مليحة مسلماني
تضافرت خلال العقد الأخير عوامل خارجية وأخرى داخلية خاصة بمدينة القدس، أدت إلى استحداث الفلسطينيين أساليب جديدة للمقاومة الشعبية في المدينة، إضافة إلى تطوير أشكال سابقة أخرى امتاز بها الشعب الفلسطيني طوال مسيرته النضالية ضد الاحتلال. من بين العوامل الداخلية الخاصة بالقدس، استمرار دولة الاحتلال في اتباع سياسات استعمارية، أهمّها الاستيطان، عبر سلب الأراضي والبيوت، والتهويد لمعالم المدينة ومقدساتها، إضافة إلى سياسات التضييق الحركي والاقتصادي والقانوني على المقدسيين لدفعهم إلى مغادرة المدينة وبهدف إفراغها من الوجود الفلسطيني.
ألهمت ثورات الربيع العربي المقدسيين في عملية صياغة وتطوير أساليب مقاومتهم الشعبية ضد الاحتلال، والهادفة إلى الحفاظ على هوية مدينتهم وعلى وجودهم فيها. ومن بين العوامل الخارجية الأخرى التي لعبت دورًا في تكثيف السلوك الشعبي المقاوِم في القدس؛ استمرار السياسات الأميركية المنحازة للاحتلال وتكثيف الجهود، خلال فترة ترامب بخاصة، الهادفة إلى سلب حق الشعب الفلسطيني في مدينة القدس كعاصمة لدولته. يضاف إلى ذلك، تبنّي عدة دول عربية سياسة التطبيع مع إسرائيل، وما رافق هذا التوجه من ظهور لشخصيات عربية مؤثرة تنفي حق الشعب الفلسطيني في السيادة على مدينته، وتعمل على تجميل الاحتلال في الوعي العربي الجمعي.
يستعرض هذا المقال أهم أشكال المقاومة الشعبية في مدينة القدس، وهي: الحياة اليومية تحت الاحتلال بوصفها مقاومة، والاعتصامات، وظاهرة الرباط، والمبادرات التطوعية. تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الأشكال من المقاومة ما هي إلا امتداد للمسيرة النضالية الفلسطينية الأوسع زمانيًا ومكانيًا، أي أنها ليست تمامًا خاصة بالمقدسيين وحدهم. أيضًا، هناك من هم ليسوا مقدسيين ويشاركون بشكل فعّال ومؤثر في كل أو بعض هذه الأساليب النضالية، كالاعتصام والرباط. غير أن هذه الأشكال من المقاومة تجد لها بعدًا مميزاً في مدينة القدس، باعتبارها العاصمة المنتظرة للدولة الفلسطينية، ولاحتوائها على مقدسّاتهم وعلى رأسها المسجد الأقصى.
الحياة اليومية بوصفها مقاومة
لعل أكثر وجوه الاستعمار الصهيوني وضوحاً ذلك الذي يظهر في مدينة القدس، والتي هي بمثابة بؤرة تتمركز فيها مختلف السياسات والممارسات الاستعمارية، بدءاً من التنكيل بالفلسطينيين والتضييق عليهم، ومرورًا بمحاولات استلاب الأراضي والبيوت، ووصولًا إلى سياسات التهويد للمعالم والمقدسات وطمس هوية المدينة. هذه الممارسات تُرى بشكل يومي ومكثف في المدينة، وراكمت لدى المقدسيين وعيًا وطنيًا يدرك مرامي سياسات المستعمِر وأبدع بالتالي كل السبل الممكنة لمقاومته.
