أيمن أبو هاشم
في ذاك الصباح الذي انبلج بعد ساعات من وقف إطلاق النار في غزة، استيقظ الإسرائيليون على أسئلةٍ عاصفة واعترافاتٍ صادمة، تكشف عن خيبة أملهم الكبيرة من نتائج الحرب، التي خاضها جيشهم العرمرم، الذي اعتادوا على انتصاراته الماحقة. ليس لأنهم صُعقوا فحسب، من الرشقات والزخّات الصاروخية للمقاومة الفلسطينية، التي دكّت قلب وأطراف كيانهم بلا هوادة وبلا انقطاع، رغم القبب الحديدية التي تحرس أمن مجتمعهم من كافة الجهات، بينما كانت مفاجأةً أكثر من سارة للفلسطينيين أنفسهم وللشعوب العربية أيضاً. الأكثر دويّاً من ذلك على رؤوس قادة القرار والرأي في المجتمع الإسرائيلي، تجلّى في انتفاض الفلسطينيين بمختلف مناطقهم شعباً موحداً، في القدس وفي مدن وبلدات الداخل المحتل منذ العام 1948وفي أنحاء الضفة الغربية، واشتعال نبض اللاجئين في الخارج على إيقاع ذاك التلاحم المذهل، بعد زمنٍ طويلٍ ومريرٍ من صناعة جدران الأسرلة، والفصل الجغرافي، والشتات المجتمعي، والانقسام السياسي والسلطوي. فيما طرح زخم التضامن الشعبي العربي والإسلامي والعالمي غير المسبوق. على طاولة النقاش الإسرائيلي العام، مأزق إخفاء الصورة الوحشية للصهيونية، في عالمٍ لم تعد تفلح كل وسائل الخداع والمنع والرقابة، من تضامنه مع ضحايا الحقيقة المضرجة بالإنكار والدم.
لم نشهد لدى الإسرائيليين هذه المرة “خلافاً لأسلوبهم المعتاد”، في تقييم الحروب التي خاضوها سابقاً مع الفلسطينيين والعرب، بناءً على المقارنة بين خسائرهم البشرية والمادية القليلة أو المحدودة، قياساً بحجم الخسائر والتكلفة الكبيرة أو الباهظة، التي أوقعوها بأعدائهم. لعل خسائرهم هذه المرة مما لا يمكن لتلك المقارنة أن تغض أبصارهم قبل الآخرين، عن أضرارها المنظورة والمستقبلية التي تكبدوها. ليس لأنهم أصبحوا صرحاء مع أنفسهم على حين غرّة، وإنما لأنهم استشعروا فداحة المتغيرات العاصفة، على أرض فلسطين التاريخية من بحرها إلى نهرها، والتي كسرت في أيام وأسابيع معدودة، تصوراتهم الصلبة التي بنوها؛ على امتداد أكثر من سبعين عاماً، لتحويل الفلسطينيين إلى جماعات مسلوبة الإرادة، ومصائر لا تلتقي على هوية تستجمع أشتاتها.
لم يدرك العقل الصهيوني ضمن غطرسته المعهودة، أن قضية أهالي حي الشيخ جراح المهددين بالطرد، والتضامن اللافت والشجاع مع قضيتهم، وثبات المقدسيين في المسجد الأقصى، ستكون بمثابة الأحداث التي قدحت شرارة المقاومة الشعبية والمسلحة، التي توحد عليها الفلسطينيون، رغم كل محاولات وسياسات كيّ الوعي الفلسطيني، ودفعه إلى التبرؤ من فكرة المقاومة كمبدأ للدفاع عن الذات المهددة بالزوال، قبل البحث في أشكالها. حتى في أسوأ كوابيس نتيناهو، لم يكن يتوقع أن هذا الشعب؛ المُكبّل بقيود العنصرية والاستيطان والتهويد والحصار والمنافي، والواقع بين عسف الاحتلال في الداخل، وقمع الأنظمة العربية في الخارج، يمتلك القدرة الرهيبة على تحدي تلك الوقائع العاتيّة. لم تكُ صواريخ المقاومة على أهمية دورها في إحياء معادلة الردع، هي عنوان المأزق الصهيوني الحاد، بقدر ما كشفت عن وجود إجماع فلسطيني على رفض الاستسلام، لعدوٍ بغيض يضع الفلسطيني أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن يكون ميتاً أو خانعاً.
فشلت قرون استشعار أجهزة الأمن الصهيوني، في إدراك ما يمور في عقل ووجدان جيل فلسطيني جديد، يعُيد بعنفوانه وذكائه وقوة شكيمته، إحياء الرواية الفلسطينية بأبهى تجلياتها، ويفتح أفقاً لربيع فلسطيني يتبرعم برؤية مشبوبة، توقن طريقها إلى التحرر من عدوٍ غاشم، كاد أن يستحوذ بالمفاوضات العبثية، ومسارات الحلول المغلقة، على ما تبقى من أرضٍ وحقوقٍ وأحلام.
حدث إذاً وبلسان العديد من النخب الصهيونية، إقرار بخطورة المتغيرات والتحولات العميقة، في المشهد الفلسطيني الناهض. من الظلم والإجحاف الشديد، أن تختزله بعض الأصوات الفلسطينية والعربية، من منظورٍ ضيقٍ يطمس دلالاته وأبعاده الفارقة والنوعية. من وحي مقارنتها بين خسائرنا وخسائرهم، وهي المقارنة التي كفَّ العدو نفسه عن الاستناد إليها، لفرط قصورها عن إدراك تلك التحولات والحقائق الثاوية. وما استولدته من خيارات واحتمالات، تتجاوز خطاب النصر على أحقيّته، إلى التأمل والتفكير في السؤال الكبير، حول كيفية تثمير النهوض الفلسطيني بمختلف تعبيراته الكفاحية ؟. وهو التحدي المطروح بدوره على طاولة النقاش والحوار الفلسطيني العام، ولا يمكن بأي حال فصله عن العمق العربي، بعد أن فتحت فلسطين مسارها التحرري الجديد، الذي أحيا آمال الشعوب العربية، بعد تعثر مسارات التغيير التي أطلقتها خلال العقد المنصرم.
