لاري بريليانت، ليزا دانزيغ، كارين أوبنهايمر، وأغاستيا موندال، ريك برايت، ودبليو إيان ليبكين
آن وقت الإفصاح عن ذلك عالياً: الفيروس الذي أطلق جائحة “كوفيد- 19” لن يندثر. ليس في المستطاع القضاء على “سارس- كوف- 2″، لأنه آخذ في الازدياد فعلاً في أكثر من 12 نوعاً مختلفاً من الحيوانات. وفي أوساط الناس، يتعذر الوصول إلى المناعة المجتمعية (مناعة القطيع) العالمية، التي رُوج لها كحل أوحد. ببساطة، لا تملك غالبية البلاد لقاحات مضادة تكفي الجميع، وحتى في الدول القليلة المحظوظة حيث تتوافر إمدادات كافية من الجرعات، يعرض كثر عن أخذ اللقاح. بناء عليه، لن يبلغ العالم مرحلة يتمتع فيها عدد كافٍ من الناس بمناعة تلجم تفشي الفيروس قبل نشوء المتحورات الخطرة منه- أي النسخ الأكثر قدرة على الانتقال من شخص إلى آخر، والأقدر على مقاومة للقاحات، وحتى على التملص من اختبارات الكشف التشخيصية المعتمدة حالياً. في مقدور تلك المتحورات الخارقة أن تعود بالعالم بأسره إلى المربع الأول. ربما يتكرر مشهد عام 2020 مرة أخرى.
عوضاً عن أن يموت، سيتنقل الفيروس على الأرجح جيئة وذهاباً في شتى أنحاء العالم طوال سنوات عدة مقبلة. بعض الحالات الناجحة في الأمس تتهددها الآن موجات تفش خطيرة. كثير من تلك المناطق كبح جماح الجائحة عبر تطبيق ضوابط صارمة على حدودها وإجراء اختبارات كشف ممتازة، وتتبع المخالطين، وعزل المصابين، بيد أنها لم تستطع أن تحصل على لقاحات جيدة. وخير دليل على ذلك تايوان وفيتنام، حيث بقيت معدلات وفيات كورونا متدنية بشكل لافت حتى مايو (أيار) 2021، قبل أن يواجه البلدان انقلاباً تاماً في الأحوال نتيجة نقص التطعيم. ولكن حتى البلاد التي وزعت اللقاحات على نسبة كبيرة من سكانها ستكون عرضة لتفشيات تنشأ عن متحورات محددة. وقد حدث ذلك على ما يبدو في بؤر إصابات توزعت بين تشيلي ومنغوليا وسيشل والمملكة المتحدة. فيروس كورونا هنا ليبقى. والسؤال الذي يطرح نفسه، ماذا علينا أن نفعل كي نضمن بقاءنا نحن أيضاً؟
لا يتحقق الانتصار على جائحة ما بالمال والموارد فحسب؛ إنما أيضاً بالأفكار والاستراتيجيات. في عام 1854، في وقت لم تكن نظرية جرثومية المرض germ theory قد ترسخت بعد، صد الطبيب جون سنو وباء الكوليرا في لندن عن طريق تتبع مصدره إلى بئر يملكها أحد المصابين. وبعدما أقنع سنو القادة المحليين بنزع مقبض مضخة البئر بغية تعطيلها، انتهى التفشي. في سبعينيات القرن العشرين، كانت إصابات الجدري تعصف بأفريقيا والهند. أدرك عالم الأوبئة ويليام فويج، الذي كان يعمل في أحد المستشفيات في نيجيريا، أن الكمية الصغيرة من اللقاحات التي خصصت له لم تكن كافية لتطعيم الجميع. لذا ابتكر طريقة جديدة لاستخدام اللقاحات، إذ لم يصب تركيزه على المتطوعين أو من يحظون بمعارف ذات نفوذ، بل على الأشخاص الأكثر عرضة لخطر الإصابة بالمرض لاحقاً. بحلول نهاية العقد، وبفضل تلك الاستراتيجية، التي سميت بداية “المراقبة والاحتواء” surveillance and containment ثم لاحقاً “التطعيم الدائري” ring vaccination (بمعنى مراقبة الحالات وعزلها وتطعيم كل من يعيش بالقرب منها)- قضي على الجدري. نسخة القرن الحادي والعشرين من تلك الاستراتيجية، مصحوبة بحملات تطعيم شاملة سريعة، يمكنها أن تسهم في أن يصبح “كوفيد- 19” جزءاً من الماضي.
بالنسبة إلى جائحة كورونا، في جعبة علم الأوبئة أيضاً أدوات تعيد العالم إلى سابق عهده نسبياً، إلى حال تسمح لنا بالتعايش مع “سارس- كوف- 2” كما تعلمنا التعامل مع أمراض أخرى، من قبيل الأنفلونزا الموسمية والحصبة. يكمن الحل في التعامل مع اللقاحات على أنها موارد قابلة للنقل في المقدور نشرها على وجه السرعة في المناطق حيث تبرز الحاجة إليها: إلى البؤر الأشد تأثراً التي ترتفع فيها معدلات الإصابة فيما تنخفض إمدادات اللقاحات. الولايات المتحدة، التي تفيض باللقاحات، في وضع يؤهلها لقيادة هذا الجهد، عبر الارتكان إلى نسخة حديثة من الاستراتيجية التي استخدمت في السيطرة على الجدري.
في الوقت نفسه، على حكومات العالم أن تستفيد من التكنولوجيات الحديثة لتحسين عملية رصد حالات التفشي واحتوائها. يعني ذلك تبني أنظمة إخطار بالتعرض للفيروس بغية تنبيه الناس إلى احتمال إصابتهم بالعدوى. يعني أيضاً تعزيز القدرات الخاصة بالكشف عن التسلسل الجينومي لفيروس كورونا، ما من شأنه أن يسمح للباحثين بأن يحددوا سريعاً مكان انتشار كل متحور، وأي لقاح يجدي نفعاً أكثر ضد كل واحد من تلك المتحورات. ينبغي تنفيذ كل ما تقدم بأقصى سرعة ممكنة. كلما تباطأت البلاد في تلقيح الفئات الأكثر قابلية على نشر الداء، ظهرت نسخ متحورة إضافية.
