مصير – أمجد العربي
همجية أسدية لم يسبق لها مثيل، عبر تواريخ البشرية المتتابعة، محرقة تترية بربرية فاقت كل حد، وصمود مدني وعسكري لأهلنا في الغوطة الشرقية، سطره ويسطره التاريخ بأحرف من نور، سوف نعلمه لأبنائنا، ولكل الأجيال التي ستأتي، سيعرفون أن شعبًا أبيًا خرج يومًا ما، وفي لحظة زمنية بعينها، ليقول لا للمستبدين، لكن المستبد ومن جاء معه من سفالات العالم، وكل الاجرام واللصوصية، والعهر، الإيراني تارة والروسي تارة أخرى، بل وكل ميليشيات الحقد الطائفي، جاؤوا جميعًا ليقتلوا أهلنا في الغوطة ويهجروا ما بقي منهم، تهجيرًا قسريًا، لا يوجد على شاكلته في كل بقاع الدنيا. لقد كانت أيام لا تنسى، وحالات لا يمكن وصفها، لكن الذي حصل أن العالم المتخاذل، ترك أهلنا يلقون المصير الأصعب.
عن كل ذلك ومثله حاولنا الوقوف مع الطبيب الدكتور عدنان بكيرة الناشط السياسي وابن حرستا البار، لنستمع إليه بما يخص الآن وأيضًا المستقبل، وعن الأخطاء، والأمل كل الأمل بمستقبل آخر لابد أن يكون أفضل، سألناه فأجاب، واستوقفناه فباح لنا بما عنده:
س_ بعد كل ما جرى وهذا التهجير الذي حصل في حرستا.. كيف تقرأه.. وماذا تحدثنا تفصيليا عن الذين سيبقون في حرستا.
ج _ ربما من المفيد قبل الإجابة أن نلقي الضوء على سكان المدينة. ففي بداية عام 2011 وصل عدد سكان حرستا إلى أربعمئة ألف نسمة، نسبة أهل حرستا بينهم أقل من 20 بالمئة، بسبب الهجرة إليها في العقود الأخيرة. يعمل معظم الأهالي بالزراعة وتعتبر شجرة الزيتون رمز للمدينة.
كان أهالي حرستا حاضنة قوية للثورة إذ كانت المظاهرات اليومية تجوب المدينة، واعتبرت حرستا قاعدة للعمل الثوري السلمي في ريف دمشق، من خلال تطبيق مفهوم المجالس المحلية والمساهمة بانتشار هذه الفكرة إلى عموم الريف الدمشقي من خلال نشطائها المميزين وعلى رأسهم الشهيد محمود مرشد المدلل (أبو مرشد).
لم يفكر الأهالي بإمكانية حصار مدينتهم أو تهجيرهم بسبب تميزهم بالعمل السلمي، إضافة للكثافة السكانية الشديدة والتعدد الطائفي الذي تمتاز به، ففي حرستا كنائس قديمة وسكان محليين مسيحيين، وتواجد كبير للطائفة العلوية بسبب توافد الكثير من عائلات أهل الساحل إلى حرستا بعد تولي حافظ الأسد للسلطة، إضافة إلى الشركس والأكراد والفلسطينيين الذين نزحوا إلى حرستا بعد نكبة فلسطين.
إلا أن جيش النظام هاجم حرستا في 2012 بكل أنواع الأسلحة، بعد أن عجز عن إخماد المظاهرات المدنية، مما أدى لنزوح الغالبية العظمى من السكان الوافدين، ولم يبقَ في المدينة إلا بضعة آلاف من أهل البلد الذين رفضوا فكرة النزوح والهجرة، عاشوا تحت الحصار وافتقدوا لكل خدمات الدولة من ماء وكهرباء وغيرها، عدا عن القصف اليومي والقنص اليومي وتضييق كل سبل الحياة، واستطاعوا الصمود من خلال المؤسسات المدنية التي بنوها من مجلس محلي ومكتب للخدمات ومكتب طبي ولجان نظافة وإسعاف وإطفاء وغيرها، إضافة للمؤسسات الثورية العسكرية لحماية الأهالي من اقتحام النظام وويلات القتل والاعتقال.
شنّ النظام خلال الشهر الحالي حملته الهمجية على حرستا وباقي مدن الغوطة الشرقية ودمّر مالم يدمّره خلال سنوات الحصار، واستهدف كل المؤسسات المدنية بما فيها مطابخ الإغاثة والمكاتب الطبية لزيادة الضغط على المدنيين، عاش الناس بالملاجئ وتوقفت كل الخدمات، وانتشر الذعر الشديد من التشرد والاعتقال والموت في ظل انعدام الحد الأدنى من التكافؤ العسكري بين القوة المهاجمة والأسلحة الخفيفة لشباب الثورة. ما أدى إلى خروج الكثير من العائلات إلى مدن مجاورة في الغوطة أو هروبهم إلى مناطق النظام وتناقص عدد العائلات في حرستا خلال الشهر الجاري من 3500 عائلة إلى 2300 عائلة. وهذا ما دفع بالثوار العسكريين ومن يرغب من المدنيين للموافقة على الخروج إلى الشمال السوري مقابل ضمانات روسية بعدم التعرض للأهالي الراغبين بالبقاء، وضمانات بعودة الأهالي المهجرين داخلياً لحرستا.
