د. مخلص الصيادي
المدخل الذي بدأ فيه الكاتب مقاله ـ وهو مرفق في ختام العرض ـ يحمل إشكالية المقال كله، حتى يكاد يهدر ما في المقال من جوانب صحة وحرص وضرورة.
يبدأ المقال بقوله: “لعل أكثر ما أساء، وما زال يسيء إلى القضية الفلسطينية هو وضعها في مرتبة المقدس، الأمر الذي يحشرها في رؤية محددة لا تستطيع مغادرتها، ويمنع فرصة نقاشها بصورة عقلانية، بحكم الرهاب الذي يثيره كل مقدس”، والحديث عن المقدس هنا حديث يخص القضية نفسها، وليس المقاومة الفلسطينية، ولا أساليب النضال، ولا ظروفها، ولا السياق التاريخي لها، وما يفرضه هذا السياق من مقاربات، الافتتاحية تخص بالتحديد القضية الفلسطينية، وعقب هذا التحديد الواضح يعرج على المقاومة وآلياتها واشخاصها … الخ، التي استجرت قدسيتها من قدسية القضية نفسها أي أنها قدسية بالتبعية وليس بالأصالة، ويطالب بإنزال القضية من مرتبة القداسة إلى مرتبة السياسة، ف ” النزول بالقضية الفلسطينية من القداسة إلى السياسة يعني أنه ينبغي للقضية الفلسطينية ألا تثير رهابا لكل من يريد مناقشتها خارج دائرة الرؤية السائدة أو المهيمنة”.
ومن هذا المدخل الواضح والصريح يريد أن يجرد القضية الفلسطينية من بعدها الديني ومن روحها الجهادية، ويتركها في إطار المفهوم السياسي، أي أنه لا يرى تكاملا بين المفهومين ويكاد يضعهما على طرفي نقيض.
هو لا ينكر قدسية المسجد الأقصى، لكن يرى ـ وهو محق جزئيا ـ أن القضية الفلسطينية أكبر من المسجد الأقصى، لكنه لم ينتبه أن” القدسية” لا تقتصر على المسجد الأقصى وإنما تمتد لتشمل فلسطين كلها، وهي قدسية بالمعنيين الديني والسياسي.
مهم هنا أن ننبه إلى الفارق الجوهري بين القضية وحاملها، بين الفكرة ومن يمثلها ويقوم عليها، فقضية فلسطين وقضية الأقصى قضية مقدسة، ومفهوم مقاومة الاحتلال مفهوم مقدس، لكن العاملين في إطاره، والملتزمين به ليسوا مقدسين، إنهم بشر يخطئون ويصيبون، يعملون وفق برامج سياسية ووفق ايديولوجيات محددة قد تكون محل توافق أو اختلاف، وانتقاد الأشخاص والأحزاب والحركات العاملة في إطار “القضية المقدسة”، وانتقاد البرامج والأفكار أمر طبيعي بل هو أمر مطلوب، ومن مظاهر الصحة أن يكون العاملون في إطار “القضية المقدسة” أكثر المرحبين بالنقد والمراجعة.
فلسطين قضية مقدسة أرضها وقدسها، وتحريرها فريضة دينية ووطنية وقومية، لكنً حماس، والجهاد الإسلامي، وفتح والجبهات الشعبية… الخ، ليسوا مقدسين، وليسوا فوق النقد، بل إن نقدهم واجب، ووضعهم تحت مجهر التمحيص ضروري ومطلوب، خطؤهم وارد. ما دام هذا النقد يستهدف أن يحققوا بشكل أفضل وأكثر فاعلية وأسرع، الهدف المبتغى وهو تحرير فلسطين، تحرير “المقدس”.
هذه التفرقة والتمييز بين القضية وحامليها مهم جدا ونحن نقرأ مقال حازم نهار، لأنها تفكك هذا المقال، وتتيح المضي مباشرة إلى ما يحتويه المقال من أخطاء بل وخطايا في النظر إلى أهم قضية جمعت العرب والمسلمين وتجمع العالم معنا، ليس الآن وإنما منذ وقت مبكر.