علاوة على ذلك، ينبغي إصلاح النظام العالمي للاستجابة للجوائح. بحسب ما كشفت الأزمة الراهنة، يشوب هذا النظام نقص خطير في التمويل وبطء في اتخاذ الإجراءات، ناهيك عن أنه عرضة للتدخل السياسي. وفي وقت تتصاعد النزعة القومية، حري بالبلاد أن تجد طريقة لتتكاتف من أجل إصلاح مرافق الصحة العامة العالمية التي ستضطلع بالمسؤولية عن خوض هذه المعركة الطويلة ضد “كوفيد -19”. لا بد من حماية هذه المؤسسات، وتزويدها بإمكانات إضافية كي تكون قادرة على اتخاذ التدابير بشكل أسرع مقارنة بالوقت الحاضر.
في نواح عدة، الجائحة سرد من الأحداث الخاطئة المليئة بالمغالطات. في بداية 2020، أنكر قادة كثر أن وباء إقليمياً نشأ في ووهان الصينية يمكن أن يوسع وجوده إلى المناطق القاصية والدانية. مع مرور الأشهر، تصورت حكومات عدة أن في المستطاع احتواء الفيروس بواسطة ضوابط فرضتها على حدودها، وأن انتشاره سيروح يتباطأ على نحو أعجوبي مع قدوم الطقس الحار. ظنوا أن التحقق من درجة حرارة الجسم ربما يكشف كل من يحمل الفيروس، وأن في وسعهم إعادة توظيف الأدوية المتوافرة أصلاً في التخفيف من وطأة المرض، وأن العدوى الطبيعية ستمنح المتعافين مناعة دائمة- جملة افتراضات ثبت خطؤها. ومع تصاعد أعداد الضحايا، تمسك قادة كثر بإنكارهم. وإذ تجاهلوا المجتمع العلمي، لم يحثوا الناس على ارتداء الكمامات والالتزام بمبدأ التباعد الاجتماعي، على الرغم من تزايد الأدلة التي تؤكد أهمية تلك الإجراءات. الآن، على الحكومات أن تتغلب على حقيقة مرة أخرى: الأزمة التي كان رجاء كثيرين أن تكون قصيرة الأمد ستكون خلافاً لذلك معركة طويلة الأمد وبطيئة الخطى ضد فيروس يتمتع بقدرة لافتة على الصمود والتكيف.
كيف أمسينا في هذه الحال
ضرب “كوفيد -19” العالم في لحظة جيوسياسية مشؤومة. في عصر صعود القومية والشعبوية كان من العسير على نحو محبط تنظيم استجابة تشاركية [جماعية] لمواجهة جائحة عالمية. جايير بولسونارو الرئيس البرازيلي، وشي جينبينغ نظيره الصيني، وناريندرا مودي الهندي، وفلاديمير بوتين الروسي، ورجب طيب أردوغان التركي، وبوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني، ودونالد ترمب الرئيس الأميركي- نمّ عن هؤلاء القادة كلهم خليط من التفكير الضيق الأفق وانعدام الأمن السياسي، جعلهم يهونون من خطورة الأزمة، ويتجاهلون العلم، ويرفضون التعاون الدولي.
تقع اللائمة الكبرى في السماح لمرض جديد بأن يتفشى حتى يصير جائحة مدمرة على البلدين اللذين يتنافسان على زعامة العالم: الصين والولايات المتحدة. حتى إذا نحينا جانباً مسألة ما إذا كان الفيروس قد انتقل إلى البشر نتيجة لحادثة عن طريق الخطأ في مختبر لبحوث الفيروسات، أو أنه وصل إلى الإنسان من طريق حيوان ما، لم تتوخ بكين الصراحة في تبادل المعلومات حول حجم المشكلة في أيامها الأولى. وعلى الرغم من أنه ربما لن تتبدى أبداً المعلومات التي توافرت لدى صانعي القرار الصينيين حينها، إلا أن السماح بالسفر الدولي إلى منطقة الوباء ومنها خلال موسم الرحلات المكثفة لتمضية العطلات كان قراراً غير مسؤول من جانبهم- وقد أدى في أغلب الظن إلى نمط من انتقال العدوى يسمى “الناشر الفائق” (“سوبر سبريدر” Superspreader).
الولايات المتحدة، من جانبها، تجاهلت تحذيرات مبكرة أطلقها عشرات ممن تنبؤوا بكارثة وبائية، وأنكرت خطورة الأزمة الناشئة. تعاملت إدارة ترمب مع “كوفيد- 19” باعتباره تهديداً مجرداً دونما اعتبار للخطر الواضح والقائم الذي شكله، وأخفقت في تنظيم استجابة وطنية منسقة ضده. لم تحظر الحكومة الأميركية سوى بعض الرحلات من الصين وليس كلها، وانتظرت طويلاً قبل أن تفرض قيوداً للتحكم في الأسفار من أوروبا، كذلك رفضت استخدام مجموعات من لوازم اختبارات كشف تشخيصية مصنوعة في بلاد أخرى، وأخطأت في تطوير مجموعات خاصة بها. أخفقت في شراء وتوزيع معدات الحماية الشخصية اللازمة لحماية العاملين في الخطوط الأمامية في مواجهة الجائحة، وفي درء الخطر عن عامة السكان، تاركة ولاياتها تتنافس مع بعضها بعضاً من أجل الحصول على تلك الإمدادات الأساسية. أما سياسيوها فجعلوا من ارتداء القناع الواقي قضية هوية سياسية. هكذا، كان نتيجة الفوضى كلها، والتأخر في الاستجابة، والحماقة، انتشار متفلت للفيروس وخسائر عالية في الأرواح. معلوم أن الولايات المتحدة بلد غني وشعبه متعلم، ويحتضن مؤسسات علمية رائدة عالمياً، فيه يعيش أكثر من أربعة في المئة من سكان العالم. ولكن مع ذلك، في السنة الأولى من الجائحة، سجل 25 في المئة من إصابات “كوفيد- 19” على مستوى العالم، و20 في المئة من الوفيات الناجمة عنه.
في المقابل أخذ بعض الحكومات التهديد الناشئ على محمل الجد. في بداية الجائحة، كان المؤشر الأفضل الذي ينبئ بنجاح بلد ما في التصدي لفيروس كورونا المستجد تجربة حديثة في مواجهة وباء أطلقته نسخة سابقة من فيروس “كورونا”- “سارس”SARS (متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد) أو “ميرس” MERS (متلازمة الشرق الأوسط التنفسية). عندما ظهر “كوفيد- 19″، سرعان ما تدخلت تايوان، التي عانت الأمرين بسبب “سارس” في عام 2003، وأجرت فحوصاً لرصد أي مصابين، كذلك أغلقت حدودها أمام سكان ووهان، وبدأت بتشغيل مركز قيادة لتنسيق استجابتها. الحكومة التايوانية التي كان من حسن حظها أن من ترأس دفة القيادة عالم أوبئة يشغل منصب نائب الرئيسة، تصرفت بشفافية. أطلقت برنامجاً شاملاً لفحوض الكشف عن الفيروس وتتبع المخالطين وعزل المصابين، وشجعت على مبدأ التباعد الاجتماعي وارتداء الكمامات. حتى 1 مايو 2021، أبلغت تايوان عن 12 حالة وفاة فقط من “كوفيد- 19”.
