وحيداً لمصرع الاستبداد، فهي معنى الحياة، ولا معنى للحياة بدونها، إنها الحرية عنوان هبّة الشعب السوري ومحتواها.. فكيف يعيش الناس مواطنيتهم وإنسانيتهم دونما حرية؟ إذاً لا شيء سواها يشكل اليوم طوق نجاة للسوريين أجمعين.
في البندين الثاني والثالث يشير، دونما مباشرة، إلى أخطاء وقعت فيها المعارضة سابقاً، ويعد حرية الوطن الكبرى سبيلاً وحيداً لحرية مكوناته وأطيافه أما الحريات الجزئية فانتماؤها إلى أهواء وهُويّات وإيديولوجيات تأتي حتماً عبر حرية الوطن الأشمل والأعم.. ويلخص هذا البند مقتلة المعارضة التي تهافتت مكوناتها منذ اليوم الأول على الثانوي وأهملت الرئيسي، فلم تر سوريا المظلومة بكاملها.
ويتابع في البند الرابع تحذيره من الانسياق وراء الأهواء، ويوصي باعتماد معايير وطنية واضحة، ونبذ العقليات الضدّية الثأرية، فالمجتمعات لا تبنى إلا “بواسطة عقد اجتماعي، واضح، ومحدّد، وشفّاف يساوي بين كل المواطنين إزاء الدولة وأمام القانون، ويكفل حقوقهم وحرّياتهم وكراماتهم.” ويؤكد الخلاص من الأسد هدفاً رئيساً في البند الخامس، كما يعزز من دور المثقفين وأصحاب الفكر ويوصي بالأخذ بمشورتهم ويحذر من الاستخفاف بمفكرٍ صاحب تجربة، ويحيي دور المرأة السورية التي وقفت إلى جانب الشباب في تظاهراتهم وأنشطتهم كافة هؤلاء الذين عاركوا شبيحة النظام وتحملوا جرائمهم، ويؤكد أن سوريا المستقبل لا يمكن أن تبنى دون مساهمة المرأة وحصولها على حقوقها كافة، وكأني به يستعير عبارة كارل ماركس: “إن التقدم الاجتماعي يقاس بالوضع الاجتماعي للجنس الأنثوي”.
بالطبع لم ينس الإشارة إلى بقية فئات الشعب السوري من مهنيين وغيرهم، فالكل له مساهمته في الثورة السورية ودان بعض من امتطى الثورة لمنافع خاصة به، ودعا إلى أهمية تجاوز المشكلات الداخلية، والارتهان الخارجي التي دفع الشعب السوري أثمانا باهظة بسببها.
ولفت وهو في موقفه الحرج إلى “أن قضية فلسطين هي جزء من قضايانا الأساسية، ففلسطين قضية حرية وكرامة وعدالة! وهي قضية شعبنا أيضاً.. فالقيم السامية لا تتجزأ. كفاحنا مع شعب فلسطين جزءٌ من كفاحنا ضد الاستبداد، وبالعكس”. وأشار إلى الجولان المحتل بقوله: “لتبق قضية استعادة الجولان في مقدّمة أجندتنا الوطنية”.
لترقد روح “ميشيل كيلو” بأمن وسلام، فقد جسد في حياته حقيقة جوهرية هي: أن تكون معارضاً لحكم الأسد فذلك يعني أنك تغامر بحياتك، كما يعني، أن حرية الوطن وأمن أبنائه هما حياتك كلها، بل هما أغلى منها..
المصدر: موقع تلفزيون سوريا