وأذكر هنا كيف أن دول العالم، وضميره، استطاع أن ينتزع من الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1975 قرارا تاريخيا باعتبار “الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية والتمييز العنصري”، ما يوجب على العالم التصدي لها، وذلك قبل أن تغتال وتشطب الإدارة ألأمريكية هذا القرار بقرار آخر في 16 ديسمبر 1991 ، استخدمت لإصداره كل وسائل الضغط والإكراه، وما كان لمثل هذا القرار الجديد أن يصدر من الجمعية العامة للأمم المتحدة لولا أن الدول العربية كانت قد غادرت مواقع المواجهة، وسلمت زمام أمرها للولايات المتحدة، وخَلَت بمجموع دول العالم الثالث والدول الصديقة التي كانت قد دعمت القرار السابق، وجلست مجتمعة مع العدو الصهيوني فيما سمي بمؤتمر مدريد للسلام في 30 أكتوبر 1991.
وقوف العالم معنا لم يأت نتيجة استجداء الموقف، ولا نتيجة المؤتمرات والعمل الإعلامي والدعائي، وإنما نتيجة المقاومة والمجابهة والجهاد، وفي إطار هذه المواجهة وهذا الجهاد تم توظيف العمل الدبلوماسي والإعلامي لتثمير نتائج تلك المواجهة. في ذلك الوقت كسبنا نحن الراي العام العالمي، وكسبنا مواقف الكثير من الدول، وجاءت هذه المكاسب نتاج موقفنا النضالي وجهدنا والدم الذي سال دفاعا عن قضايانا، فكيف نستسهل القول بأنه لم نستطع يوما أن نكسب الراي العام العالمي.
العالم لا يفهم إلا معادلة “القوة والمصلحة”، ومن خلال القوة والمصلحة يمكن أن يُستنهض الرأي العام العالمي، ويمكن أن تُستنهض تتغير مواقف الدول، ويمكن أن يتم الحشد الشعبي حول قضايانا.
نستذكر هنا أن انطلاق الحوار “العربي ـ الأوربي” تم على خلفية حرب أكتوبر 1973، وما تم فيها من استخدام لسلاح النفط، وعقد الجانبان العربي والأوربي في أجواء من التفاؤل جلسات عديدة ودورات للحوار متتالية، لكن كل ذلك ذهب أدراج الرياح حينما تراجع خيار المواجهة عند الجانب العربي، وسلم زمام أمره لواشنطن، فباتت قوة المواجهة العربية معدومة، والحاجة الأوربية للحوار أيضا معدومة بعد أن تخلى النظام العربي عن الأسلحة التي كان يمتلكها.
هل هناك رهاب من “قدسية قضية فلسطين”، كما يشير صاحب المقال، تساؤل مهم، لكن يجب أن يسبقه سؤال عن مفهوم الرهاب، إذ الرهاب “الفوبيا” حالة مرضية تمنع المصاب بها من النظر إلى الأمور نظرة موضوعية، وتجعله في حالة خوف غير منضبط إزاء موضوع معين، وتحمل الموضوع نفسه ما ليس فيه مما يجعل أثره في النفس والسلوك على غير حقيقته، وتجعل التصرف تجاه الموضوع نفسه تصرفا غير سوي، وكمثال على ذلك مما بات شائعا ولا يحتاج إلى شرح الفوبيا الغربية من الإسلام” الإسلام فوبيا”، فهل “قدسية” القضية الفلسطينية تبعث حالة من “الفوبيا”.
هناك فارق جوهري بين الرهاب والرهبة، فللقضية الفلسطينية رهبة عند كل العرب والمسلمين، بل والضمير العالمي، لأنها تمس قضايا جوهرية لدى مختلف هذه المستويات فهي:
“قضية دينية، وقضية وطنية، وقضية قومية، وقضية تحرر، وقضية مواجهة مع العنصرية والتمييز العنصري، وقضية عدالة، وقضية قيم إنسانية”، ولكل إنسان على وجه الأرض أن يحدد موقفه من القضية الفلسطينية انطلاقا من الأرضية التي يقف عليها.
