حسن النيفي
لم يكن الشاعر نزار قباني ( 1923 – 1998 ) إسماً عابراً في تاريخ الشعر العربي الحديث، بل جسّد نتاجه الشعري (ظاهرة) ذات مستويين إثنين، يحيل المستوى الأول إلى تفرّده الفني والجمالي، ويحيل المستوى الثاني إلى جرأة فكرية حاولت خلْخلة البنى الثقافية السائدة آنذاك، الأمر الذي أثار جدلاً صاخباً بين النقاد والمثقفين، و لم تقف تداعيات ذلك الصخب عند تخوم الشعر والأدب فحسب، بل امتدّت إلى الأوساط الفكرية والدينية أيضاً. تحاول هذه المقالة الوجيزة أن تقف عند المستوى الثاني من ظاهرة نزار قباني، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن الأستاذ بشير البكر كان قد كتب مقالة في صحيفة المدن( نزار قباني – إعتراف متأخر 2 – 5 – 2021 ) تحدث فيها عن جانب هام من الغبن الذي طال نزار قباني، إلّا أن الفكرة التي قدحها الأستاذ بشير، تبقى متوهّجة وقابلة لأنْ يبقى شررها متطايراً، مما يجعل الحديث في هذه المقالة امتداداً لما بدأه الأستاذ بشير.
موقف النقاد من ( ظاهرة نزار قباني)، وكذلك الموقف من القصيدة الكلاسيكية، والتشاجر الحاد بين دعاة الحداثة و التراثيين أو دعاة الأصالة، لعل جميع هذه المسائل وما دار حولها من حوارات، وما صدر من كتب وأبحاث بخصوص هذه المسائل منذ أوائل خمسينيات القرن الماضي وحتى مطلع القرن الواحد والعشرين، تشير إلى أمرين إثنين:
1 – يؤكّد الأول أن معظم المواجهات الثقافية لم تكن تجسّد مواجهةً بين أفكار متباينة، بقدر ما تجسّد تصارعاً بين أنماط من التفكير، بل بين نمطين إثنين على وجه الخصوص، وكلا النمطين لم يكن يتغذّى من مناهل معرفية ذات صلة بسيرورة حياة المجتمعات، وإنما كان يمتح من معين عقائد وتصورات ذات صلة بجانب إيماني أكثر مما هو معرفي.
ولئن اتخذ النمط الأول ( الحداثي) موقفاً سلبياً، وربما كان متردداً في أفضل الحالات، من الشاعر نزار قباني متّهماً إيّاه بالرجعية حيناً، وبالارستقراطية والسطحية حيناً آخر، فقط لأن نزار لم يهجر القصيدة الكلاسيكية، علماً أن نزار قباني كان من أشدّ المدافعين عن قصيدة التفعيلة حينذاك، جاهلاً أو متجاهلاً المضمون القيمي والمعرفي في شعر نزار الذي جسّد في تلك المرحلة ثورة فكرية، سواء فيما يخص قضايا المرأة، أو ما له صلة بعالم السياسة، ذلك أن المحتوى الحداثي – وفقاً لأصحاب هذا الاتجاه – يجب أن يكون ذا لبوس حداثي أيضاً، بل ربما غدت مسألة ( الشكل – البرانية) هي الأهم، ولعله من الطرافة أنْ خرج بعض النقاد آنذاك ببعض التصنيفات التي تثير الاستغراب، كقول أحد النقاد على سبيل المثال: ( القصيدة العمودية تجسّد النزوع الإقطاعي، وقصيدة التفعيلة تجسّد نمط الإنتاج البرجوازي، أما قصيدة النثر فتمثل النزوع البروليتاري).
وإذا كانت ردّة الفعل تجاه النزعة العقلية في الفلسفة الأوربية قد ساهمت في ظهور بعض التيارات الأدبية والفنية التي تستلهم اللاشعور، وتحاول البناء على ما هو باطني أكثر مما هو مجرّد،( السوريالية – الرمزية ) مما أدى إلى شيوع أدب تعتريه الكثير من العبثية من الناحية اللغوية والأسلوبية، فإن هذه الظواهر ذات المنشأ الفكري والاجتماعي الغربي تغدو قدوةً في التطور والحداثة لدى قطاع واسع من النقاد والأدباء العرب، في واقع عربي هو أشد ما تكون الحاجة فيه إلى العقلانية.
وبقدر ما تكشف هذه الرؤية عن بؤس معرفي بطبيعة الفن وخاصيته النوعية أو الجمالية، فإنها تفصح من جهة أخرى عن استلهام أعمى لما تمليه القناعات الماورائية، أو العقائد، او الإيديولوجيا، دون معرفة حقيقية بالسياقات الفلسفية والفكرية التي أنتجت الظواهر الحداثية، وكذلك دون النظر إلى التحولات الاجتماعية التي تسهم إلى حدّ بعيد في بلورة الأفكار والتصورات، حتى يخيّل لأصحاب هذا الاتجاه، أن الأفكار تهبط من السماء، أو تنبت في البريّة، ولا علاقة لها بالسياق الحياتي والاجتماعي لحياة الشعوب.
