سميرة المسالمة
كان قدر بعض الفلسطينيين أن يعيشوا مأساة وطن مرّتين، وأن يُشرّدوا مرّتين، وأن يُكتب عليهم حمل مفاتيح منازلهم مرّتين، وأن يكون وطنهم مجرّد قراراتٍ أممية مرّتين، تارّة في فلسطين تحت الاحتلال، وأخرى تحت حكم نظام الأسد في سورية، وفي مخيم اليرموك تحديداً. وكنا، نحن السوريين، على موعد أن نعيش تجربتهم، ومأساتهم، وتشرّدهم، وشتاتهم، ونحمل بقايا عائلاتنا ومفاتيح بيوتنا مرّات ومرّات. تنوء بنا دولة، وتعجز عنا أخرى. ويحملنا البحر تارّة، وتتقاذفنا الجبال حيناً، لنحلّ لاجئين في بلدان تغريبتنا الكبرى معهم (فلسطينيون سوريون وسوريون فلسطينيون).
نتشارك معهم وجعهم ومظاهراتهم وغضبهم، ليس لأننا متعاطفون مع قضيتهم، بل لأنها قضيتنا. ولأننا، بطريقةٍ أو أخرى، امتداد مأساتهم على الأرض. لسنا ظلا، ولكننا معهم نشكل الحقيقة المرّة، نحن الضحايا الذين إنْ تصالح أقطاب السياسة دفعنا الثمن، وإنْ تخاصموا كتبوا بدمائنا خطط انتقامهم، وسطّروا في دمار بيوتنا خريطة طريقٍ إلى قلوب المتعاطفين مع أولادنا المقصوفين، الأموات والأحياء منهم. هكذا تجنّسنا بفلسطينيتنا، وهكذا أصبحنا نحن هم، كما كانوا هم نحن.
نحن السوريين فلسطينيون من كل النواحي، من هول المأساة واستطالتها وتعقّدها. صرنا فلسطينيين بخبرة ألمهم واقتلاعهم من بيوتهم ووطنهم وتغريبتهم التي لا تجاريها إلا تغريبة سوري رفع شعار “الله .. سوريا.. وحرية وبس”. صرنا فلسطينيين إذ صارت لنا قضيتنا التي لا تُختصر بحقنا في دولةٍ حديثةٍ ديمقراطيةٍ، ومواطنة متساوية، بل بحقنا في الوجود أساساً. وفي حقنا بالعودة إلى وطن صار مُلكاً لحكّامه، يتكنّى باسمهم وتوزّع صكوك مواطنيتنا به على مزاجهم. نعم، صرنا فلسطينيين، لنا (أو علينا) فصائل تقاتل باسمنا، وتعقد اتفاقياتها من أجلنا، وتناصر دولاً وتعادي أخرى لحمايتنا، وتتقاتل مع بعضها على تقاسمنا، توزّع علينا هوياتها من أقصى علمانيتها إلى أقصى إسلاميتها، رغم أننا، في كل الحالات وتحت أي منها، أرضنا محتلة، وقراراتنا مرتهنة، وانتصارات قادتنا هي انكساراتنا.
صرنا فلسطينيين (نحن السوريين) مشرّدين في أصقاع الأرض. وباتت قضيتنا مجالاً للمداخلات والتلاعبات الدولية، وتصفية الحسابات وتوزيع الغنائم. صرنا فلسطينيين، بعد أن صار الوطن طيّ قراراتٍ دوليةٍ محفوظةٍ بأدراج أممية، بانتظار مساراتٍ تفاوضية، وجولاتٍ عبثيةٍ، لا نعرف التمييز بين المتفاوضين، من معنا، ومن ضدّنا، وعن أي وطنٍ يتحدّثون؟
نحن سوريون أو فلسطينيون على موعد مع دولةٍ على ورق، ودستورٍ على ورق، وسيادةٍ على ورق، وانتخاباتٍ على ورق، ورئيسٍ من ورق. لسنا فيها ناخبين ولا منتخَبين (بفتح الخاء)، ولكن من يفوز “ديمقراطياً” يحكمنا بالنار والحديد، والفائز هو المعلوم الوحيد كل مجاهيل حياتنا سلفاً في أي انتخاباتٍ سابقةٍ أو مقبلة.