لا يضيرنا أن يقف ابن جنوب أفريقيا مع القضية الفلسطينية فقط من زاوية أنها قضية تمييز عنصري كتلك التي واجهها مع العنصرية البيضاء في بلاده.
ولا يضيرنا أن تقف منظمات المجتمع المدني الغربية مع القضية الفلسطينية التي ترى في السلوك الإسرائيلي تجاهها شكلا من أشكال الاعتداء على حقوق الانسان، وشكلا من أشكال العنصرية.
ولا يضيرنا أن تقف القوى الاجتماعية التحررية في أصقاع الدنيا مع قضيتنا لأنها ترى أنها قضية تحرر وطني فحسب.
ولا يضيرنا أن يعتبرها المسلم في ماليزيا أو البيرو قضية دينية وأن واجبه الديني يدفعه للوقوف معها.
كل هذه المواقف حقيقية وممكنة ومفيدة لأن القضية الفلسطينية تستوعبها كلها، وتتجسد فيها كلها، وتختزن قيمها المتعددة الوجوه، أما بالنسبة لنا نحن أصحاب القضية فمن الواجب أن يختزن موقفنا إزاءها الأبعاد السابقة كلها مجتمعة، وأي تفريط أو إغفال منا لأي من هذه الأبعاد إنما يدل على أننا نهدر بعضا من عناصر قوة هذه القضية. وبالتالي لا يقبل من أحد منا أن ينظر إلى القضية من خلال بعد واحد من تلك الأبعاد، ففي ذلك ضرر كبير بنا.
ولأن القضية الفلسطينية تختزن كل الأوجه السابقة فإن الاقتراب منها له رهبة، أي أن الانسان الذي ينتمي إلينا: فردا كان أم منظمة، أم دولة، يجب أن يتنبه وهو يقترب منها إلى الوجوه السابقة كلها، ويجب أن يدقق في أن هدفه من الاقتراب منها أن يوفر لها أفضل وأسرع السبل لتحقيق هدف تحررها واستعادتها.
القول ب”الرهبة” حقيقي تجاه القضية الفلسطينية، بل هو واجب، لكن الحديث عن “الرهاب” مصطنع وغير حقيقي، وقد يتخذ الحديث عن الرهاب سبيلا للتحلل من هذه القضية ولإدخالها نفق المساومات الذي مضى به النظام العربي بعيدا، حتى كاد أن يضيع معالمها، ولو دققنا النظر لاكتشفنا بدون جهد كبير أن التطاول على هذه “القضية المقدسة” هو السائد في سياسات العديد من الدول العربية القائمة وفي كتابات العديد من المهتمين بالشأن العام وبصناعة الرأي العام، وأن هناك استهتار حقيقي وليس تقديس في تناول هذه القضية.
نحن نعاني من حالة تفريط وتسطيح واستهانة بهذه القضية الجوهرية، وما يجب أن نبذل الجهد لأجله هو إعادة القدسية لها، لا رفع هذه القدسية عنها، إعادة الإحساس بأنها قضية كل الأمة، وبأنها تختزن كل قيم الأمة، وكل معاناتها، لا أن ندعو إلى “تحريرها” من المقدس.
في المقال وقفة عند الخسائر البشرية، خسائر الناس والمقاومة في المواجهات الجارية مع العدو الصهيوني، وإشارة إلى الاستهانة بالدم الوطني، حيث يشير الكاتب إلى فداحة الخسائر البشرية على الجانب الفلسطيني وضآلتها على الجانب الإسرائيلي، كذلك يرفع شعار أن العنوان الرئيس والهدف الأسمى عند الجميع يجب أن يكون شعار “الانسان أولا”.
والحق أن طرح شعار “الانسان أولا” والحديث عن الخسائر البشرية والمقارنة مع خسائر العدو، طرح من الناحية المنهجية والتاريخية فيه اختزال خاطئ ومعيب.