يمكن اختزال المشهد المقدسي تحت الاحتلال كالتالي: انتشار يومي مكثّف لقوات الاحتلال خاصة في البلدة القديمة وما حولها، والتي تقوم باستفزاز المقدسيين والتنكيل بهم. وهناك الأوضاع الاقتصادية المتردية للمقدسيين، وتزايُد نسب البطالة بين الشبان منهم، إضافة إلى الضرائب والأعباء المالية التي تفرضها سلطات الاحتلال عليهم. تُذكر أيضًا التعقيدات الاستعمارية القانونية؛ فعلى المقدسي أن يثبت بشكل دائم وبوثائق كثيرة تطلبها منه سلطات الاحتلال، أنه يقيم في القدس ليحصل على تجديد إقامته فيها. يضاف إلى ذلك التهديد المستمر لبيوت ومَحال المقدسيين في البلدة القديمة بالاستيلاء عليها من قبل المستوطنين، وذلك في ظل اعتداءاتهم اليومية على المقدسيين وعلى بيوتهم ومحالهم. وهناك المسجد الأقصى المهدد دومًا بالاقتحام والتهويد، وسياسات منع الفلسطينيين من دخوله، واعتقالهم بسبب ممارستهم أنشطتهم داخله، أو إبعادهم عنه لفترات تمتد لشهور.
في ظل هذه الظروف يصبح الوجود اليومي في المدينة فعلَ مقاومة؛ يذكر في هذا السياق وعلى سبيل المثال تحوّل سلوكيات مثل تمسّك الفلسطيني ببيته الكائن في القدس، وبوجوده فيها، إلى قيم وطنية راسخة لدى المقدسيين. والممارسات اليومية في القدس، كالوجود اليومي، وتنشيط الحركة الفلسطينية فيها، الاجتماعية والدينية والاقتصادية والثقافية، والمناكفات اليومية مع قوات الاحتلال والمستوطنين، تشكل في مجموعها شكلًا من أشكال النضال الاجتماعي الشعبي اليومي في المدينة.
تُذكر في هذا السياق كذلك العلاقة القديمة والوثيقة التي تربط المقدسيّ بالمسجد الأقصى؛ فهو أشبه ببيت المقدسيين الكبير، يتواجدون فيه باستمرار ليمارسوا نشاطات مختلفة، اجتماعية وثقافية، إضافة إلى طقوس العبادة. هكذا تصبح العلاقة مع المسجد الأقصى، وفي ظل التهديد الاستعماري اليومي له، ذات أبعاد ليست دينية فحسب، بل وطنية واجتماعية وثقافية، وتصبح ممارسات مثل الصلاة، أو التواجد في ساحات المسجد، وتلقّي العلم فيه، بل وتناول الغداء والدراسة والإنشاد فيه، يصبح كل هذا فعلَ مقاومةٍ شعبيا يمارسه المقدسيون من مختلف الطبقات والأعمار. هذه العلاقة مع المسجد الاقصى تتطور لتأخذ أشكالًا أخرى من المقاومة الشعبية أبرزها: الاعتصام في أوقات تصاعد التهديد الاستعماريّ (كالاعتصام أمام باب الأسباط عام 2017)، والرباط.
الاعتصامات
إضافة إلى الوقفات والمواجهات والتظاهرات، طالما كان الاعتصام واحدًا من أبرز أشكال المقاومة الشعبية لدى الفلسطينيين، وتميز فيه بشكل خاص أهالي الأسرى في أوقات معارك الإضراب عن الطعام التي يخوضها أبناؤهم في سجون الاحتلال؛ إذ يعتصم الأهالي، أمام مقرات الصليب الأحمر عادة، دعمًا للإضراب وبهدف ممارسة الضغط على الاحتلال للرضوخ لمطالب الأسرى، وكان يتم الاعتصام بشكل متواصل، ليلًا ونهارًا، طوال مدة الإضراب. حافظ المقدسيون على هذا الشكل من المقاومة وطوروه بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، مستلهمين فيه ثورات الربيع العربي، وخاصة اعتصام المتظاهرين في ميدان التحرير بعد اندلاع ثورة 25 يناير.
