د. حسين مجدوبي
تحولت أوبك منذ تأسيسها إلى هيئة ذات قوة وسط المنظمات الدولية التي تقرر بطريقة أو أخرى مستقبل الاقتصاد العالمي، لكن القوة التي تتمتع بها تتراجع تدريجيا بحكم البحث عن مصادر طاقة بديلة ثم رهان الدول على تأمين أمنها القومي بشأن الطاقة.
ويشهد العالم هذه الأيام مواجهة بين الدول الأعضاء في منظمة أوبك بين العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بشأن الأسعار ونسبة الكميات التي يتم وضعها في السوق الدولية يوميا منذ الآن إلى نهاية السنة المقبلة. والمثير أن النزاع وسط المنظمة التي تضم الدول المنتجة للنفط يقع بين دولتين جارتين وهما السعودية والإمارات اللذان يخوضان حربا معا في اليمن واشتركتا في سياسات عديدة خلال السنوات الأخيرة ومنها الثورة المضادة ضد الربيع العربي.
وإلى جانب مؤسسات مالية دولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، تمارس منظمة أوبك تأثيرا قويا على اقتصاد العالم منذ السبعينات ويكفي استعادة أزمة النفط بعد حرب 1973. وحدث هذا التأثير في معظم الحالات بفضل الولايات المتحدة، المستهلك والمستثمر الأكبر في البترول منذ الحرب العالمية الثانية حتى يومنا هذا، حيث حولته واشنطن إلى سلاح جيوسياسي للتحكم حتى في نمو ومسيرة بعض الدول خاصة المنتجة التي تتبنى سياسة معادية لمصالح واشنطن كما حدث مع فنزويلا وإيران خلال العقدين الأخيرين ونسبيا روسيا.
وسيستمر البترول مصدرا رئيسيا للطاقة خلال العقود المقبلة، ولكنه سيفقد وزنه السياسي بسبب صعود الصين من جهة، وبسبب رهان عدد من الدول والتكتلات للبحث عن مصادر طاقة بديلة تجعلها تتحكم في أمنها الطاقي بحكم أن فقدان السيطرة على الطاقة يعني الانهيار الاقتصادي.
الصين تهدد تأثير أوبك
الحديث عن البترول في القرن العشرين وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية عندما بدأ العالم يشهد عملية تصنيع واسعة ومنتوجات تحتاج إلى الطاقة هو حديث عن العملة الأمريكية الدولار، حيث أصبح البترول مرادفا للدولار أو ما يسمى «البترودولار». وعمدت واشنطن إلى التحكم في الأوبك سواء الإنتاج أو الأسعار، وكان هذا التحكم يمر عبر العلاقة الوثيقة التي ربطتها مع دول الخليج العربي التي كانت ومنذ الستينات أكبر منتج للبترول.
وفي هذا الصدد، التحكم الذي تمارسه الولايات المتحدة يتمظهر في استمرار ارتباط النفط العالمي وأساسا الخليجي بالعملة الأمريكية الدولار، مما يجعلها تلجأ إلى العقوبات الاقتصادية، وتحاول منع بعض الدول من استخدام الدولار مثل إيران وفنزويلا وروسيا. وإذا تعرضت دولة للعقوبات الأمريكية فهذا يترجم عبر إقصاءها بشكل كبير من العلاقات الاقتصادية الدولية.
وتوفر واشنطن الحماية للدول العربية المصدرة للنفط، سواء أمام التهديدات الخارجية أو الانتفاضات الداخلية، مقابل التزام هذه الدول الاستمرار في ربط مبيعات النفط بالدولار. وهذا يعني استمرار الطلب على الدولار عالميا، مما يخدم الاقتصاد الأمريكي، ويجعل هذا البلد يطبع الدولار باستمرار لحاجة العالم له، من دون إسناده بالذهب، منذ السبعينات، عندما تخلى الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون عن ربط الدولار بالذهب. ولهذا تغض واشنطن الطرف عن خروقات هذه الدول العربية لحقوق الإنسان وتعمل على مساعدتها على منع تطور أي معارضة سياسية داخلية. كما يتولى الأسطول الخامس حماية هذه الأنظمة ضد التهديدات الخارجية، تجنبا لانهيارها، ولهذا يوجد مقره في البحرين.
وإذا تخلت دول الخليج عن الدولار وقبلت عملات دولية أخرى مثل، اليوان الصيني واليورو الأوروبي، وقتها سيتراجع الطلب على الدولار، وسيفقد الكثير من قيمته وستتراجع الهيمنة الأمريكية على العالم. هذا هو السبب الحقيقي الذي يجعل واشنطن تحرص على استمرار أنظمة الخليج العربي المنتجة للنفط، وتعارض كل محاولة ربط البترول بعملة أخرى. وكان من أسباب تدخل واشنطن في ليبيا، وقبلها في العراق، محاولة كل من معمر القذافي وصدام حسين الرهان على البترويورو أي العملة الأوروبية بدل البترودولار. وهذا من أسباب ضغط واشنطن على فنزويلا، التي تلوح بالتخلي نهائيا عن الدولار، ومن الأسباب الرئيسية كذلك، إضافة إلى المشروع النووي، للتوتر مع إيران التي تهدد بالتخلي نهائيا عن الدولار بسبب العقوبات الأمريكية.