فيتنام كذلك استخلصت الدروس من تجربتها مع “السارس”. في السنوات التي أعقبت ذلك الوباء، أنشأت بنية تحتية متينة للصحة العامة، من بينها مركز لعمليات الطوارئ، ونظام مراقبة وطني لتسهيل تبادل البيانات واكتشاف الحالات. عندما وصلت الجائحة الراهنة إلى البلد، كانت الحكومة تتمتع بالجاهزية لتنفيذ برنامج يشتمل على إجراء فحوص جماعية، وتتبع المخالطين، وحجر صحي، وإغلاق الشركات. وبحلول أبريل (نيسان) 2020، نشرت فيتنام تطبيقاً رقمياً هاتفياً على أكثر من نصف سكانها، عمل على إخطار المستخدمين تلقائياً عند وجودهم على مقربة من شخص أكدت الفحوص إصابته بـ”كوفيد- 19″. على الرغم من مجموع سكانها الكبير الذي يبلغ 96 مليون نسمة، لم تسجل الدولة أي وفاة جديدة في الفترة الممتدة بين سبتمبر (أيلول) 2020 ومايو 2021. وفي أوائل مايو، أحصت 35 حالة وفاة فقط.
على النقيض من ذلك، كانت الاستجابة الدولية لـ”كوفيد- 19″ غير كفوءة بشكل مفاجئ، خصوصاً عند مقارنتها مع حملات سابقة احتوت أوبئة عدة، أو قضت على بعض الأمراض. في مواجهة الجدري وشلل الأطفال، مثلاً، تعاونت حكومات ومنظمات دولية معاً في سبيل تطوير وتمويل استراتيجيات متماسكة، حظيت بفرق استجابة في مختلف أنحاء العالم. للأسف، لم يُعامل “كوفيد- 19” بالمثل. لقد قوضت السياسة قطاع الصحة العامة في أزمة عالمية لم يظن أحد إلى حد ما أنها ممكنة. كمّ رئيس الولايات المتحدة أفواه قادة الصحة العامة الموثوق بهم في “المركز الأميركي للسيطرة على الأمراض والوقاية منها” (CDC)، وهي هيئة معنية بالوقاية من الأمراض تتمتع بالاحترام وتوقع العالم أنها ستتولى زمام المبادرة في تلك اللحظة تحديداً، وأعلن ترمب انسحاب الولايات المتحدة رسمياً من “منظمة الصحة العالمية” (WHO) في وقت كانت الحاجة إلى التعاون العالمي بالغة الضرورة. متشجعين بترمب، حذا حذوه قادة بلاد أخرى يؤثرون المصلحة الذاتية، وانجرفوا إلى سياسات إنكار هذا الداء التي كان من شأنها أن تضاعف أعداد الوفيات وتفاقم المعاناة.
شكل تطوير اللقاحات واحدة من النقاط المضيئة القليلة في عتمة هذه الجائحة. عملت شركات الأدوية والتكنولوجيا الحيوية يداً بيد مع الحكومات من أجل ابتكار لقاحات جديدة قوية في وقت قياسي. جهود تصنيع اللقاحين اللذين يعتمدان على تقنية “الحمض النووي الريبوزي المرسال” Messenger RNA (أو اختصاراً “أم آر أن أي” mRNA)، “موديرنا” و”فايزر-بيونتيك”، تحركت بسرعة خاطفة. بعد شهرين فقط من نشر التسلسل الجيني الخاص بـ”سارس- كوف- 2″، كان لقاح “موديرنا” قد أصبح قيد الاختبار في المرحلة الأولى من التجارب السريرية، وبعد فترة وجيزة، انتقل إلى المرحلة الثانية منها. جهات فاعلة عدة، من بينها “التحالف من أجل ابتكارات التأهب للأوبئة”، والتحالف العالمي للقاحات والتحصين “غافي” Gavi، و”منظمة الصحة العالمية”؛ وحكومات عدة، وشركات، ومؤسسات خيرية – كانت في الوقت نفسه توظف استثمارات كبيرة في القدرة الإنتاجية. في النتيجة، استطاعت الشركات المصنعة لللقاحين المذكورين أن تعزز الإنتاج سريعاً وتنهض بالمرحلة الثالثة من التجارب خلال الصيف. أظهرت التجارب أن لقاحي “موديرنا” و”فايزر-بيونتيك” آمنان، بل أيضاً أنهما أكثر فاعلية مما اعتقد كثيرون، وبحلول نهاية 2020، حصلا من الهيئات التنظيمية حول العالم على إذن الاستخدام في حالات الطوارئ. لم تختلف الحال بالنسبة إلى اللقاحات التي تعتمد في تصنيعها على “فيروس غدي معدل” (modified adenovirus) والتي تحركت بسرعة أيضاً. هكذا، أجازت المملكة المتحدة لقاح “أكسفورد- أسترازينيكا” في ديسمبر (كانون الأول) 2020، وبالمثل فعلت الولايات المتحدة مع اللقاح المكون من جرعة واحدة “جونسون آند جونسون” في فبراير (شباط) 2021.
على الرغم من أن إنتاج اللقاحات خطّ انتصاراً للتعاون الدولي، إلا أن توزيعها كان على النقيض من ذلك تماماً. تحوطاً، ابتاعت الولايات المتحدة ودول غنية أخرى من شركات مصنعة عدة أضعاف عدد الجرعات التي احتاج سكانها إليها، مستحوذة بشكل أساسي على سوق اللقاحات كما لو أن المنتج كان سلعة أساسية. وما زاد الطين بلة، أن بعض البلاد وضع لوائح تقييدية لتنظيم التصدير حالت دون تصنيع اللقاحات وتوزيعها على نطاق أوسع. في مايو الماضي، أشار مدير عام منظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، إلى أن 75 في المئة من الجرعات التحصينية ذهبت حتى الآن إلى 10 دول فقط، وقال إن التوزيع تشوبه “لا مساواة فاضحة” وأنه “يطيل أمد الجائحة”.
