علي محمد شريف
يبدو أنّ الحديث عن الاستبداد وأنظمة الطغيان وعنف السلطة المتوحشة وتغوّلها على المجتمعات واسترقاق إنسانها وسحقه لم يعد مادّة دسمة تثير شهيّة كثيرٍ من مثقفي البازار وفناني المواسم والكتبة، كذلك فإنّ حقوق الإنسان الطبيعية وحياته وسلامته ليست بنوداً أوّلية في أجندة عديدٍ من مراكز “البحث” الحقوقيّ والفكريّ وسدنتها من “المتشبثين” بحمل راية الحرية والعدالة والمساواة ومبادئ حقوق الإنسان، وقد أصبحت معظم منظمات المجتمع المدني، بذريعة الحياد، تحظر على موظفيها ومتطوّعيها الحديث في السياسة أو إبداء الآراء والمواقف القيمية والأخلاقية في مسائل تمسّ انتماءهم وجوهر وجودهم الإنسانيّ، بل وتنسف الأسس والمبرّرات التي يستند إليها شغلهم لمراكزهم ووظائفهم.
إنها شهوة التملك والتسلط متنصلةً من الضوابط والمعايير والقيم، بعد أن تمّ تحييد التعاليم السماويّة والفكر والمعرفة الإنسانيين، وتجنيد كل ما سبق وحَرْفِه عن مقاصده الحقيقية الخيّرة لخدمة شهوة غريزية لا رادع لها في عرف من يبغي إلى تلبيتها، دون تفكيرٍ بما يمكن أن يحدثه السعي الأعمى والمحموم لإشباعها وممارستها من تجاوزات وضحايا وآثار تدميرية على الذات والآخرين.
لقد بات الإنسان ومآسيه في زمننا الراهن سلعةً ومجالاً خصباً للاستثمار ولتحقيق مصالح وغايات شخصية، مشروعة أو غير مشروعة، لدى عديدٍ من العاملين في الشأن العام والإنسانيّ، وغدت مصائب البشر سانحةً يتمّ التعامل معها بمنطق المصلحة العارية والارتزاق وبما يتنافى والغايات والأهداف النبيلة المعلنة، وقد وصل الحال بالبعض لدرجة الابتزاز والمساومة على كرامة المعوزين والمحتاجين.
الصمت في معرض الحاجة إلى البيان بيان، والساكت عن الحق شيطان أخرس هكذا تجزم القواعد الكليّة بما لا يحتمل التأويل أو الشكّ، إنّ الصمت عما يقع من جرائم تواطؤ وتخاذل وجبن، فلا حياد أمام ما يحصل من انتهاكات وفظائع ترتكب بحق الإنسان، والحياد بهذا المعنى انحياز للباطل، وتسهيل لوقوع الجرم، بل واشتراك في ارتكابه. إذا كان الحقّ ظاهراً أزلياً وخالداً فإنّ الحقيقة قد تكون فريسة التجاهل والتخاذل ويمكن للحواة والمتلاعبين النيل من بزوغها وطمس معالمها ولو إلى حين، وهي تحتاج إلى من يفتش عنها ويجلوها وينصرها.
لم تكن المبادئ والقيم الإنسانية مجرد حدث عابر في حياة الأمم، كذلك ليست أمجاداً غابرة أو تراثاً محفوظاً في بطون الكتب وأمعائها القابلة للبلى والتعفن، كما أنّ مكارم الأخلاق لم تأت نتيجة تأمل أديب أو فنان لكي تكون أيقونة تزيّن جدران المعابد أو حلية تتباهى بعرضها في غرفها وممراتها الأنيقة بيوتُ الأكابر، لقد كانت الأخلاق وستبقى حاجةً وضرورة أبدعتها المجتمعات ضماناً لبقائها ولصون حياة أفرادها ولحمايتها من الموت والاندثار.
التكافل والتضامن بين الشعوب لا يكون ضرورياً فقط في مواجهة الزلازل والفيضانات والكوارث الطبيعية، بل إن أهميته تعظم أكثر ويصبح واجباً لازماً في مواجهة الطغيان وعسف الاستبداد وفي دعم قضايا التحرر والعدالة، إنّ دعم الشعوب لبعضها في قضاياها المحقة تحصينٌ للذات وسبيلٌ للخلاص بأقلّ الكِلف من مآس وظروف مشابهة ليست بمأمن من الوقوع فيها والتعرّض لمثيلاتها في وقتٍ ما، ماذا لو آزرت مثلاً شعوب الدول الديمقراطية أو تلك التي تعيش واقعاً كارثيّاً مطابقاً ثورة الشعب السوري وأيدت مطالبه في التحرّر من حكم طاغية دمشق وإرهابه ووقفت ضدّ دعم أنظمتها لهذا النظام المافيوزيّ القاتل؟
نستطيع الجزم يقيناً بأن الطغاة والمستبدّين في جهات العالم كلّه متضامنون متكافلون يؤازر بعضهم بعضاً، لا غرابة، وقد يبدو هذا طبيعيّا طالما أنهم من أسرة واحدة تجمعها عقيدة المال والمصالح، وتحكمها تعاليم الجريمة والتوحش، ومبادئ الغريزة المتفلتة من أيّة قوانين إلهية كانت أم من صنع البشر.
الذي يدعو للاستغراب والتساؤل حقاً هو تذرّر الشعوب وغيابها وتخاذلها أمام المآسي التي تعصف بشركائها في كوكب الهمّ والمظالم، وأيضاً انحياز معظم النخب إن لم نقل وقوفها إلى صفّ أنظمة الموت، ودفاعها المأجور عنها وتبريرها لجرائمها. هل الإنسانية تفترض الاستسلام لقوى الشرّ العارية، هل الإنسانية هي في الحياد والخرس أمام الألم والعذاب الإنسانيّ وفي تقصّي المصالح المجرّدة من القيم والمبادئ واستخدام التقية والرياء والنفاق لتحقيقها، أليس إجحافاً بحق الإنسانيّة أن يبدو الإنسان الصالح أشبه بالحمل المسكين الذي لا يملك إلاّ أن يسلّم رقبته لسكين الأشرار دون أدنى مقاومة، أليست الإنسانية الحقّة هي في الدفاع عن الإنسان ورسالته في تجسيد قيم الحرية والانتصار للحقّ والخير والجمال، ألم يحن الوقت بعد لقيامة الإنسان..؟؟
المصدر: اشراق