إذ أن تحرير الوطن كان دائما يهدف إلى تحرير الانسان، تحرير المواطن، وجعل هذا الوطن ميدانا رحبا لأهله، ومن أجل هذا الهدف تدفع أثمان عالية، وتهون معها هذه الأثمان.
بمنطق هذا المقال ـ الخسائر البشرية المقارنة، وضمان تحقيق النصر ـ كانت كل الثورات التي شهدها الوطن العربي، ولم تنجح في تحقيق أهدافها، ثورات خاطئة: ثورة عبد القادر الجزائري، ثورة عبد الكريم الخطابي، ثورة أحمد عرابي، ثورة القسام، الانتفاضات والثورات الفلسطينية المتعاقبة، كلها دُفع فيها دم غزير وعزيز، ولو كان الأمر يحسب على النحو المشار إليه لكان يجب أن ندين هذه الثورات وقياداتها، والذي درس تاريخ هذه الثورات أو اطلع على بعضه، لوجد مثل هذا المنطق قد طرحه من قبل أولئك الذين وقفوا ضد هذه الثورات من أبناء الوطن نفسه، إذ اعتبروا هذه الثورات إهدار للطاقات وللدم الوطني وللثروات الوطنية، وأنها لا تجدي في مواجهة القوة الغاشمة للمحتل، ودعوا إلى طريق آخر، يجنب “الوطن وأبناءه”، هدر الإمكانات المادية والبشرية، وفي المنظور القصير صدقت الوقائع رأيهم هذا. لكن ما هكذا يفهم مسار الثورات، وما هكذا تنظر الشعوب إلى تاريخها. ولا يكلب من الثوار والمجاهدين أن يضمنوا تحقيق النصر لثورتهم، لكن يطلب منهم إحسان التخطيط. وإعداد العدة، وحسن اختيار اساليب الحركة، وتأمين الحاضنة الشعبية التي تمثل الحماية الحقيقية للثورة والثوار، والمدد الحقيقي لهم في احتياجاتهم الأساسية، لكن عوامل عديدة تدخل في الصراع لتحدد نتائجه، وليست كلها مما يمكن حسابه.
لمن شاء أن يتساءل عن “جدوى تدخل حماس بصواريخها على خط الصراع الحالي في القدس”، مستنكرا أو مستهجنا، وله أن يحسب نتائج هذا التدخل، في الساحة الفلسطينية والعربية والدولية، لكن في هذا المجال تحديدا يجب أن يتذكر كل منا أن القضية الفلسطينية واحدة، وأن القطاع، والقدس، والضفة، وفلسطينيي وأراضي 48 هم مكون واحد، جسد واحد، وأرض واحدة.
“الانسان أولا” شعار حقيقي وإعلاؤه مهم في هذه المرحلة بالذات التي تشهد تدمير الانسان على يد أنظمة القهر والاستبداد والطائفية في العديد من الأقاليم العربية وفي المقدمة منها سوريا حيث ارتكب ويرتكب النظام هناك جرائم يسابق فيها جرائم العدو الصهيوني، لكن هذا الشعار يجب أن يرفع بمعناه الحقيقي، معناه النضالي الإنساني، وليس معناه الذاتي المشوه والانهزامي، لا يجوز أن نسمح بالمقايضة بين حرية الانسان، المواطن، وحرية الوطن، بين تحرير الانسان وتحرير الوطن، فهذه مقايضة بائسة على الجانبين، سواء اخترت الإنسان أو اخترت الوطن، لأنك في حقيقة الأمر تكون قد خسرت الأمرين معا.
هل صحيح أن مسيرتنا السابقة كانت كلها هزائم، وهل صحيح أننا نتيجة هذه المسيرة ازددنا تقزما وازدادت إسرائيل تعملقا، لذلك “فكلنا مدانون”، كما يقرر صاحب المقال، وهل النتيجة التي يصل إليها بأن الأمر “يستوجب التشكيك بصوابية الخيارات المتخذة على مستوى الخطاب والأداء”، نتيجة صحيحة ؟!.
