مهنا الحبيل
هل كان المسرح الكوميدي في إعادة صناعة بشار الأسد، ليُنصّب رئيساً على الشعب السوري، مفاجئا، أم كان ضمن تسلسل الأحداث الكبرى التي حاصرت الثورة السورية من حلفائها وأعدائها، ونتيجة متوقعة لما آلت إليه الأحداث، وبالذات منذ المنعطف الكبير، الذي حسم تصفية الثورة السورية في اتفاق سوتشي، وما صاحبه وسبقه من فتح الحرب الإرهابية الشاملة على شعب الثورة السورية.
الحقيقة أن صناعة ما حرصت عليه موسكو، من إعادة تأهيل الأسد، على الرغم من هزليّته وبشاعته، وحجم الإجرام فيه، إلّا أنه كان متوقعاً، وهذا لا يخفّف من حجم الخيانة العالمية، والنفاق الدولي، وخصوصا الغربي، الذي يقف أمام إجرام انقلاب ميانمار العسكري، ويسعى إلى محاصرته، فيما أبرز نظام إرهابي يحكم اليوم على الإطلاق في العالم يُعاد تأهيله. ولكن القضية الأهم هنا هي في تحديد معالم هذا المستوى الذي آلت إليه سورية، في عودة النظام دولياً من كل البوابات، ومنها البوابة الخليجية، وسقوط كل التوقعات بأن موسكو وطهران تحت الضغط، وتحتاج إلى نموذج جديد من داخل هيكل النظام يُستبدل به الأسد، فتبقى مساحة لشيء من التغيير في دورات المفاوضات التي تعقد باسم ممثلين عن قوى من الثورة والنظام.
لقد أسفر المسرح عن الحقيقة المُرّة التي توقعناها، منذ اتفاق سوتشي، أن الثورة تحت التصفية الميدانية ثم السياسية، يحكمها رعاة الاتفاق وتدخلهم في جسم النظام. أما العمل العسكري أو الأمني اليوم في المناطق الباقية خارج سلطة النظام، فهو يجري ضمن إدارة الرعاة أيضاً، سواء كانت في بقية الفصائل المجمّعة أو المناطق الكردية.
ولا يوجد اليوم قاعدة كفاح عسكري تملك أي متنفّس لها، في مواجهة النظام، وتعتمد المدافعة الميدانية في مجالها العسكري بحرية، وإنما تخضع هذه المناطق للحسابات التي تتنافس فيها أطراف اتفاق سوتشي وغيره. ولذلك، بالجملة، ما آلت إليه الأمور اليوم هو ضمن سياق تلك التصفية التي بالطبع لم تكن لتنجح، لولا الاختراق المبكر لسلاح الثورة، وجسمها السياسي، ذلك الاختراق الواسع الذي حوّلها إلى بطاقات متناثرة، بعد فترة قُدمت فيها صور الفداء والتضحية للمناضل السوري في الميدانين العسكري والمدني.