إذا اعتمدت منظمة أوبك عملة غير الأمريكية، الدولار، أو اعتمدت عملات أخرى رئيسية مثل اليورو أو اليوان الصيني، وقتها ستخسر الولايات المتحدة عنصرا هاما من عناصر هيمنتها على العالم وسيصبح البترول يباع بأسعار متباينة بشكل كبير وليس بسعر شبه موحد.
وتسعى الصين إلى جعل عملتها اليوان عملة دولية في السوق الدولية وربطها بالنفط، وسنصبح أمام «البترويوان» مستقبلا بسبب الهيمنة التي بدأت الصين تفرضها على الاقتصاد العالمي. وتنجح الصين في مسعاها بعدما بدأت تتحول منذ ثلاث سنوات إلى أكبر مستورد للنفط في العالم بدل الولايات المتحدة. وبدأت بعض دول تفضل اليوان في معاملاتها مثل روسيا. وإذا جرى تعميم اليوان عالميا، وقتها سيبدأ التخلي عن الدولار كمرجع للعملة العالمية، وسيصبح عملة رئيسية مثل باقي العملات ولكن ليس عملة حاسمة. والتخلي عن العملة الأمريكية يعني بدء تراجع منظمة أوبك تأثيرها على اقتصاد العالم نظرا لتغير قواعد اللعبة الاقتصادية العالمية مع حلول قوة كبرى محل أخرى.
البحث عن طاقات بديلة
يوجد وعي لدى الكثير من الدول وخاصة الاتحاد الأوروبي بضرورة تأمين مصادر الطاقة والتقليل من الاعتماد على البترول. وتمتلك معظم الدول برامج لتشجيع الطاقة البديلة ومنها الغاز والطاقة الشمسية واستغلال الرياح وأساسا الطاقة الكهربائية التي تنتجها المفاعلات النووية. ويجري التركيز خاصة على الطاقة الشمسية ثم الطاقة النووية.
ويعد الاتحاد الأوروبي ككتلة من أكبر المستوردين للنفط والغاز في العالم، وكلما وقعت أزمة سياسية كبرى مثل حرب الخليج 2003 أو مالية مثل 2009 يعاني اقتصاد القارة العجوز من انعكاساتها السلبية بسبب حاجته الماسة إلى البترول الذي يستمر كمحرك أساسي للإنتاج في العالم. ويكفي الأخذ بعين الاعتبار نسبة السيارات في القارة الأوروبية ونسبة المعامل الصناعية ثم نسبة الرحلات الجوية لمعرفة الحاجة إلى البترول أساسا.
ولتأمين أمنها الطاقوي، تبحث الدول الأوروبية ودول أخرى عن تطوير الطاقة النووية لإنتاج نسبة كبيرة من الكهرباء من دون الاعتماد على النفط أو الغاز أو الفحم الحجري. كما أن المفاعل النووي يعمل لمدة تتراوح ما بين 60 إلى 80 سنة، وهذا ربح كبير للأمن الطاقوي.
ويتعاظم إنتاج الكهرباء من الطاقة النووية تدريجيا، إذ أن 11 في المئة من كهرباء العالم تنتجها محطات نووية، وفق إحصائيات 2019. وقد تصل إلى 20 في المئة خلال سنوات قليلة. ويعود هذا إلى رهان الدول على الاعتماد أكثر على هذه المحركات. ويوجد حاليا 442 محركا نوويا لإنتاج الطاقة، منها 98 في دولة تعد ضمن الأكثر إنتاجا للبترول والغاز وهي الولايات المتحدة، تليها الصين فرنسا بـ 58 مفاعلا نوويا ثم الصين بـ 46.
وستتم إضافة 53 مفاعلا في ظرف سنتين أو ثلاث في عشرين دولة وخاصة في الصين التي ترغب في التقليل من الاعتماد على النفط مستقبلا. وتولي برامج الحزب الشيوعي أهمية قصوى للكهرباء المنتجة من الطاقة النووية، والأمر نفسه في دولة مثل فرنسا التي تفتقد لمصادر الطاقة الكلاسيكية.
ومع كل مفاعل نووي يتم تشييده في دولة ما يتم التخفيض من واردات النفط في هذه الدولة. ويعد هذا التطور من أكبر التحديات لمنظمة أوبك.
لقد كانت أوبك من المنظمات التي جاءت بعد النظام العالمي الجديد الذي انبثق عن الحرب العالمية الثانية، نظام رعته واشنطن، والآن يعيش تبلور نظام عالمي جديد ستفقد فيه أوبك تأثيرها لتنوع مصادر الطاقة عكس الماضي.
المصدر: القدس العربي