عبدالناصر القادري
كان لافتاً ومهماً حجم التفاعل الشعبي الواسع في العديد من المدن والعواصم حول العالم، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي مع القضية الفلسطينية ومع أهلنا وشعبنا في الأراضي المحتلة، فهي واحدة من أهم قضايانا التي ما زالت عصية على الانتصار في العالم الإسلامي، والتي تؤرق بال أي إنسان لديه ضمير حي يساند الضحية في وجه الجلاد المغتصب.
وكان جديداً ولافتاً دخول ما يطلق عليهم بالمؤثرين إلى عالم السياسة والدفاع عن القضايا المحقة بعد أن نأى معظمهم بأنفسهم عن القضايا العربية والإسلامية التي كانت تشغل العالمين خلال العقد الماضي، مؤكدين أنهم لا يفهمون بالسياسة وألاعيبها ومطالبين بأن ندعهم يتابعوا حياتهم الهانئة بجمع الإعجابات وإحصاء المشاهدات والرد على التعليقات بهدوء وسلام!
والمؤثرون في العالم اليوم، بغالبيتهم ليسوا ممن اخترعوا أو كتبوا أو ألفوا أو أضافوا أو صنعوا أو أحدثوا شيئاً في هذا الكوكب العائم في السماء، لا؛ في الحقيقة هم مجموعة من الناشطين أو الذين يقومون الليل والنهار على مواقع التواصل الاجتماعي ويتبعهم ملايين أو مئات الآلاف من المتابعين (الفولوارز) يُعرفون أنفسهم بأنهم “صناع محتوى” أو “يوتيوبرز” ويقبضون بالعملة الصعبة من موقع “يوتيوب” أو “فيس بوك” أو غيرها عبر الإعلانات التي تُنشر ضمن مقاطعهم المصورة أو التي يروجون لها عبر حساباتهم.
ويتباين المؤثرون في المحتوى الذي يقدمونه من الطبخ إلى الأزياء وعالم السياحة والسفر، مروراً بأخبار الفنانين وصرعات التكنولوجيا والرياضة وصولاً لاستعراض الحياة اليومية أو الزوجية من الاستيقاظ إلى النوم لحظة بلحظة وبالتفاصيل المملة.
وأصبح كل مشهور لديه ملايين المتابعين مؤثراً بلغة الأرقام فكلما زاد المتابعون والمشاهدون صار ممن يُشار له بالبنان، ويدعى للقنوات التلفزيونية وتحكي الصحف والمواقع الإلكترونية عن حياته والتحديات التي مر بها حتى وصل إلى تلك الدرجة من التأثير في متابعيه.
وبالعموم لا يدور الموضوع حول هؤلاء الذين ذاع صيتهم في عالمنا الذي تغيرت معاييره للشهرة والتأثير مع التغير الكبير في الذوق العام نفسه، إنما شبهة النفاق والخداع التي وقعوا بها والحماسة للقضية الفلسطينية دون جراح بلدانهم أو بلاد أخرى تعيش مأساة متصلة بفلسطين وما يجري فيها.
لا جَرَمَ أن القضية الفلسطينية من أعظم القضايا التي يتشرف الإنسان بمناصرتها ودعمها وبذل نفسه وماله حتى تصل إلى نصرها فهي ليست قضية الفلسطينيين وحدهم؛ بل قضية الأمة، وهي فينا من ذاكرة الطفولة وعنفوان الشباب وبها همة الرجال وهموم العجائز ودعاء الأمهات والضمير الإنساني.
ودون أي مقارنة بحجم الآلام التي وقعت في فلسطين، كان الربيع العربي قضية عظيمة، دفعت المليارات لتشويه حراكه ورياح تغييره، وبذلت الدماء والنفوس لانتصاره، لم ينتبه له المؤثرون، ولم يخرجوا لأجله على البث المباشر ساعات وساعات، وكثير منهم من أبناء سوريا التي وصفتها الأمم المتحدة بأنها “مأساة القرن” وأكبر أزمة إنسانية يشهدها العصر الحالي.
كشف الربيع العربي الذي تبرأ منه المؤثرون أو لم يأتوا على ذكره في أحايين كثيرة، زيغ إيران ومشروعها الطائفي الخبيث لاسترجاع أمجاد فارس دون الاقتراب من خط “إسرائيل” شبراً واحداً، وكذب ميليشيا حزب الله اللبناني وبنادقه المستأجرة وصواريخه التي لم تعرف من طريق القدس سوى تجويع القرى والمدن السورية وذبح أبنائها.
