كادَ التساؤل الحارق عن أسباب تأخر ميعاد الربيع الفلسطيني!؟ أن يزيد من بواعث اليأس والقنوط، كلّما كانت تتعالى جدران القطيعة، بين قضايا تحرر الشعوب العربية من أنظمة الاستبداد، وقضية تحرر فلسطين من براثن الاحتلال الصهيوني. لكن الخطر الذي بدا جدياً إلى حدٍ كبير، تمثّل في محاولات ومشاريع تقاطعت على إبراز الفلسطينيين، كطرف منحاز لجبهة الاستبداد العربي، وعلى رأسها النظامين الأسدي والإيراني. بقدر ما أسهمت مواقف القيادات الفلسطينية المخزية تجاه الثورة السورية، في ترسيخ هذا الانطباع بصورة مؤلمة، فقد لعب النظام السوري وحليفه الإيراني، من خلال استثمار أدواتهم الفلسطينية في سورية، دوراً لا يستهان به لتمزيق الروابط المتواشجة بين الشعبين في زمن الربيع العربي. تجندت لخدمة ذاك الدور مجموعات تشبيحية فلسطينية، ساندت النظام الأسدي في حربه الشعواء ضد الشعب السوري. بموازاة ذلك جرى العمل الحثيث، على تغييب حقائق انخراط النسبة الأكبر من فلسطينيي سورية، في الحراك الثوري بمختلف أشكاله. وما دفعوه نتيجة ذلك من تضحيات كبيرة ومعاناة شديدة، فاقت في بعض الأحيان معاناة شركائهم السوريين.
من مقلبٍ آخر راقَ لشخصيات وأطراف من المعارضة السورية، لديها ارتباطات وحسابات خاصة، تعميم صورة سلبية عن الفلسطينيين، واستغلالها كذريعة لتغطية تقاربها مع الكيان الصهيوني، من وحي أوهامها بأن استرضاء الأخير هو بوابة الخلاص من نظام الأسد، وتمكينها من صعود سلالم السلطة بعد سقوطه. ثمة عوامل أخرى ساعدت على عزل فلسطين عن عمقها العربي، من أبرزها انطلاق قطار التطبيع كأحد منجزات صفقة القرن، وترويج أطروحات معادية للفلسطينيين، كالقول بأن قضيتهم مسألة تعنيهم لوحدهم، وقد أصبحت عبءً على الدول العربية ينبغي التخلص منه. وقد استلهم هذا المنطق التطبيعي مبرراته، من وجود سلطة فلسطينية تنسق مع الاحتلال أمنياً، بدلالة توقيعها قبل الآخرين على اتفاق أوسلو، ولذلك حسب زعمهم لن يكونوا ملكيين أكثر من الملك.
على ضفاف تلك التحولات العربية، كان الوضع الداخلي الفلسطيني، يكشف عن أزمة وطنية بنيوية حادة، من أهم تداعياتها المتطاولة، استحالة الشعب الفلسطيني المشتت بين الداخل والخارج، إلى مجتمعات متباعدة ومنفصلة، لا مرجعية وطنية توحد بينها، فيما يواجه كل منها قضاياه ومشكلاته، كجماعات يخضع كلٍ منها لسلطات مختلفة. منها من يستفرد به الاحتلال الصهيوني وسياساته العنصرية، ومنها من جعله الانقسام الفلسطيني، يعيش بين سلطتين فلسطينيتين متصارعتين في الضفة وغزة، ومنها من يقبع تحت حكم وفروض الأنظمة العربية، عدا من ينتشرون في المنافي البعيدة. كانت طبيعة استجابات الفلسطينيين عموماً مع النكبة الثانية لفلسطيني سورية، التي تسبب بها النظام السوري، المثال الأكبر على غياب ناظم وطني، يدافع عن وجودهم الذي تعرض للتفكك حد الانهيار، ما جعلهم يفقدون الثقة بكل مرجعياتهم الفصائلية، وممثلهم الشرعي منظمة التحرير الفلسطينية.