الاعتصام هو الشكل الأبرز للاحتجاج المقدسي الأخير في حيّ الشيخ جراح في القدس، ضد تهديد قوات الاحتلال عددًا من العائلات المقدسية بإخلاء منازلها لصالح جمعيات استيطانية. يعتمد الاعتصام على تواجد أكبر عدد ممكن من الناس في المكان ذي العلاقة ــ أو المكان المهدَّد. ويتضمن هذا التواجد القيام بممارسات عديدة تهدف إلى رفع الروح المعنوية وإلى الاستمرار في الاعتصام؛ من بين ذلك نشاطات التوعية الوطنية، وتوثيق اعتداءات قوات الاحتلال والمستوطنين، والإبقاء على التواصل مع وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي عبر النشر المتواصل للأحداث، والغناء والانشاد، والرسم ورشّ الشعارات، وإقامة الصلاة والدعاء، وتعزيز قيم التكاتف الاجتماعي، عبر سلوكيات عديدة من بينها تزويد المعتصمين بالطعام والشراب.
هكذا انتصر اعتصام باب الأسباط في معركة البوابات عام 20171. كما أدى اعتصام المقدسيين الأخير في حي الشيخ جراح، وبالتوازي معه الرباط في المسجد الأقصى، إلى تفجير هبة شعبية واسعة شملت الضفة الغربية ومدن فلسطين المحتلة عام 1948، رافقتها معركة “سيف القدس” التي خاضتها فصائل المقاومة في غزة. هذه الأحداث مجتمعة عززت بدورها مركزية القدس وأعادت القضية الفلسطينية إلى مكانتها كقضية مركزية في الوعي الجمعي العربي. كما امتدت آثار الهبة الشعبية الفلسطينية التي فجرتها القدس إلى دول عديدة شهدت تظاهرات ضخمة مناصرة للشعب الفلسطيني.
الرباط في المسجد الأقصى
برزت ظاهرة الرباط في المسجد الأقصى خلال العقدين الأخيرين، وانطلقت تحديدًا عام 2000 بعد منع سلطات الاحتلال إجراء أي عملية ترميم في المسجد الأقصى؛ فقامت الحركة الإسلامية في فلسطين المحتلة عام 1948 بنشاطات تهدف إلى “إعمار الأقصى بالبشر”؛ من بين ذلك تسيير الحافلات يوميًا للمسجد الأقصى، والتي يتم من خلالها نقل المصلين من الجليل والمثلث والنقب والساحل إلى المسجد بشكل يومي، الأمر الذي كانت له آثار إيجابية على عملية إحياء الأقصى وإنعاش الوضع الاقتصادي في أسواق البلدة القديمة في القدس2.
كما أطلقت الحركة الإسلامية عام 2008 مشروع “مصاطب العلم” لإقامة دروس علم وحلقات للقرآن الكريم والحديث النبوي بهدف ترسيخ وتنشيط ظاهرة الرباط في ساحات المسجد ومصليّاته. المرابطون إذًا هم فلسطينيون من القدس ومن المناطق المحتلة عام 1948، والهدف من رباطهم هو حماية المسجد الأقصى من السلب والتهويد، وذلك عبر التواجد اليومي فيه وإقامة حلقات التعليم، والتصدي لاقتحامات القوات الاحتلال ومستوطنيه، بالمواجهات معهم وبملاحقتهم في ساحات المسجد لمنعهم من أداء صلوات تلمودية داخله.
وتلعب النساء الفلسطينيات دورًا مركزيًا في عملية الرباط في المسجد الأقصى: “عايشت ظاهرة المرابطات وطالبات “مصاطب العلم” في المسجد الأقصى.. شرائح متنوّعة من المجتمع النسويّ في القدس وأراضي 48، وشكّلت تلك التجربة لهنّ، منعطفًا مهمًّا في حياتهنّ، ومساحة خصبة بالتفاصيل اليوميّة الحياتيّة الّتي وظّفتها تلك المرابطات في مجابهة شرطة الاستعمار ومستوطنيه المقتحمين للمسجد الأقصى”3.