وأخطر ما في الأمر اليوم أن كل نسيج الثورة السورية، الميداني والسياسي، يُساق إلى مآل تصفية الثورة السياسي، من دون أن يكون للثورة أي تأثير، سواء طالت المرحلة الانتقالية أو قصرت. وبالتالي، المستفيد هنا هو نظام الأسد الإرهابي وحلفاؤه، وشركاء التصفية، كل ومصالحه القومية. وهذا يطرح سؤالاً مهماً: هل كان هناك خيار آخر لجسم الثورة السورية، وما تبقّى منها يُغيّر الموازين؟
نطرح، في المقابل، سؤالاً مختلفاً: هل تملك كل هذه النخب والهيئات، المقدّرة تضحياتها والمحترمة جهودها المخلصة، وخصوصا التي ظلت ترابط في الميدان، بحسب المساحة والطريقة المقررة من الحلفاء، لأجل ألا تتخلى عن فكرة الثورة السورية وحقوق الشهداء، قدرة على التأثير على ختام هذه الدورة من ثورة سورية؟ هنا قلنا دورة من الثورة، ولم نقل إن الثورة انتهت، فالجميع مؤمن بأن روح هذه الثورة وطموحها وما قدّم في سبيلها سيظل قائماً حتى يولد حلم الجيل الجديد من أبناء سورية، وتنتصر دماء الشهداء في دولة العدالة المدنية، المؤمنة بعروبتها ورسالتها الإسلامية. لكن المسرح اليوم مكشوف التوجه ومتسلسل الفصول، وقد تُرك تماماً لأجل وقائع وسيناريو أطراف الرعاية للنظام ولاتفاق سوتشي، ثم أُعيد تأهيل النظام لكي يتقاطر عليه من جديد المجتمع العربي والدولي. بمعنى أن المسرح الذي تشارك فيه أطراف ميدانية وسياسية من الثورة يتوجه لصالح النظام، والمكابرة في هذا الأمر لن تفيد روح الثورة الجديدة، ولا قرار إعادة بعثها المدني الذي توجد له قاعدة كبيرة من شباب سورية. بل نرصد اليوم كيف يرتدّ هذا الإحباط على جسم الثورة في احتقان اجتماعي خطير، وهي مقدمة سيستثمرها النظام في دوراتٍ مقبلة، حين يقرّر من يستقطب ومن يتركه للذوبان أو لحصار أطراف أخرى. ولذلك ما نطرحه، في المقابل، هو الانسحاب من كل مساحةٍ يستنزف فيها النظام الثورة وشعبها، إلى الخطوط الخلفية التي تمكّن حلم الثورة من إعادة تأهيل ذاتها واستقلالها المذبوح.
وهذا يحتاج إلى بناء جديد، وقبل ذلك فهم واقع المرحلة وأن إبقاء الصراع المسلح المفتوح، والذي هو خارج معركة الثورة عملياً اليوم بالكلية، ووضع اللاجئين الذي يستثمره النظام في غربتهم ومعاناتهم، وخصوصا في مخيمات اللجوء، ولا يُبالي بهم مطلقاً، فيما السيناريو الآخر مرشّح أن يصنع مسرحاً آخر لم يحسب له النظام ولا حلفاؤه حسابا، وهو أن تتحوّل فترة الانسحاب من العمل العسكري الحالي، الذي لا يخضع أصلاً لمدافعة لصالح الثورة، وسيَحسم واقعه رعاة الاتفاق وما يطرأ من شركاء آخرين.
في حين تأهيل اللاجئين في مناطقهم، حتى لو عاد بعضهم، وأُمّن آخرون، فهذا الهدوء لغربة السوريين، هو بوابة مختلفة تُفتح على النظام، بعد أن ظنّ أن الأمر قد حُسم له، فمكونات النظام ذاتها تتقوّى اليوم من حالة الصراع، والخطة الديمغرافية الإيرانية تتغوّل خلال هذه الحرب. ولذلك، يستفيد النظام من هذا الواقع الجغرافي والسياسي خارج سيطرته، فيما عودة اللاجئين أو جزء منهم، وعودة الحياة المدنية، هي في الحقيقة بداية تحدٍ كبير للنظام، سيواجه فيها مسؤوليات ترهقه، وهي اليوم تنهك شعب الثورة. ولن تجري هذه الحسابات بسهولة بالطبع، وسيتبجّح النظام بنصره المزعوم، لكنه في الحقيقة تحولٌ إلى أرضية جديدة، تنطلق فيها الثورة التي تحتاج إعادة تأسيس، في مساحةٍ مختلفةٍ تنتقل فيها من بقية الانتكاسات والتوظيف، إلى العودة إلى أصل الحلم الوطني لشعب سورية واستقلال المعارضة المدنية، وبدون استقلالٍ لن يولد الوطن الجديد.
المصدر: العربي الجديد