ولكن في مقابل ذلك، يبدو النمط الثاني من التفكير لا يقل عن الأول عقدياً وما ورائيةً، بل ربما يغدو الأمر أكثر خطورةً حين تتماهى أفكار البشر بالمقدّسات، ويتمّ تجريد المُنتَج التراثي من سماته البشرية، ليغدو كله ضرباً من المقدّس الذي لا يجوز المساس به أو الانتقاص من قيمته، إذ لم يعد الموروث البشري بشتى أصنافه مُنتَجاً بشرياً مشروطاً بزمانه ومكانه، بل بات – لدى أصحاب هذا الإتجاه – مُحصّناً من أي نقيصة، وأيّة محاولة لخلخلة القناعات المنسوجة حوله، أو أيّة رغبة بالمراكمة المعرفية عليه، بغية تطويره أو تنميته من داخله، فهي تجسّد مسعى تآمرياً على ثوابت الأمة، بل تهدف إلى تخريب ثوابتها وتقويض مقوّماتها، ووفقاً لهذا الفهم، يصبح مشروع الحداثة برمته دعوة مشبوهة، لا يقف وراءها أصحاب قناعات فكرية منحازة إلى التحديث، وتتطلع إلى تدشين عهد إبداعي جديد يواكب العصر، ويلبي الحاجات الجمالية للإنسان المعاصر، بل لا تعدو هذه الدعوة – وفقاً للكثير من (دعاة الأصالة ) سوى مؤامرة رديفة للمؤامرة الاستعمارية الغربية الكبرى، التي ترمي إلى استهداف لغة الأمة وتراثها ودينها وووو، وبناء عليه، فإن مقاومة مشروع الحداثة لم تعد تحمل سمة ثقافية أو فكرية، بل ربما باتت لدى الكثير واجباً دينياً أيضاً، إذ لا نزال نذكر الكثير من الكتابات التي هاجمت قصيدة النثر، بحجة أنها بدعة مدعومة من جهات صهيونية وأخرى معادية للأمة العربية والمسلمين!
2 – الأمر الثاني الذي يفصح عنه صراع الأنماط آنذاك، يتجلى بأولوية السياسة على الفكر، واستلهام التجربة السياسية مبتورةً من حواملها الفكرية، فعلى الرغم من جميع المفاصل المؤلمة في الوطن العربي منذ نكسة حزيران 1967 إلى بدء ثورات الربيع العربي أواخر العام 2010 ، لم تستطع النخب الفكرية والثقافية بشتى انتماءاتها الإيديولوجية أن تسجّل أثراً فاعلاً في توجيه السياسات الحاكمة، بل غالباً ما أثبتت تلك النخب تبعيتها أو التحاقها بنماذج أنظمة الحكم، ولا يمكن في هذا السياق نكران الطبيعة الاستبدادية لأنظمة الحكم ذات الطابع العسكري على الأغلب، ونهجها التوحشي في القمع الذي حوّل السلطة إلى منظومة أمنية لا يمكن لها التصالح مع أية رافعة إجتماعية أخرى، إلّا أن هذا كله لا يلغي عطالة المسعى النخبوي الذي ظلّ مؤطراً في صراعاته ومطاحناته النمطية، ولذلك نجد أن المراجعات أو الصحوات الفكرية والثقافية قد تزامنت في معظمها مع الزلازل السياسية، كانهيار الاتحاد السوفياتي عام 1993 بالنسبة إلى الماركسيين، وافتضاح قذارة الأنظمة العربية، ثم تداعي عدد منها غداة انطلاقة ثورات الربيع العربي بالنسبة إلى القوميين.
لعل الحديث عن صراع الأنماط الفكرية في مرحلة معينة، لا ينفي وجود مساهمات فكرية شديدة النصوع والأهمية، تناولت بنقد معمّق التفكير النمطي النخبوي، ولعل أبرز تلك المساهمات، كتابان للدكتور برهان غليون، الأول بعنوان ( مجتمع النخبة) والثاني بعنوان ( إغتيال العقل) وقد صدر الكتابان في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وكلا الكتابين ينطوي على نقد التفكير السائد لدى النخب، وفي الكتابين دعوة واضحة أيضاً للخروج من ثنائية ( الحداثة والأصالة أو التقليد)، والنزوع نحو أفق آخر، يرى فيه الدكتور برهان غليون أن القيمة الجوهرية لأية فكرة إنما تكمن بمدى القدرة على توظيفها في السياق الاجتماعي لحياة المجتمع بعيداً عن التوصيفات المسبقة.
لعل المفارقة الأكثر إيلاماً، ان نجد ما تبقى من أصحاب النمطين الفكريين المذكورين يلتقيان من جديد، ويتجسّدان كقوة كابحة لثورات الربيع العربي، وربما كانت الثورة السورية هي الميدان الأكثر جلاءً لسفور وبائهما، يتمثل النمط الأول بمجمل القوى اليسارية ( قومية وشيوعية) التي تستمر بانحيازها إلى جانب نظام الأسد ، حيناً تحت شعار مناهضة الامبريالية الغربية، وحيناً بحجة مقاومة الصهيونية، بينما يتمثل النمط الثاني بقطعان الجماعات المتطرفة التي لم ترَ سبيلاً لإنشاء دولتها الظلامية إلّا على أنقاض ثورة السوريين وتضحياتهم العظيمة.
المصدر: تلفزيون سوريا