في حين أن كافة المحاولات والمبادرات الفصائلية، التي كان عنوانها إنهاء حالة الانقسام الداخلي، وإصلاح البيت الداخلي الفلسطيني، كانت تذهب أدراج الرياح، بفعل تمسك الطبقة السياسية المُسيطرة، على مفاتيح القرار الفلسطيني، بمصالحها الشخصية والحزبية والجهوية، على حساب أولوية إنقاذ المشروع الوطني الفلسطيني، من التراجع والتدهور الذي ألمَّ به، منذ أن تكشفت النتائج الكارثية لاتفاق أوسلو، الذي أسهم في تجزئة وحدة وحقوق الشعب الفلسطيني، وتحويل مؤسسات السلطة الفلسطينية، إلى وكالات خدمية وأمنية تنوب عن الاحتلال، في إدارة شؤون السكان في الضفة الغربية. كانت حقبة أوسلو ذات الباع الطويل في المفاوضات العبثية مع الاحتلال، وفي استغلاله من قِبل حكومات العدو لتوسيع مشاريع استيطان وتهويد الأرض الفلسطينية، والتضييق على حياة الفلسطينيين، وسلب المزيد من أملاكهم وأراضيهم، من أسوأ المراحل التي مرّت على الشعب الفلسطيني، سواء بالنسبة للداخل الفلسطيني، أو فيما يتعلق بأوضاع اللاجئين في الخارج.
بدلاً من بناء مسار حقيقي لتغيير المشهد الفلسطيني، وتبني رؤية استراتيجية جديدة، تستنهض طاقات الشعب وتعيد تنظيم صفوفه، على قاعدة التمسك بحقوقه الوطنية، لمواجهة سياسات الاحتلال الغاشمة من جهة، وإصلاح المؤسسات الفلسطينية على أسس ديمقراطية من جهةٍ أخرى. كشفت مسرحية الانتخابات الفلسطينية، التي كانت حصيلة حوارات وتوافقات الفصائل في نسختها الأخيرة، بعد سنوات الانقسام الطويلة والفرص الضائعة، والتي قام أبو مازن بتأجيلها لاحقاً بعد أن اتضح أنها ستؤدي إلى خسارته في حال إجرائها، مبرراً ذلك برفض الاحتلال السماح بمشاركة أهل القدس. عن حالة استياء كبيرة في الأوساط الفلسطينية، من مجمل النظام السياسي القائم، وعجزه عن معالجة الأزمة الوطنية المزمنة، وهروبه إلى الوراء في الوقت الذي لم يعد ممكناً إرجاء التغيير الوطني المطلوب. ما أثار غضب وتبرم مجتمعات الداخل الفلسطيني، ومجتمعات اللاجئين، حيال واقع العجز والفشل الذي يعصف بالواقع الفلسطيني بلا هوادة.