الفزع الذي عشناه مع غزّة الصامدة ليس تضامناً مع أشقاء وحسب. إنه وجع ذاكرتنا السورية الحاضرة فيها، وجع موتنا نحن، صور دمارنا وقصفنا وترويعنا، في الغوطة والقلمون وحوران وحمص وحلب وإدلب ودير الزور، وغزّة، وفي كل مكان حلقت فوقه طائرة تقصف شعباً، أو وصل إليه صاروخٌ يبحث عن ضحاياه، يقتلهم، يقتلع جذورهم، ويشرّد من بقي من أهاليهم.
تغريبةٌ جديدة يا غزّة تضاف إلى عشرات تغريبات مدننا، حتى صرنا بالملايين تحت سماوات دولٍ نعرفها، ولا تريد أن تعرفنا، تستكثر علينا رفع أعلامنا، وهتافات حنيننا، تلغي تراخيص مظاهراتنا، وتسمح برفع أعلام قتلتنا، وتتألم لوجع جلادنا، وتجرّم ضحايانا، وتُحاسبنا على وجعنا من حكّامنا، وتحاكم أحلامنا، دولٍ تتقنع بحقوق الإنسان، ولا تعرف عن إنساننا في غزة شيئاً.
ليست فلسطين قضيتنا المركزية، بل، هي كل قضايانا، باسمها حكم العسكر بلادنا، احتلوا مساحات حريتنا تحت قانون الطوارئ، وشدّ الأحزمة، والتحضير لمعركة المعارك وأمها. إذا تحدّثنا عن الحرية يبدأون من حريتها أولاً، وما بعدها مؤجّل. وإذا تحدّثنا عن ثرواتنا يقولون هي لمعركتها وما بعدها ينتظر. عن الخدمات لحياة الناس يكون الرد التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل دولة الاحتلال أولاً، وما زلنا منذ نشأتها على موعد مع دحرها ولم تندحر، وعلى موعد مع التوازن الاستراتيجي معها، وإذ بهم يحتمون بها ويتوازنون بعقد الصفقات معها ضدّنا، فكيف لا تكون فلسطين قضيتنا، ولا نكون نحن الفلسطينيين فيها؟
الاصطفافات اليوم مع غزّة لا تعني أنها مع حركة حماس أو ضد حركة فتح، أو عكس ذلك. هي مع ضحايا يشبهوننا في كل شيء، اختاروا الحرية ولم يختاروا الحرب، واختاروا فلسطين، ولم يختاروا من يحكمهم سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة. اختاروا كل فلسطين، ولم يختاروا أن يكونوا على جزءٍ منها، كما يحدث اليوم في سورية، قبلوا حل الدولتين، واستسلموا لتنفيذ اتفاقات أوسلو 1993، ولم تقبل إسرائيل الدولة المحتلة به، قبلوا بالسلطة الوطنية الفلسطينية حاكما لهم، لكن السلطة لم تقبل بنفسها ولا بهم، فتمزّقت ومزّقت الشعب معها بين “حماس” و”فتح”، وجميعهم تحت سيف الاحتلال وسوطه.
ليس الاصطفاف مع غزّة خياراً تأخذه الأنظمة وتتمتع به الفصائل، هو خيار الشعب أن يكون ذاته ويمثل قضيته، يدافع عنها بأيديه وصوته وصراخه داخل فلسطين أو خارجها، سواء ساندته صواريخ بدائية أم خذلته، سواء توزّعت الابتسامات على وجوه قادة ورؤساء، وهم يأخذون الصور ويتبادلون الإطراء والمجاملات، ويتهادون “نصراً” مكتوباً بدم الشهداء وعلى أنقاض البيوت، أم أعلن هؤلاء فشلهم وتبدّت للناظرين سوءتهم.
غزّة ليست مجالا لابتزاز مواقفنا السياسية، هي في حقيقتها موقفنا من الاحتلال الصهيوني وخرافاته ومرجعياته، ومن ديكتاتورية الحكّام، ومن تخاذلهم وظلمهم وإنكار حقوق مواطنيهم. غزّة هي نحن أمام مرآة الحقيقة، شعبٌ حر يصارع استعمارا استيطانيا. غزّة هي العلم الفلسطيني الذي يرفرف ليذكّرنا بوجود دولة وإرادة شعبٍ لا يُهزم. إذا كان الفلسطيني هو المقاوم والمدافع والمشرّد والضحية، وهو الإنسان الذي لا تقهر إرادته، ولا تلين، ولا يقبل أن تكون قضيته مجرّد رقم في أدراج المسؤولين، فنحن أيضاً فلسطينيون، وما أحلاها من جنسية ودنيا ودين!
المصدر: العربي الجديد