مريح للبعض أن يستند إلى هذه الخلاصات، ويستقيل من القراءة الواعية للأحداث ولمسار طويل من نضال هذه الأمة، ثم يستدير ليلتقي ويندمج بحركة مزدهرة على المستوى العربي كله، ترى ضرورة مراجعة خيارات العرب كلها، “الدينية والقومية والاجتماعية” في مسعى لإدارة الظهر للمرحلة السابقة، و لإحداث اندماج مع اتجاه العولمة سياسيا واقتصاديا وأخلاقيا، وهذا مطلب أمريكي قديم نادى به تيار المحافظين الجدد بشكل مبكر، وقد سمعنا من مسؤولين في الإدارة الأمريكية عزمهم على جعل العرب يعيدوا تقييمهم لتاريخهم ومعاركهم، بما يتوافق مع النظرة الأمريكية، التي تدين كل هذا التاريخ وتعتبر أنه كان بمثابة إضاعة للوقت والجهد والفرص.
أي أنهم يريدون – وفق تعبير استخدموه – أن نتقيأ تلك الثقافة وتلك النظرة لمعاركنا وتاريخنا، ورجالاتنا، لصالح رؤيتهم وثقافتهم، وقيمهم وحلفائهم وأتباعهم أيضا.
لكن الأمر لم يكن على هذه الشاكلة أبدا، ما نحن فيه الآن على مختلف الصعد ليس نتاج سياسات قوانا التحررية الثورية والجهادية، وإنما نتاج الردة التي شهدتها أمتنا منذ أن سلمت زمام أمرها لواشنطن، ووضعت أوراق القضية كلها بيدها، ولإن اختصرت المعركة مع العدو الصهيوني كل جوانب الردة، إلا أنها لم تكن مقتصرة عليها.
لقد شملت الردة تغييرا في القوى الاجتماعية لصالح قوى طفيلية فاسدة، وتفكيكا للاقتصاد الوطني لصالح رأسمالية متخلفة مرتبطة، وتفتيتا لمعنى ومفهوم الأمن القومي العربي لصالح التحاق وتبعية بسياسات غربية أطلسية ليس للعرب والأمة العربية صلة أو مصلحة فيها.
لقد حصل انقلاب حقيقي على حركة النضال العربي، ولقد أصاب هذا الانقلاب كل زاوية من زوايا حياتنا، وكل استهداف عملت أمتنا من أجله.
لا نقول هذا إخلاء للمسؤولية، فلا شك ما كان يمكن للقوى المضادة أن تنفذ وأن تنتصر لولا عيوب فينا، لكن نقول ذلك لنؤكد أن العيب لم يكن في الأفكار والاستهدافات التي ارتضتها حركة الأمة ونضالاتها، وبالتالي ليس مطلوبا مراجعة هذه، وإنما مراجعة وضعنا وقوانا وبرامجنا لنرى من أين دخل علينا الخلل.
وأنا أدقق النظر في المقال أثارني الاعتراف ” بأن إسرائيل قد أخذت “شيئا من حضارة الغرب وتقدمه على مستوى إدارة الدولة بشكل خاص”، وجاء هذا الاعتراف وكأنه يسجل ” موقفا موضوعيا” إزاء إسرائيل، التي جمعت في بنيانها “الحداثة والهمجية” بآن، ولم افهم تماما ما المراد بهذا الاعتراف، ولعلي لا أريد أن أفهم هذا المراد، لكني أتساءل ما الذي قدمته قيم الحداثة التي كانت تتمتع بها “العنصرية البيضاء” في جنوب أفريقيا وهي تدير تلك الدولة للمؤتمر الوطني الإفريقي، حتى نستشهد بهذه القيم في معرض ما يتمتع به الكيان الصهيوني من مظاهر إيجابية.
هل من الضروري أن نستذكر هنا أن “إسرائيل” جزء من الغرب الاستعماري، هكذا هي منذ أن كانت مشروعا إلى أن قامت كيانا، وقد وفر الغرب الاستعماري لها ووضع فيها كل ما توفر ويتوفر له من عناصر قوة مادية وعلمية لتحقيق أسوأ ما في ذلك الغرب من قيم ومفاهيم وسلوكيات، فأين هي الحضارة في “إسرائيل”؟!.