في ظل هذا المناخ الضاغط، كانت حكومة نتنياهو تتوغل في استباحة حقوق أبناء القدس، وتسرّع استكمال خطواتها لتهويد المدينة، وقد أطلقت يد المستوطنين لاستفزاز أهالي المدينة المقدسة. بالتزامن مع قرار محاكمها بإخلاء قرابة 500 فلسطيني من سكان حي الشيخ جراح، وقد ردَّ أهالي الحي على محاولة سلب بيوتهم، برفض ومواجهة تلك الإجراءات العنصرية والتعسفية، بوقفات واعتصامات سلمية، سرعان ما اتسعت بعد أن انضم إليها أبناء الأحياء المقدسية الأخرى، والمتضامنين معهم من بلدات ومدن الداخل الفلسطيني. وأصبحت ساحات وباحات المسجد الأقصى خلال شهر رمضان المبارك، عنواناً ومعتركاً لهذه المواجهة الوطنية بكافة أبعادها العربية والاسلامية، والتي شَخصت إليها أبصار العالم، مع تصاعد زخمها الشعبي العارم. قام الاحتلال كعادته باستنفار جنوده ومستوطنيه، بهدف إسكات صوت المقدسيين، لكنه كلما تمادى في اعتداءاته على المرابطين في المسجد الأقصى، كانت تتم مواجهته من المقدسيين العزل، بالصمود والثبات والإصرار على إفشال مخططه بالاستيلاء الممنهج على حي الشيخ جراح. هكذا تحول المسجد لاسيما في الأيام العشرة الأخيرة من رمضان، إلى ساحة رباط وتحدي وعنفوان، في صلوات وأدعية القابضين على مقدساتهم وأرضهم وحقوقهم. وجاء الرد على تهديدات المستوطنين باقتحامه، باعتكاف المرابطين في المسجد أناء الليل وأطراف النهار، ما دفع القوات الصهيونية لاقتحام الأقصى وتدنيس حرماته يوم الاثنين الموافق 9/5/ 2021، قبل ساعات من استعدادات المستوطنين لدخوله في اليوم الذي يزعمون زوراً وبهتاناً أنه ” يوم توحيد القدس”. أسفر الاعتداء الصهيوني على المرابطين الصامدين من النساء والأطفال والشيوخ والشباب، إلى إصابة المئات بالرصاص الحي والمطاطي وبالقنابل الدخانية، وكل ذلك كان يجري على مرأى ومسمع العالم أجمع. لم يدر في خلد الاحتلال البغيض، أن الأقصى سيكون الشرارة التي ستفجر خوابي الغضب والعنفوان الفلسطيني، وأنه سيعيد ضخ دماء الثورة والمقاومة في نفوس أجيال فلسطينية، لم تعد تحتمل عنصرية وحقد الاحتلال الفاشي وقطعان المستوطنين العنصريين.
لبى نداء المقدسيين أخوتهم الغزيين بمقاومتهم الباسلة، فيما هبّت جماهير الداخل الفلسطيني في أغلب بلدات ومدن فلسطين المحتلة منذ العام 1948، تضامناً مع أهالي القدس والأقصى المبارك، لتفاجئ المحتل وحكام العرب، بأنها وبعد أكثر من سبعين عاماً على سياسات الأسرلة والتهويد والتمييز العنصري بحقها، بقيت فلسطينية الانتماء والقلب والهوى. في حضرة هذا المشهد الملحمي الذي طال انتظاره، وقد أخذ يدوي صداه في مخيمات اللاجئين، وفي دول المنافي التي يتوزعون عليها، انبلج فجر فلسطين الثائرة من بحرها إلى نهرها في مواجهة الصلف والغطرسة الصهيونية، وعادت قضية الشعوب العربية المركزية في وجدان الأمة. وكما رفع أبطال الأقصى علم الثورة السورية إلى جانب علم فلسطين، وأنشد أهالي القدس أناشيد الساروت، تأكيداً على وحدة المعركة والمصير، التي تجمع كل طلاب الحرية والخلاص، من قوى الاحتلال والطغيان. قام السوريون الأحرار بوقفات التضامن والعزة مع أهلهم في فلسطين، واستعادت الشعوب العربية والإسلامية، الأمل والثقة بالنصر وهي ترى المارد الفلسطيني ينفض عنه غبار الانقسام والتشتت والعجز.
بزغ الربيع الفلسطيني الموعود، في أعتى لحظات اليأس والانسداد، وأسقط بجوابه القاطع، كل مشاريع ومحاولات فصل فلسطين عن عمقها العربي التحرري، وكشفَ نفاق وزيف من كان طريقهم للقدس يمر عبر جماجم السوريين في القصير وحلب ودير الزور، فلا طريق لتحرير فلسطين إلا بقيامة أهل فلسطين، وبخلاص الشعوب العربية من أنظمتها المُستّبدة والفاسدة، واليوم تتضح هذه الحقيقة في أبهى تجلياتها.