المبادرات التطوعية
برزت خلال السنوات الأخيرة ظاهرة المبادرات الشبابية التطوعية في القدس، والتي وإن تنوعت أهدافها، بين توعوية وتعليمية وترفيهية وثقافية وتجميلية (مثل ترميم وتنظيف أمكنة ومعالم في المدينة)، إلا أنها تشترك جميعها في أنها تصبح فعل مقاومة جليّ وسلميّ لسياسات الاستعمار تجاه المدينة وسكانها. هذه المبادرات تشكل في مجموعها مقاومة اجتماعية ناعمة ومنظّمة، تأتي في ظل صعوبة القيام بأعمال سياسية وعسكرية جماعية تنظيمية ومنظّمة في القدس الواقعة تحت قبضة الاحتلال، ويمكن القول أنها تشكل بديلًا نسبيًا لها، في حين تشكل العمليات الفردية، والتي يتمركز كثير منها في القدس، البديل الآخر لهذا الغياب التنظيمي.
من الأمثلة على المبادرات التطوعية في المدينة، قيام مجموعات شبابية بحملات تطوعية لتنظيف شوارع وأزقة البلدة القديمة في القدس وبهدف تعريف المتطوعين على معالم المدينة. ومن ذلك أيضًا، وفي ظل منع سلطات الاحتلال عمليات الترميم داخل المسجد الأقصى، تقوم جمعية الأقصى لرعاية الأوقاف والمقدسات الإسلامية على تنظيم فعاليات تطوعية لصيانة المقدسات، وخاصة قبيل شهر رمضان، في المسجد الأقصى ومحيطه بالقدس المحتلة، من بينها أعمال التنظيف والصيانة. ويشارك في الفعاليات فلسطينيون من القدس والداخل الفلسطيني. يذكر أيضًا قيام مجموعات من متطوعي جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني تقديم خدمات الإسعاف والخدمات الطبية للمصلين في المسجد الأقصى بالقدس المحتلة، خاصة في شهر رمضان.
ولعل من أبرز المبادرات التطوعية التي جرت في القدس خلال السنوات الأخيرة، وتحديدًا عام 2014، تشكيل آلاف المقدسيين سلسلة بشرية للقراءة حول سور القدس، فمن باب الأسباط حتى باب الخليل، على مسافة فاقت ثلاثة كيلومترات، شارك نحو سبعة آلاف فلسطيني من سكان القدس والداخل المحتل عام 1948 في تشكيل أطول سلسلة قراءة بشرية، وكان الشهيد بهاء عليّان أحد المنسقين لهذه المبادرة، والذي قام فيما بعد (تشرين الأول/ أكتوبر 2015) بتنفيذ عملية مزدوجة مع بلال أبو غانم، فاستشهد بهاء وتم اعتقال بلال.
أخيرًا، لا شك أن المقاومة الشعبية الفلسطينية في القدس، بأشكالها المختلفة، هي امتداد للمسيرة النضالية الفلسطينية العامة، غير أن الخصوصية التي تمتاز بها المدينة، السياسية والدينية والجغرافية، ونظرًا لمركزيتها في الوعي الجمعي الفلسطيني، دفعت بالمقدسيين، وبالفلسطينيين الذي يستطيعون الوصول إلى المدينة والتواجد فيها، من فلسطينيي الداخل المحتل بخاصة، إلى تطوير أساليب نضالية واستحداث أخرى جديدة، وذلك في ظل ظروف أفرزتها خصوصية المكان المقدسي وتعقيدات واقع الحياة فيه تحت الاحتلال. هكذا فإن النضال الشعبي في القدس، يمتدّ من العفوي اليومي العابر والمناكِف للوجود الاستعماري في المدينة، إلى العمل المنظّم، الجماعي والفرديّ، الخشن والناعم.
المصدر: العربي الجديد