ثم لماذا يعتبر أن “المسألة اليهودية: تخصنا، ويريد منا نحن أن نقدم حلا لها، فالمسألة اليهودية ليست صناعتنا ولا بضاعتنا، وليست قضيتنا، تاريخيا لم تكن كذلك، وراهنا لم تكن كذلك، وفي جعبة الفكر والنضال العربي الكثير من الرؤى لفلسطين المستقبل، فلسطين باعتبارها وطنا للفلسطينيين جميعا، تنتمي لأمتها العربية وتحافظ وتصون المقدسات فيها الإسلامية وغير الإسلامية، هكذا كانت من سابق، وليس أمامها مستقبلا غير هذا السبيل، لكن هذا السبيل يستكمل آفاقه في مسار حركة النضال نفسها، وفي هذا المسار لن يبقى في فلسطين إلا من ينتمي إليها، القضية هنا ليست قرارا أو موقفا وإنما مسارا تاريخيا رأيناه في سابق تاريخنا “الصليبيون”، ورأيناه في مسار مجتمعات أخرى مرت بتجربة النظم العنصرية والجماعات الاستيطانية المستوردة “جنوب أفريقيا”.
في المقال استشهاد بحديث سابق للقيادي في حماس “محمود الزهار” يشير فيه إلى أن القضية الفلسطينية جزء من قضية عامة تراها حماس وتلتزمها، وهي تمتد لتشمل أفقا أرحب من فلسطين.
والحق أنني لم أتبين معنى هذا الاستشهاد، إذ لا يمنع بأي حال أن يكون للإنسان أو للتنظيم الذي ينتمي إليه هدف أعلى، وأن تكون له رؤية بعيدة، أبعد من الهدف الذي يناضل من أجله راهنا، شريطة أن يلتزم بهذا النضال ويعمل من أجل هذا الهدف.
الحلم غير ممنوع، سواء اتفقنا معه في هذا الحلم أم اختلفنا، وسواء كان هذا الحلم خياليا محضا، أم كان بعيد المنال، أو حتى مستحيلا في ضوء الظروف المرئية، نحن لا نحاكم الآخرين أفرادا وتنظيمات على أحلامهم، وإنما على برامجهم واستراتيجياتهم. وحركة الحياة وتطوراتها كفيلة بأن تصحح تلك الأحلام أو تحولها إلى إطارات واقعية، أو تحكم على أصحابها بالخيبة والاندثار.
مجددا يجب التأكيد على أن ” القضية الفلسطينية” قضية مقدسة، دينيا ووطنيا وقوميا وانسانيا، وعلينا أن لا نفرط في أي وجه من هذه الأوجه، وأي تفريط فيه هدر للطاقات وتفتيت للإمكانات، وإضعاف للجهد.
“والقضية الفلسطينية” قضية شعب واحد وأرض واحدة، من البحر إلى النهر، أثبتت أنها عصية على التجزئة، والتفتيت، وأنها تختزن في عمقها كل تجلياتها المشار إليها.
والمعركة التي يخوضها الشعب الفلسطيني اليوم في القدس والضفة وفي أراضي 48 وفي غزة معركة واحدة، وهي ليست الأولى ولن تكون الأخيرة. تتشرف بها الأمة كلها، وهي محفزة للضمير الإنساني في كل مكان، واستطاعت أن تثبت مجددا أن سبيل المقاومة هو السبيل الأقرب لتحقيق النصر، والطريق الأقصر والأقل تكلفة، ونحن مدعوون لنصرة هذا الطريق بكل ما يتوفر لدينا من إمكانات، ومن وجوه هذه النصرة أن نكشف الأخطاء الذي قد تقع فيها قوى المقاومة نفسها، شريطة أن نفعل ذلك من داخل معسكر المقاومة، وليس من خارجه، بالانتماء إليها وليس بالعزلة عنها، بالافتخار والاعتزاز بها وليس بالتعالي عليها.