سيتم خروج 8000 شخص من الأهالي إلى إدلب على خمس دفعات، من بينهم الثوار المسلحين والقيادات المدنية للمدينة، أي لن يبقى إلا كبار السن والعجزة، فالشباب تخاف من الاعتقال أو التجنيد في جيش النظام، والعائلات تخاف الاعتقالات الجماعية في مراكز الإيواء، والثقة شبه معدومة في نظام دمّر 90 بالمئة من المدينة وشرّد شعبها على مدى السنوات الماضية.
خرج ويخرج وسيخرج الأهالي وهم يجهلون المستقبل في تغريبة يندى لها جبين الإنسانية.
س _ وكيف استطاع النظام أن يقسم الغوطة ويستفرد بكل بلدة على حدة ثم يوقع هذه الاتفاقات.؟
ج _ استطاع النظام ذلك ليس بسبب أن الناس هربت من قبضة الإرهابيين كما يشيع في إعلامه، وليس بسبب هزيمة ثوار الغوطة والمدافعين عن أرضهم وأعراضهم، بل بسبب الحملة الجوية المكثفة وسياسة الأرض المحروقة التي انتهجها في هذا الشهر. فقد استخدم النظام كل ما في جعبته دفعة واحدة، كل أنواع الطيران والصواريخ والقنابل والبراميل والمدافع حتى لم تكد تمرّ الدقيقة من غير عملية حربية. كل ذلك أدى لتقسيم الغوطة المحاصرة لثلاث مناطق وخسارة الأراضي الزراعية التي كانت مؤونة غذائية للأهالي، إضافة إلى شح المواد الغذائية والغلاء فوق الفاحش بالأسعار. طفق الناس ذاك العذاب بعد ويلات الموت وآهات الجرحى وصرخات الخوف والرعب، وهذا ما أدى لقبول الثوار بالهجرة من أجل خلاص الناس وخلاصهم من هذا الجحيم.
وطبعاً هذا لا يعفينا من النقد الذاتي، فالحقيقة أن التشتت داخل الغوطة بين عدة فصائل وسيطرة كلٍ منها على قطاع والتناحر والتقاتل فيما بينها وغياب التنسيق سرّع بهذه النتيجة والانهيار، وأيضاً ضحالة مؤسسات الثورة السياسية والعسكرية، فلم نسمع عن مواقف أو نشاطات سياسية قوية للمعارضة في المؤسسات الدولية، ولم تتحرك جبهات عسكرية في مناطق الجنوب والشمال السوري ولم نلحظ نشاطات شعبية قوية للسوريين في الخارج أو في مناطق النظام تدعم وتؤازر، وتُشعر الغوطة بالدعم النفسي بحده الأدنى. هذا ما أعطى شعوراً عاماً لدى أهل الغوطة بأنهم يدفعون فاتورة باهظة الثمن من أجل الثورة السورية المستقرة في قلوبهم وعقولهم فقط وليس في قلوب وعقول السوريين كلهم. إنها حالة إحباط ألقت بظلالها وأدت لما أدت إليه.
س _ وهل تتوقع المصير المشابه لباقي مناطق الغوطة. وهل تعتقد بان الثورة ستنتهي إن سقطت حرستا ودوما وعربين.؟.
ج _ طبعاً أتوقع مصيراً مشابهاً، وما يشار له بالمفاوضات هو كلمة حق يراد بها باطل، إنه رضوخ وإذعان وفق شروط القاتل، لأن القضية باختصار هي هزيمة عسكرية إذا ما نظرنا لها عسكرياً، وهزيمة سياسية بسبب انعدام الوزن السياسي لمؤسسات الثورة في اللقاءات التي تحصل، وهزيمة نفسية بسبب ضغط الأهالي المدنيين الذين فقدوا الحد الأدنى من شروط الحياة. وبرأيي فإن النظام بدأ بحرستا بعد فصلها عن بقية الغوطة بسبب عدم وجود ثقل سكاني كبير حيث لم يبقَ فيها سوى بضعة آلاف نسمة، أما في القطاع الأوسط أو دوما فهم أكثر من مئتي ألف نسمة، والنظام بالتأكيد لا يريد أن يتورط بهذا الكم من المدنيين، لذلك ربما تتأخر الاتفاقيات لهذا السبب. وإن استمرت الحالة على نفس النهج فلا نتوقع إلا نتائج مشابهة على المدى القريب أو المتوسط.