في ظل غياب التنسيق العالمي لشراء اللقاحات وتوزيعها، أبرمت حكومات عدة اتفاقات ثنائية، ما وفر لبعض البلاد غير المحظوظة لقاحات أقل فاعلية أو لم تخضع للاختبار. مثلاً، صدرت الصين ما يربو على 200 مليون جرعة من أربعة لقاحات مصنوعة محلياً، متفوقة بذلك على أي بلد آخر، ولكن، البيانات الشفافة بشأن سلامة اللقاحات الصينية ضئيلة جداً بشكل يبعث على القلق. وأثارت تقارير غير رسمية صدرت في البرازيل وتشيلي وسيشل الشكوك حول نجاعة تلك الجرعات. وفي الوقت نفسه، أفضى الارتفاع المدمر في حالات “كوفيد- 19” الذي شهدته الهند إلى خفض صادراتها من اللقاحات المنتجة محلياً، تاركاً البلاد التي كانت تعتمد عليها، من قبيل مملكة بوتان وكينيا ونيبال ورواندا، تواجه نقصاً في الإمدادات. قطعت الولايات المتحدة وعوداً كثيرة، ولكن اعتباراً من أواخر مايو، كان اللقاح الوحيد الذي صدرته إلى الخارج “أكسفورد- أسترازينيكا”، الذي لم تجيزه بعد “إدارة الغذاء والدواء الأميركية”، مرسلة أربعة ملايين جرعة إلى جارتيها، كندا والمكسيك.
بغية توفير متكأ من اللقاحات للبلاد الأقل ثراءً، ومساعدة “منظمة الصحة العالمية” في مواجهة التحدي المتمثل في توزيع اللقاحات العالمي، عمل تحالف من المنظمات على إنشاء كونسورتيوم فريد من نوعه باسم “كوفاكس” COVAX. بادر الأخير إلى تطوير آلية “التزام السوق المسبق” (advance market commitment)، والتي بموجبها وافقت حكومات عدة على شراء أعداد كبيرة من الجرعات التحصينية بأسعار محددة مسبقاً. ترمي المبادرة إلى جمع أموال كافية لتوفير نحو مليار جرعة لـ92 دولة تعجز عن دفع تكلفة اللقاحات بنفسها، ما يسمح لكل منها بتلبية 20 في المئة من احتياجاتها من اللقاحات. ولكن مع ذلك، بدءاً من مايو الماضي، بدا تحقيق هذا الهدف خلال عام 2021 فرصة بعيدة المنال.
في الواقع، كانت الحواجز أمام الوصول إلى اللقاحات شديدة جداً لدرجة أن بلاداً كثيرة منخفضة ومتوسطة الدخل لن تملك جرعات كافية لتطعيم حتى الفئات الضعيفة قبل عام 2023. وقد أدى هذا التفاوت إلى صورة من مشهدين متنافرين فيما كان الأميركيون يخلعون أقنعتهم الوقائية ويستعدون لتمضية الإجازات الصيفية، كانت الهند، حيث لم يحظ بالجرعات التحصينية سوى ثلاثة في المئة من السكان البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة، تشتعل بالمحارق الجنائزية.
فيروس كورونا عند مفترق طرق
بعد مضي أكثر من سنة ونصف السنة على نشوء الجائحة، بات جلياً أن السباق لاحتواء الفيروس عبارة عن مسابقة عدو قصيرة المدى، وفي الوقت نفسه ماراثون طويل المدى. نعم، يتعين على العالم تطعيم أكبر عدد ممكن من الأشخاص في أسرع وقت ممكن بغية إبطاء انتشار الفيروس. ولكن حتى لو أن كل إنسان على هذا الكوكب أخذ اللقاح غداً، سيظل “سارس- كوف- 2” موجوداً في أنواع عدة من الحيوانات، من بينها القرود والقطط والغزلان. في الدنمارك، التقط أكثر من 200 شخص عدوى “كوفيد- 19” من حيوانات المنك. وعلى الرغم من غياب أي دليل حتى الآن يؤكد الانتقال الثابت للفيروس من البشر إلى الحيوانات ثم إلى البشر مجدداً، يشير رصد “سارس- كوف- 2” في أنواع حيوانات عدة أن ذلك الانتقال ليس محتملاً فحسب بل مرجحاً.
كذلك مات حلم الوصول إلى مناعة القطيع. قبل سنة واحدة فقط، راح بعض الخبراء الجدد يقدمون الحجج بشأن ضرورة منح الفيروس حرية الانتشار كي تصل البلدان إلى المناعة المجتمعية في أقرب أجل ممكن. اشتهرت السويد باعتماد هذا النهج؛ وكما كان متوقعاً، كانت معدلات الإصابات والوفيات التي سجلتها أعلى أشواطاً مقارنة بالدنمارك وفنلندا والنرويج المجاورة لها (علماً أنها واجهت أضراراً اقتصادية مماثلة). ولم تتخل بلاد عدة عن هذه الاستراتيجية الخاطئة إلا بعد حدوث مئات الآلاف من الوفيات التي كان في المستطاع تفاديها حول العالم.
في الآونة الأخيرة، وضع علماء الأوبئة على طاولة النقاش النسبة المئوية للسكان الذين ينبغي تطعيمهم من أجل الوصول إلى مناعة القطيع، ومتى نبلغ تلك العتبة. ولكن الآن، بات واضحاً أن العالم لا يسعه أن ينتظر مناعة القطيع من أجل السيطرة على الجائحة. من ناحية، يسير التطعيم بخطى وئيدة. يستغرق إنتاج إمدادات كافية من اللقاحات وتوزيعها وقتاً طويلاً، وتؤدي حركة عالمية كبيرة ضد اللقاحات إلى خفض الطلب عليها. ومن ناحية أخرى، شهدت البلاد تدفقاً مستمراً من متحورات جديدة من الفيروس، مهددةً التقدم المحرز في اللقاحات والتشخيصات.
في الواقع، المتحورات نتيجة ثانوية لا مفر منها للصعود المطرد للجائحة. يومياً، يُسجل أكثر من نصف مليون إصابة جديدة بـ”كوفيد- 19″. يؤوي كل مصاب مئات المليارات من جزيئات الفيروس في جسمه، وكلها تتكاثر على نحو مستمر. تنتج كل جولة من تكاثر جسيم فيروسي واحد ما معدله 30 طفرة جينية. صحيح أن الغالبية العظمى من الطفرات لا تعزز قدرة الفيروس على العدوى ولا تجعله أكثر فتكاً. ولكن في ظل العدد الهائل من الطفرات التي تستجد يومياً في مختلف أنحاء العالم، يتعاظم باستمرار احتمال أن يؤدي بعضها إلى فيروسات أكثر خطورة، فتصبح “متغيرات مثيرة للقلق”، كما يسميها علماء الأوبئة. حالات التفشي الشديدة جداً، على شاكلة تلك التي ضربت نيويورك في مارس (آذار) 2020، والبرازيل في مارس 2021، والهند في مايو 2021، لن تؤدي إلا إلى مفاقمة الخطر.