من ضرورات إدراك فرص نجاح هذا الحوار المطلوب بإلحاح، أن يتحرر من حصرية الحوار الفلسطيني بطابعه الفصائلي المعهود منذ سنوات طويلة، فلم تعد الفصائل لوحدها هي صاحبة اتخاذ القرار الوطني أو تعطيله في الساحة الفلسطينية، في ضوء خروج الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، من مربعات التهميش والإقصاء، إلى دائرة الفعل والتأثير والتغيير. أول من عليه إدراك هذه الحقيقة التي سطعت خلال انتفاضة الأقصى، هي حركة حماس التي عليها وضع انتصارها العسكري في غزة، في خدمة بناء رؤية واستراتيجية وطنية وسياسية جديدة، تقوم على التزامها بمنطق الشراكة الوطنية؛ مع مختلف أطياف وتمثّلات المجتمع الفلسطيني في الداخل والخارج. بالمقابل لو ذهبت إلى صرف رصيدها الشعبي الذي تحقق لها مؤخراً، في تعزيز دورها ومكانتها ضمن صيغ المحاصصة الفصائلية، فلا ريب أنها تبدد بذلك تضحيات الفلسطينيين في غزة والداخل الفلسطيني. إن اجتراح الشعب الفلسطيني، لدوره المركزي خلال انتفاضة الأقصى، ودوره التاريخي اليوم في إعادة تعريف الحقوق الفلسطينية الكليّة، ونفض الغبار عن الكوارث الوطنية، التي تسبّب بها اتفاق أوسلو والانقسام الفلسطيني، ما يضع حركة حماس وفتح وبقية الفصائل أمام مسؤولياتهم في العودة إلى مصدر الشرعية الأول وهو الشعب الفلسطيني. الذي ما عاد يقبل بإجراءات صورية لتغيير النظام السياسي الفلسطيني، تتجاهل أصوات ملايين اللاجئين في الخارج، بل إن الحديث عن إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، دون البدء بانتخابات حقيقية للمجلس الوطني الفلسطيني تضخ دماء جديدة في شرايين العمل الوطني الفلسطيني ومؤسساته، بالتلازم مع رؤية وطنية وسياسية تضمن الدفاع عن حقوق الكل الفلسطيني، لهو أشبه بضربٍ من المخاتلة والعبث، والعودة إلى مربع التهميش والإقصاء والتلاعب.
ثمة ما أثار الشكوك المشروعة، من توجه حماس بعد توقف إطلاق النار مباشرةً، لاستثمار ما أحرزته عسكرياً في الميدان، في خانة ضارة وطنياً وأخلاقياً بآمال الفلسطينيين والعرب، لحصد مكاسب سياسية ومالية ذات نوازع حزبية صرفة. حيث جاءت تصريحات بعض قادة الحركة السياسيين والعسكريين، في امتداح النظامين الإيراني والسوري، أشبه بصاعقة رمتها في وجوه، من دفعوا ملايين الضحايا وعانوا المحن والمآسي المتنقلة، بسبب جرائم ومجازر هاتين العصابتين في سورية والعراق ولبنان واليمن، ودون أية حساسية أخلاقية أو بصيرة وطنية، تجاه الشعوب المنكوبة، التي وقفت وساندت كفاح الشعب الفلسطيني رغم جراحها ومعاناتها. لا يمكن لأي عذر أو مبرر أن يشفع لحماس هذه السقطة المشينة، والتي من شأنها تراجع الرهان والتعويل عليها، حيال استحقاقات فلسطينية كبرى، طالما أنها أضلت سبيلها دون اعتذار، في كسب جمهور عربي كبير، يشكل السند الأكبر للحقوق الفلسطينية وعدالة القضية. في الصورة المقابلة من يرهن موقفه من قضية فلسطين، بسلوك هذا الفصيل أو ذاك، يخطئ كثيراً في إزاحة المبنى والمعنى التحرري الذي تكثفه فلسطين، وهو أوسع وأعمق من تعليقه على مشاجب التنصل. هذا المفهوم التعميمي إذا استحكم أفكارنا حيال قضايانا العادلة، يؤدي حتى وإن كان بحسن نية، إلى ضياع التخوم الفاصلة بين الحق والباطل، وبين أنصار الحرية والمسيئين لها.
يبقى أن ما صنعه الفلسطينيون بكل جسارة، في مواجهة الاحتلال وقطعان مستوطنيه، وفي تعرية وفضح طبيعته العنصرية أمام العالم أجمع، وفي استعادة روح القضية من محاولات ومشاريع الطمس والتغييب، وفي التمسك بالنواجذ على الرواية الفلسطينية، وفي استعادة دور فلسطين في جدليات التحرر العربية، التي أطلقتها الثورات والانتفاضات العربية. كل ذلك بمثابة رسالة صريحة وحاسمة، تؤكد بأن الشعب الفلسطيني ماضٍ في طريق الحرية، وجبروته في انتمائه المتجذر ووحدته الراسخة، وبقدرته على قلب الطاولة في وجوه كل من يخذلون رسالته الحيّة والنبيلة.