إسماعيل جمال
لأول مرة منذ قرابة 8 سنوات، وصل وفد تركي رفيع إلى القاهرة لعقد مباحثات “استكشافية” مع الجانب المصري في أبرز تطور على طريق مساعي إعادة تطبيع العلاقات بين البلدين والتي بدأت منذ أشهر على المستوى الاستخباري والدبلوماسي، وقد تقود للقاء قريب بين وزيري خارجية البلدين وإعادة العلاقات الدبلوماسية بشكل كامل وتبادل السفراء.
ورغم التصريحات التركية المتكررة التي تظهر رغبة أنقرة الحادة في التقارب مع القاهرة في الوقت الحالي وبشكل سريع، تبدو القاهرة أكثر تحفظاً ولم يصدر عن الجانب المصري حتى اليوم سوى عدد محدود جداً من التصريحات المتحفظة التي سعت إلى إعطاء إشارات مختلفة على أن ما يجري لا يتعدى كونه مساعي للتقارب برغبة تركية وأن القاهرة ليس في حاجة أو بعجلة من أمرها للتجاوب مع هذه الرغبة التركية.
هذا التمنع المصري إعلامياً، لم يعكس بالضرورة حقيقة الموقف في الاتصالات السرية والتي باتت علنية في الأيام الأخيرة، فلولا الرغبة والحاجة المشتركة لما وصلت الاتصالات إلى هذه المرحلة، حيث بات من المسلم به أن البلدين بحاجة ماسة إلى تقارب فرضته التغيرات الاقتصادية والسياسية والعسكرية في المنطقة والعالم، وعقب الاقتناع بأن التقارب سيعود بفائدة كبيرة على الجانبين.
إلا ان ما يصعب التكهن به في الوقت الحالي، هو ما إن كان هذا التقارب يأتي في إطار “مناورة تكتيكية” من قبل البلدين لمواجهة مجموعة من التحديات والاستحقاقات الكبيرة التي تواجههما، أم أنه محاولة للتأسيس لتعاون استراتيجي يمكن أن يغير خريطة التحالفات في المنطقة.
في السنوات الأخيرة بشكل عام، وفي الأشهر الأخيرة بشكل خاص، واجه البلدين مجموعة من التحديات الاقتصادية والسياسية والعسكرية التي تعاظمت في المنطقة، ومنها ملف شرق المتوسط واستحقاق تحصيل أعلى مستوى من المكاسب من ثروات المنطقة والملف الليبي وما فرضه من تحديات عسكرية وسياسية، والإدارة الأمريكية الجديدة، والصعوبات الاقتصادية التي خلفتها جائحة كورونا، والكثير من الملفات التي تظهر فيها الحاجة والفائدة المشتركة للبلدين.
فتركيا لم تخفي على الإطلاق رغبتها الكبيرة في التوقيع على اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع مصر لتعزيز موقعها وتحالفاتها في الصراع الدائر هناك، كما أنها ترغب في استمرار الحل السياسي في ليبيا وإنهاء شبح عودة الحرب والقتال هناك، إلى جانب الرغبة في استمرار وتوسيع التعاون الاقتصادي الذي لم يتراجع بين البلدين طول سنوات الخلاف السياسي، إلى جانب الرغبة في تعزيز الحملة الدبلوماسية التي بدأها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتقليل الخلافات مع دول العالم والعودة التدريجية إلى سياسية “صفر مشاكل” ولو بشكل جزئي.
أما على الجانب المصري، فإن أي اتفاق لترسيم الحدود البحرية مع تركيا يمكن أن يعود بفوائد اقتصادية كبيرة على مصر التي تؤمن أنقرة أنها خسرت مساحة كبيرة في اتفاقياتها السابقة مع اليونان وقبرص في إطار المناكفات السياسية مع التركية، كما ان القاهر بحاجة ماسة جداً لتعزيز تحالفاتها وسط خشية متصاعدة من إمكانية دخولها في مواجهة عسكرية مع أثيوبيا على خلفية أزمة سد النهضة، إلى جانب الرغبة في تعزيز التعاون الاقتصادي، وهي ملفات يمكن أن يتصدرها الخشية من سياسات الإدارة الأمريكية الجديدة التي باتت تركز على ملف حقوق الإنسان وملف المعتقلين السياسيين وهي معضلة يمكن أن تلعب تركيا دوراً كبيراً في حلها من خلال المساهمة في مصالحة مصرية-مصرية في وقت لاحق، رغم أن هذا السيناريو يبدو صعباً ومعقداً إلا انه يبقى قائماً.
كما أن القاهرة لمست تغييرات كبيرة من قبل حلفائها في المنطقة، حيث يدور حديث مصاعد في الغرف المغلقة عن غضب مصري من الدعم الإماراتي لأثيوبيا، وغضب مصري أكبر من اتفاقيات التطبيع الإماراتية مع إسرائيل وسط تجاهل كبير للمصالح القومية المصرية، وخلافات مع اليونان حول رغبتها في فرض سيطرتها على أوسع مساحة ممكنة في شرق المتوسط، وهو ما يمكن اعتباره أنه يأتي في إطار تنويع التحالفات.
هذا التنويع الذي يمكن أن يحمل في طياته احتمال أنه يأتي في إطار “مناورة تكتيكية” يمكن أن تنسف كل ما يمكن التوصل إليه في حال انتفاء هذه الأسباب ونجاح القاهرة في الضغط على إسرائيل والسعودية والإمارات واليونان لتحقيق مصالحها مقابل الابتعاد عن تركيا، كما يمكن أن يحصل العكس وهو تراجع الرغبة التركية في التقارب في حال حققت ما تريده أنقرة في ملف شرق المتوسط ولم يتم التوصل إلى تفاهمات مبنية على أرضية قوية من الثقة حول الملفات المعقدة وأبرزها ملف الإخوان المسلمين.
وفي هذا الإطار، تأتي “المباحثات الاستكشافية” التي تهدف بدرجة أساسية إلى قياس مدى وجود أرضية للتوافق بين البلدين لانتقال إلى المرحلة المقبلة من التطبيع بين البلدين، حيث يبحث على مدار يومي الأربعاء والخميس وفد تركي برئاسة مساعد وزير الخارجية سادات أونال مع مساعد وزير الخارجية المصري حمدي لوزا الخطوات المقبلة، وفي حال نجاح هذه الجولة يتوقع أن يكون هناك لقاء قريب بين وزيري خارجية البلدين يؤسس لعودة تبادل السفراء، وهو ما من شانه أن يعطي صورة أوضح عن مستقبل العلاقات بين البلدين.
المصدر: “القدس العربي”