سبق أن ظهر عدد من المتحورات ذات القدرة على العدوى بسهولة أكبر، أو على التسبب بأشكال أكثر خطورة من “كوفيد- 19″، أو على خفض فاعلية العلاجات أو اللقاحات، من بينها “المتحور “بي. 1. 1. 7″ (B.1.1.7 الذي رصد للمرة الأولى في المملكة المتحدة)، و”بي. 1. 351″ (B.1.351 الجنوب أفريقي)، و”بي. 1. 429″ (B.1.429 الذي ظهر بداية في كاليفورنيا)، و”بي. 1″ (P.1 البرازيلي)، و”بي. 1. 617. 2” (B.1.617.2 الهندي). صحيح أن المتحورات غالباً ما تعرف بمسميات تتوافق مع المناطق الجغرافية التي رصدت فيها للمرة الأولى، غير أنه ينبغي عوض ذلك اعتبارها تهديدات عالمية. (في الواقع، نظراً إلى الشكوك بشأن مكان ظهور كل متحور، خلافاً للمكان الذي حدث أنه رصد فيه أولاً، يُفضل إسقاط المصطلحات الجغرافية تماماً).
حتى الآن، تبدو اللقاحات الثلاثة المجازة في الولايات المتحدة الأميركية، “موديرنا” Moderna و”فايزر- بيونتيك” Pfizer-BioNTech و”جونسون أند جونسون” Johnson & Johnson ، ناجعة ضدّ المتحورات الموجودة حالياً. ولكن ظهرت مؤشرات على أن نسختين متحورتين من الفيروس، “بي. 1. 351″ (B.1.351) و”بي. 1. 617. 2” (B.1.617.2)، تنتقصان من فاعلية اللقاحات الأخرى والأجسام المضادة العلاجية. بناء عليه، ربما يتطلب كل متحور جديد أكثر قدرة على مقاومة المناعة أو على العدوى جرعات معززة إضافية، أو ربما لقاحات جديدة تماماً، ما يفاقم التحدي اللوجستي الهائل المتمثل في تلقيح مليارات الأشخاص في حوالي 200 بلد. حتى أن نسخاً متحورة أخرى ربما تتنصل من اختبارات الكشف التشخيصية المعتمدة حالياً، ما يزيد عملية تتبعها واحتوائها صعوبة. باختصار، الجائحة بالكاد دخلت مخاضها الأخير.
دور أميركا
كونها بلداً غنياً وقوياً ومتقدماً علمياً، تبدو الولايات المتحدة الطرف الأقدر على المساعدة في توجيه المعركة الطويلة ضد كوفيد- 19″. كي يتسنى لها ذلك، عليها أن تستعيد سمعتها لقيادة الصحة العامة على الصعيد العالمي. في هذا الوقت من صعود النزعة القومية فيها وفي بلاد أخرى مجدداً، سيكون على أميركا أن ترتقي فوق قوى الانقسام، وأن تحشد بقية العالم للانضمام إليها في النهوض بما يعتبر ربما التجربة الأكبر على الإطلاق في التعاون الصحي العالمي.
للشروع في مسعاها، على الولايات المتحدة أن تمضي قدماً في مسارها نحو الوصول إلى تسجيل صفر إصابات “كوفيد- 19” داخل حدودها. ليس في مقدور أي بلد أن يساعد غيره من البلاد إذا كان هو نفسه عاجزاً. أدت اللقاحات الشديدة الفاعلية، مصحوبة بحملات تطعيم لا تقل عنها أهمية في معظم الولايات الأميركية، إلى تراجع كبير في عدد الإصابات. عندما ينظر علماء الأوبئة إلى الولايات المتحدة الآن، ما عادوا يرون أن المرض يلف البلاد بأكملها؛ بل يلاحظون تفشيات حفيفة متفرقة. يعني ذلك أن في إمكانهم تمييز سلاسل فردية من انتقال العدوى- في تقدم يغير قواعد اللعبة استراتيجياً.
أحد أهم جوانب النقص في برنامج التطعيم الأميركي عدم تقدير القوة التي يكتسيها التوزيع السريع والمستهدف. من الضروري إعادة توزيع اللقاحات على أجزاء البلد التي ترتفع فيها معدلات الإصابات بغية حماية السكان الأكثر عرضة للإصابة بالمرض، وخفض إمكانية انتقال العدوى. من نواحٍ عدة، تبدو هذه الاستراتيجية بمثابة عودة إلى أساسيات مكافحة الأمراض. تذكيراً، للقضاء على الجدري في سبعينيات القرن العشرين، حث علماء الأوبئة إدارات الصحة العامة على الإبلاغ عن الحالات المحتملة، وبحثوا عمن تظهر عليهم الأعراض في التجمعات الكبيرة، واحتفظوا بما سمي “سجل الإشاعات” بغية كشف تفشيات جديدة، حتى إنهم قدموا مكافآت نقدية لمن رصدوا حالات محتملة. حققوا في كل حالة، وتبينوا مصدر العدوى، وحددوا المخالطين الذين يرجح أن يصابوا بالمرض لاحقاً. علاوة على ذلك، لجأوا سريعاً إلى إبقاء مرضى الجدري والأشخاص الذين تعرضوا للمرض في حجر ذاتي، وأعطوهم اللقاح. متوسلين بتوزيع التطعيمات “في الوقت المناسب”، كان علماء الأوبئة قادرين على لجم سلاسل جديدة من العدوى- عبر السيطرة سريعاً على المرض، وادخار حتى ثلاثة أرباع الجرعات التحصينية مقارنة بما إذا كانوا قد اعتمدوا التطعيم الجماعي الشامل.
قطعاً، كان العالم آنذاك إزاء مرض مختلف، ولقاح مغاير، وفي زمن آخر. أحد الأسباب التي تجعل مواجهة “كوفيد- 19” أمراً عسيراً جداً أنه ينتقل عبر الهواء، وكونه عدوى عديمة الأعراض إلى حد كبير. ولكن مع ذلك، يحظى علماء الأوبئة اليوم بمزية إضافية تتمثل في الأدوات الجديدة القوية القادرة على اكتشاف حالات التفشي وتطوير اللقاحات. في وسعهم الاستفادة من تلك الابتكارات لإنشاء نسخة القرن الحادي والعشرين من المراقبة والاحتواء لاستخدامها في المعركة ضد هذه الجائحة. اعتماد استراتيجية توزيع اللقاحات “في الوقت المناسب”، يستلزم من الولايات المتحدة والدول الأخرى ذات معدلات الإصابة المعتدلة إعطاء الأولوية لتحصين الأشخاص المعروف أنهم تعرضوا للفيروس (الذين ما زال التطعيم قادراً على درء الأعراض عنهم أو تخفيفها)، إلى جنب من تواصلوا معهم عن قرب ومجتمعاتهم، سواء عبر الارتكان إلى الأساليب القديمة أو الحديثة.
إذا نجحت الولايات المتحدة الأميركية في حل لغز السيطرة على تفشي “كوفيد- 19” داخل حدودها وحماية نفسها من دخول الفيروس إليها من الخارج، سيكون في متناولها مخطط تتشاركه مع البلاد الأخرى حول العالم. عليها أن تفعل ذلك، متحولة إلى الخارج من أجل المساعدة في قيادة ما سيشكل أكبر حملة للسيطرة على الأمراض وأكثرها تعقيداً في تاريخ البشرية. لبلوغ هذه الغاية، يتعين عليها أن تدعم القدرة التصنيعية الموسعة للقاحات “كوفيد- 19” في شتى أنحاء العالم، والشروع في توزيع ما يكفي منها للوصول إلى الميل الأخير من كل بلد في العالم- في خطى سريعة تسبق ظهور متحورات جديدة.
كذلك، ثمة جهود أخرى يتعين القيام بها محلياً. خطة الإنقاذ الأميركية البالغة قيمتها 1.9 تريليون دولار، التي أقرها الكونغرس الأميركي في مارس، وفرت 48 مليار دولار لاختبارات الكشف التشخيصية وموظفي الصحة العامة الإضافيين من أجل احتواء حالات التفشي. اكتست تلك الجهود أهمية أكبر مع انخفاض الطلب على اللقاحات. حتى مايو الماضي، بالكاد تلقى نصف سكان البلاد جرعاتهم المضادة. وحتى مع احتساب من اكتسبوا مناعة طبيعية من عدوى سابقة، يبقى نحو 125 مليون أميركي عرضة للإصابة بـ”كوفيد- 19″. عليه، ثمة سبب إضافي يدعو إلى التحلي بالقدرة على حماية هؤلاء الأميركيين من واردات الفيروس التي لا مناص منها، ومضاعفة الجهود لرصد كل التفشيات، والسيطرة عليه، واحتوائها.
سيتطلب جزء من هذا الجهد بناء نظام أقوى لمراقبة الأمراض في الولايات المتحدة. المستشفيات، ومختبرات تحليل الفحوص، وهيئات الصحة العامة المحلية، تواظب فعلاً على رفع بياناتها الخاصة بـ”كوفيد- 19″ إلى “مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها” (CDC). لكن يتعين على الأخير مواصلة جهده في إيجاد طرق مبتكرة جديدة لاكتشاف حالات التفشي في وقت مبكر. بالفعل، يخوض علماء أوبئة حول العالم تجربة الكشف عن المرض إلكترونياً، وذلك عبر تمشيط البيانات المتصلة بعمليات الشراء من الصيدليات، والتفتيش في وسائل التواصل الاجتماعي والقصص الإخبارية عبر الإنترنت بحثاً عن أدلة على حالات تفشٍ جديدة. مستعينين بالسجلات الطبية الإلكترونية، يتتبع هؤلاء أعراض مرضى غرفة الطوارئ بصورة آنية. وقد أنشأوا أنظمة مراقبة تشاركية، من قبيل التطبيقين الرقميين “أوتبريكس نير مي”Outbreaks Near Me (التفشيات القريبة مني) في الولايات المتحدة و”دكتور مي” DoctorMe في تايلاند، التي تتيح للأشخاص أن يختاروا الكشف عن أعراضهم عبر الإنترنت.
مجتمعة، يمكن أن ترصد أنظمة الإبلاغ هذه نسبة عالية من الحالات التي تعاني أعراضاً. للعثور على إصابات غير واردة في البلاغات، يمكن لعلماء الأوبئة مراقبة مياه الصرف الصحي بحثاً عن فيروسات خرجت من الجسم محمولة في الفضلات، من ثم الكشف عن حالات تفشٍ غير مسجلة. أما كشف الحالات العديمة الأعراض، وهو عمل يكتنز أهمية خاصة في وقف انتقال عدوى “سارس- كوف- 2″، ستكون أنظمة الإخطار بالتعرض للفيروس عنصراً أساسياً. باستخدام هذه الأنظمة، تصل تنبيهات إلى المستخدمين عبر هواتفهم المحمولة تخبرهم إذا ما كانوا على اتصال وثيق بشخص مصاب بالفيروس، إنما من دون الكشف عن هويته- بالتالي، تبلغ الأشخاص الذين لا يشعرون بإعياء بأنهم ربما في الحقيقة يحملون الفيروس. في الوقت نفسه، عند إخطارهم بالعدوى المحتملة، يمكن أن ينصح المستخدمين بالخضوع لاختبار الكشف أو أخذ اللقاح، أو التعرف إلى الدعم الذي تقدمه الحكومة لمن يلتزمون بالعزل الذاتي. على الرغم من أن هذه الأنظمة ما زالت في مهدها، تبدو التقارير الأولى الصادرة من إيرلندا والمملكة المتحدة، حيث بدأ العمل بها، مشجعة.
إضافة أشكال جديدة من اكتشاف الأمراض إلى أنظمة الإبلاغ التقليدية من شأنها أن تجعل مسؤولي الصحة العامة أكثر إلماماً بالوضع السائد، على منوال قادة المعارك في الميدان والمديرين التنفيذيين، الذين ألفوا هذا التكتيك منذ زمن طويل. ذلك بدوره، سيسمح لهم بالتصرف بسرعة أكبر لاحتواء التفشيات. الأمر سيان بالنسبة إلى التسلسل الفيروسي الأسرع والأقل تكلفة، الذي بفضله سيكون في مقدور العلماء تحديد العدوى والمتحورات بسرعة. يمكنهم أن يستخدموا هذه المعلومات في تحديث الاختبارات التشخيصية كي يضمنوا الرصد الدقيق للحالات وتعديل اللقاحات حفاظاً على كفاءتها. إذا تبين أن متحوراً ما ضعيفاً أمام لقاح بعينه وليس لقاحاً آخر، في الإمكان حينها التعجيل في نقل اللقاح الذي أعطى أفضل نتيجة إلى المناطق حيث كان المتحور سائداً. نهج على هذه الشاكلة مشغول ليناسب كل منطقة بعينها سيزداد أهمية مع تطوير لقاحات أخرى ضد المتحورات الجديدة؛ لا سيما أن تلك الجرعات ستكون لا ريب شحيحة.
يجدر بالجميع أن يشعروا بالامتنان تجاه اللقاحات الرائعة التي كانت الأولى في سباق تطوير التطعيمات. لكن على الولايات المتحدة والدول الغنية الأخرى توظيف استثمارات في جيل مقبل من لقاحات “كوفيد- 19″، يكون تصنيعها أقل تكلفة، ولا يتطلب تخزينها تبريداً، وتؤخذ في جرعة واحدة من دون حاجة إلى طواقم مدربة. ليست هذه أضغاث أحلام: سبق أن بدأ باحثون تطوير جرعات تبقى صالحة في الظروف الحارة، وتأخذ مفعولها بسرعة أكبر، ويمكن إعطاؤها من خلال بخاخ أنف، أو قطرات فموية، أو لاصقة جلدية. بفضل هذه الابتكارات، يمكن للعالم قريباً الحصول على لقاحات عملية لتوزيعها في المناطق الريفية في الهند أو زيمبابوي مثلاً، كما هي في لندن أو طوكيو.
إعادة تشغيل النظام
صحيح أن على الولايات المتحدة أن تؤدي دوراً رائداً في السيطرة على هذه الجائحة، غير أن ذلك لن يكون كافياً ما لم ترافقه جهود لإصلاح الإطار الشامل للاستجابة للجائحة. النظام الحالي مهشم. بالنسبة إلى كل النقاشات الدائرة بشأن هوية من كان عليه أن يتخذ القرارات على نحو مختلف، تبقى حقيقة بسيطة مؤداها أنه كان في المستطاع احتواء ما بدأ كوباء لفيروس كورونا المستجد، حتى عندما كان متوسط الحجم. في تقرير يعود إصداره إلى مايو الماضي، لم تلقِ لجنة مستقلة ترأستها الرئيسة السابقة لجمهورية ليبيريا إلين جونسون سيرليف ورئيسة الوزراء النيوزيلندية السابقة هيلين كلارك، اللوم على أحد في ما يتصل بهذا الإخفاق. غير أنها قدمت اقتراحات حول كيفية الحؤول دون تكرار الخطأ نفسه.
كانت التوصية الرئيسة التي قدمتها اللجنة رفع التأهب والاستجابة للجائحة إلى أعلى مستوى في الأمم المتحدة عبر تأسيس “مجلس عالمي لمكافحة التهديدات الصحية” (global health threats council). سيعمل المجلس على نحو مستقل عن “منظمة الصحة العالمية”، بقيادة رؤساء دول، وسيكلف بإخضاع الدول للمساءلة بشأن احتواء الأوبئة. كي يستعيد الناس ثقتهم في المؤسسات الصحية العالمية، ينبغي أن تكون الأخيرة محصنة ضد التدخل السياسي. نظر التقرير إلى المجلس على أنه يدعم ويشرف على “منظمة للصحة العالمية” تملك مزيداً من الموارد وتتمتع بهامش أكبر من الاستقلالية والسلطة. تتمثل إحدى المساهمات البالغة الأهمية التي يمكن أن تقدمها المنظمة تحديد الاختبارات التشخيصية والأدوية ولقاحات “كوفيد- 19” التي تستحق مضاعفة الاستثمار فيها وتخصيص الموارد تبعاً لذلك، كي يكون في المستطاع تطويرها بسرعة وتوزيعها بكفاءة. على الرغم من أن تفاصيل عدة ما زالت تستوجب العمل عليها، غير أن توصية المجلس تمثل محاولة شجاعة في غمرة الجائحة لإصلاح طريقة مواجهة الجوائح- في مشهد أشبه بإعادة بناء طائرة خلال تحليقها في الجو.
تعتبر السرعة الحاجة الأكثر إلحاحية التي تعوزها الصحة العامة العالمية. مع تفشي وباء فيروسي، يكاد الوقت يختصر الأمور الأخرى كافة. كلما رصد تفشٍ ما بشكل أسرع، كلما ازدادت فرصة لجمه. في حالة “كوفيد- 19″، سيفسح الكشف المبكر والسريع للتفشيات المجال أمام صانعي القرار حول العالم لمعرفة أي منطقة يمدونها بأعداد اللقاحات المناسبة، وأي متحورات تتنقل بين الناس، فضلاً عن كيفية انتقاء الموارد بناءً على الخطر المطروح. لحسن الحظ، عندما يظهر العامل الممرض الجديد- والسؤال متى، وليس ما إذا- بفضل المنجزات العلمية، سيكون في وسع مؤسسات الصحة العامة العالمية أن تتخذ الإجراءات بوتيرة أسرع من أي وقت مضى. العلماء في “مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها” وفي “الشبكة العالمية للإنذار والاستجابة” التابعة لـ”منظمة الصحة العالمية” (GOARN)، قطعوا شوطاً كبيراً في إعداد مجموعة واسعة من البيانات المتدفقة بغرض التعرف سريعاً إلى حالات تفشٍ جديدة. قبل 20 سنة، استغرق اكتشاف فيروس جديد يحتمل أن يتسبب بجائحة ستة أشهر. اليوم، يتطلب ذلك أسابيع فقط.
لكن أمام النظام العالمي لمراقبة الأمراض فرصة للتحسن في نواح عدة. من الضروري أن تتوافر أحدث تقنيات المراقبة، من الكشف الرقمي عن الأمراض، وأنظمة المراقبة التشاركية، إلى أنظمة الإخطار بالتعرض للعامل المسبب للممرض، في كل مكان، وليس فقط في البلاد الأكثر ثراء. ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى تقنيات معرفة التسلسل الجيني للفيروسات. حان الوقت للتحرك أبعد من النموذج القديم للصحة العالمية، إذ أرسلت عينات من مسببات الأمراض من الدول الفقيرة إلى نظيرتها الغنية كي يصار إلى كشف تسلسلها الجيني، علماً أنه قلما تشارك الدول التي أرسلت العينات في تصنيع مجموعات أدوات الاختبار واللقاحات والعلاجات التي كانت جاء تطويرها نتيجة لذلك. ليست هذه مسألة إنصاف فحسب، بل ضرورة في مواجهة الأوبئة، إذ كلما كان اكتشاف الوباء الجديد أقرب إلى منشئه، أمكن للعالم أن يتصدى له بصورة أسرع.
حتى لو أن أحد مسببات الأمراض الجديدة وجد طريقه إلى خارج الحدود الوطنية حيث نشأ، يبقى الوقت متاحاً لاحتوائه إقليمياً. ينبغي على الحكومات أن تشجع على أن تتشارك البلاد المتجاورة بياناتها الخاصة بالأمراض الناشئة. تحقيقاً لهذه الغاية، ينبغي عليها دعم “تواصل المنظمات لمراقبة الأمراض الإقليمية” (اختصاراً CORDS)، وهي مجموعة تضم عشرات البلاد، وهيئات تابعة للأمم المتحدة (من بينها “منظمة الصحة العالمية”)، وعدداً من المؤسسات، كل ذلك في محاولة لمشاركة إشارات الإنذار المبكر لظهور أمراض معدية والتنسيق بشأن الاستجابات لها. ومن المنطلق عينه، على “منظمة الصحة العالمية” أن تتعاون مع الحكومات والمنظمات غير الحكومية في سبيل وضع بيانات ديموغرافية ووبائية وخاصة بالتسلسل الجيني تكون مجهولة الهوية على مستوى الحالة، وذلك ضمن قاعدة بيانات واحدة. يتمثل الهدف النهائي في تأسيس شبكة استخبارات صحية عالمية تضم علماء قادرين على جمع وتحليل ومشاركة البيانات اللازمة للإبلاغ عن تطوير اختبارات تشخيصية وأدوية ولقاحات، فضلاً عن اتخاذ قرارات بشأن المكان الذي يستعدي زيادة في اللقاحات بغية التحكم في التفشيات.
إنجاز المهمة
حتى الآن، ليس “كوفيد -19” أسوأ جائحة في التاريخ. لكن لا ينبغي لنا أن نخاطر بحياتنا. السنة ونصف السنة الماضيان كشفا كيف أن العولمة، والسفر الجوي، والتقارب المتزايد بين البشر والحيوانات- باختصار، الحداثة- جعلت البشرية أكثر عرضة للأمراض المعدية. من ثم، يتطلب الحفاظ على أسلوب حياتنا إدخال تغييرات عميقة إلى طريقة تفاعلنا مع عالم الطبيعة، وطريقة تفكيرنا بشأن الوقاية، والكيفية التي نستجيب بها لحالات الطوارئ الصحية العالمية. كذلك يستدعي من القادة الشعبويين التفكير في شؤون العالم أجمع. ففي الحقيقة، لا تجدي المصلحة الذاتية والنزعة القومية نفعاً عندما يتعلق الأمر بمرض معد قاتل يعبر أرجاء العالم بسرعة طائرة نفاثة وينتشر بوتيرة مهولة. في خضم الجائحة، تتلاقى الأولويات المحلية والأجنبية عند نقطة واحدة.
ما زال معظم الكوكب في حداد على أرواح كثيرة أزهقت منذ أن بدأت الجائحة. توفي ثلاثة ملايين ونصف مليون شخص في أقل تقدير بسبب كورونا. ويكابد كثيرون تأثيرات مستمرة للمرض لم تبرح أجسادهم. أما الخسائر المالية التي أسفرت عنها الجائحة فبلغت نحو 20 تريليون دولار، وفق التقديرات. عملياً، أحد لم يسلم من بعض الحزن أو الخسائر. الناس مستعدون لوصول الكابوس الطويل إلى خواتيمه. لكن في معظم المناطق، تختلف الحال. كتبت الفوارق الهائلة الوحشية رواية ديكنزية (نسبة إلى الروائي الإنجليزي تشارلز ديكنز) تحكي عن عالمين، حيث يهدأ المرض في بعض البلاد، بينما ما زال مشتعلاً في البعض الآخر.
الطبيبة النفسية الراحلة إليزابيث كبلر روس أوجزت مراحل الحزن التي يمر بها الناس فيما يتعلمون التعايش مع الفقد، وقد نالت شهرة واسعة وكانت مثيرة للجدل: الإنكار، والغضب، والمساومة، والاكتئاب، والتقبل. لقد خاض كل شخص تقريباً واحدة على أقل تقدير من تلك المراحل خلال الجائحة، علماً أن العالم ما زال من نواح كثيرة عالقاً في المرحلة الأولى، إذ ينكر ويرفض تقبل أن الجائحة لم تنته بعد. إلى تلك المراحل الخمس، أضاف العالم في أخلاقيات علم الأحياء ديفيد كيسلر مرحلة أخرى بالغة الأهمية، ألا وهي إيجاد معنى. من الخراب الذي حل بنا نتيجة “كوفيد- 19″، ينبغي أن تتضافر جهود العالم لبناء نظام دائم يخفف وطأة هذه الجائحة ويحول دون حدوث جائحة تالية. معرفة كيفية تحقيق ذلك ربما تمثل التحدي الأكثر أهمية في حياتنا.
* لاري بريليانت عالم أوبئة، ورئيس تنفيذي فيPandefense Advisory ، مؤسسة تساعد المنظمات في الاستجابة لـ”كوفيد- 19″، ومستشار أول فيSkoll Foundation.
* ليزا دانزيغ، طبيبة أمراض معدية وخبيرة في اللقاحات ومستشارة في Pandefense Advisory.
* كارين أوبنهايمر مستشارة في الاستراتيجية الصحية العالمية والعمليات ومديرة في Pandefense Advisory.
* أغاستيا موندال طالبة دكتوراه في علم الأوبئة وعلم الأحياء الحاسوبي في جامعة كاليفورنيا، في بيركلي.
* ريك برايت النائب الأول لرئيس “مؤسسة روكفلر” Rockefeller Foundation، ونائب مساعد وزير الصحة والخدمات الإنسانية للتأهب والاستجابة في الولايات المتحدة.
* دبليو إيان ليبكين، مدير “مركز العدوى والمناعة” والحاصل على أستاذية جون سنو في علم الأوبئة في “جامعة كولومبيا”، والمدير المؤسس لـ”التحالف العالمي من أجل الوقاية من الجوائح”، ومستشار في Pandefense Advisory.
@ مترجم عن فورين أفيرز
المصدر: اندبندنت عربية