أما عن سقوط الثورة: فالثورة هي الحركة الشعبية ضد الديكتاتورية من أجل نظام جديد تتحقق فيه الحرية والكرامة والمساواة، بهذا التعريف فإن الثورة لم ولن تسقط طالما أن السوريين تواقين للحرية وطالما أنهم رافضون لهذا النظام الأسدي المتوحش.
برأيي أن النظام حصر الثورة في مناطق هنا وهناك، وعندما ضاقت الناس ذرعاً بالحصار انقض على تلك المناطق ليقول إنه حررها من الإرهابيين. هذه السياسة تؤدي إلى زيادة خوف الناس وحنقها ونزوعها للهروب، ولكنها لا تؤدي إلى استتباب النظام ولا إلى توقع نجاحه بالاستمرار، لذلك يتصاعد خوف النظام من الانفجار الشعبي مرة أخرى فيزيد من تخويف الناس، هذه المعادلة لا تبني دولاً بل تحطم أعتى الدول.
لن تسقط الثورة بدخول النظام إلى الغوطة بل هي تزيد من الفجوة والتوتر بين النظام الحاكم والشعب، فالغوطة هي واحة دمشق التي ينبض فيها قلب السوريين، واليوم بكى كل السوريين، ومهما نشر النظام الكذب تبقى الحقيقة ساطعة بأن من يحكم سورية هو مجرم شنيع البشاعة لن تحتمله سورية طويلاً مهما كان الثمن.
س _ برأيك ما العمل اليوم …ما المطلوب.؟
ج _ بعد سبع سنوات عجاف لابد أن ندرك جيداً أفخاخ النظام التي زرعها والتي وقعت فيها قوى الثورة المدنية والسياسية والعسكرية وأدت لما نعيشه الآن.
فخ السلاح وفخ الطائفية، فخ الهجرة وفخ الارتهان والاعتماد على دول الأخرى، فخ المال وفخ العمل الفردي، فخ الدعاية والشائعة وفخ افتقاد الخطاب الوطني، فخ تشويه المثقفين والوطنيين، فخ السرية وعدم الشفافية.. الخ
القوة الأكبر للثورة هي الحاضنة الشعبية، لذا يجب استعادة ثقة الناس بالثورة من خلال المنظمات المدنية التي تتأسس على أسس علمية سليمة، وفتح جسور التواصل مع الشباب الجديد الذي عركته الثورة والذي يتساءل عن الحل.
ينبغي تواصل السوريين فيما بينهم في المهاجر والدعوة للعودة للوطن الذي لا يوجد فيه قهر وديكتاتورية، فنصف السوريين تقريباً خارج سورية ولا ينبغي أن نضيع تلك الثروة لتكون دعماً لبلاد أخرى.
ينبغي إبراز شهداء الثورة الكبار وإعطاؤهم قيمتهم التي يستحقون فهم منارات دربنا للحرية
ينبغي إسقاط مدّعي الثورة ومتسلقيها وهم كثر أيضاً، ولابد بعد هذه السنوات أن يكون لدينا مؤسسة هدفها تمييز الخبيث من الطيب وفق معايير علمية وليس وفق بوستات فيسبوكية لا تزيدنا إلا تشرذماً.
وينبغي العمل على فضح النظام بكل الأشكال، ويحضرني هنا تنبه نشطاء الغوطة في حرستا لمتابعة ملف التفاوض، ودعوتهم الأهالي للعودة إلى حرستا وفق ما تم الاتفاق عليه، والضغط على ما تسمى بلجان المصالحة، كل هذه الجهود تصب في مصلحة الثورة، إضافة للتواصل مع مناطق الغوطة الأخرى ووضعهم في صورة ما حدث ويحدث.
س _ ومن يتحمل مسؤولية ما جرى.. وكيف تقرأ المستقبل يا ترى؟
ج _ أنا من المؤمنين بقدرة السوريين على النجاح والتجاوز، وهذا ملحوظ في البلاد التي حلّ فيها السوريون، فهم بالغالب ناجحون مميزون على الرغم مما تعرضوا له من مآسي. نريد لهذا النجاح الشخصي أن يتحول لنجاح عام من خلال التبشير بالعمل الجماعي وأصوله، وهذه المهمة الأولى للمثقفين السوريين.
بالعمل الجماعي سيتحول الهمّ العام إلى عمل عام، ليس فقط من خلال النشاطات والتظاهرات بل من خلال الأعمال المشتركة للوصول إلى الأهداف المشتركة، وجعل الأهداف في سورية ومن أجل أن تكون حرة ديمقراطية.