لقد كشف الربيع العربي أن نظام الأسد لم يمانع ولم يقاوم سوى شعبه، ولم يطلق أي رصاصة ضد الاحتلال الإسرائيلي، واعتقلَ عشرات آلاف الفلسطينيين، وقصف مخيماتهم من الجو والبحر والبر، وجوع مخيم اليرموك حتى أكل أبناؤه من الفلسطينيين السوريين الحشائش والقطط والكلاب.
وقتل نظام الأسد والميليشيات الإيرانية وميليشيا حزب الله 4048 فلسطينياً سورياً عبر استخدام الرصاص الحي والقصف، بينهم 620 شهيداً تحت التعذيب في المعتقلات (منذ مارس 2011 حتى ديسمبر 2020)، وفق أرقام مجموعة العمل من أجل فلسطيني سوريا.
ويوجد في سجون الأسد حتى اليوم 1797 معتقلاً فلسطينياً سورياً بينهم 110 نساء، و333 شخصاً في عداد المفقودين الذين لا يعرف ذويهم عنهم شيئاً.
10 سنوات وأكثر لم تكن كافية للتأثير بالمؤثرين العرب لإيصال أوجاع إخوانهم في سوريا أو ليبيا أو اليمن أو العراق، ولم يكن لديهم الوقت للتفكير بمن في الخيام يعيشون تحت زمهرير البرد والعراء، وإن تضامنوا تحت ضغوط التعليقات والمطالبات فعلوها بخجل دون تسليط الضوء على المجرم أو الطاغية الذي هجر شعبه ليبقى في الحكم جاثماً على صدورهم، معتبرين أنها مأساة إنسانية من جراء حرب أهلية، لا قضية تحرر عربي وإسلامي من نير الطغيان والعبودية كالتي في فلسطين.
10 سنوات وأكثر لم تكن كافية ليكون الضمير حياً لدى المثقفين والفنانين والمطربين واليوتيوبرز العرب، وفجأة استيقظ في فلسطين تاركاً السوريين والفلسطينيين السوريين والفلسطينيين اللبنانيين يموتون تحت التعذيب في سجون الأسد وحزب الله.
لم تكن الثورة السورية إلا جزءاً من الانتفاضة الفلسطينية الجديدة، كما كانت وستبقى فلسطين خاصرة جنوبية وبعداً استراتيجياً للشام باركه الله حينما بارك الأقصى، ولم تكن الدماء السورية المسكوبة إلا فداءً للقدس المحتلة وخطوة على طريق تحررها، ولم تقم الثورة إلا للحق ورفع الظلم وإغلاق الفروع الأمنية وعلى رأسها فرع فلسطين الذي بناه حافظ الأسد لتعقب أبناء القضية وزجهم بالسجون لعقود طويلة أو ليقتلهم تحت التعذيب.
من ناصَر القضية الفلسطينية دون الثورة السورية وثورات الربيع العربي الأخرى، هو مخادع يبحث عن مزيد من الشهرة والمتابعين، لأن الحق لا يجزّأ والبوصلة واحدة والألم متصل وما يجري في سوريا ليس وجهة نظر إنما شعب خرج في وجه طاغية ومجرم حرب تدعمه “إسرائيل” وتثبت حكمه.
المؤثر السوري (أو العربي) الذي لديه ملايين المتابعين ولا ينصر ثورة بلاده أو لا يرى بها قضية عادلة رغم وضوحها كالشمس في حين يتضامن مع القضايا الأخرى، لا شك أنه مخادع ومسوق ومتاجر بدماء أهلنا في فلسطين، كما تاجر نظام الأسد وإيران لسنوات طوال.
لا يكون لهذا التضامن قيمة إن لم يشعر المظلومون بصدقه، ولا ريب أن من لا يساهم في نصرة موطنه وبلاده وهو قادر، مخادع في نصرة فلسطين وأهلها.
هذا العالم معجون بالمظلومين والباحثين عن الحرية، ويجب علينا جميعاً أن نكون شعلة في إضاءة الحقيقة ودعم كل قضية تساهم في رفع الظلم عن الناس، ومساندة الثورة السورية (التي خسرت المعركة عسكرياً وما زال يناضل ملايين المهجرين من أهلها) يتشرف من يقف إلى جانبها، وينصر أهلها ويدافع عنهم، لأن بوصلة إلى القدس لا تمر بالشام أو مصر أو تونس أو اليمن أو بغداد تتجاهل أبطالهم لا يُعول عليها، فالقضية واحدة والمصير واحد.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا