عبد الباسط حمودة
فاز بايدن، جزئياً، بسبب رفعه شعار الهدوء في وجه الضجيج؛ واليومَ ماضٍ في طبع بصمة التهدئة والرتابة على سياساته الداخلية والخارجية، برغم ضخامة التحوّل خصوصاً نحو إيران وإسرائيل، ويبدو أن الرأي العام الأميركي، بأكثريته، مرتاح لخيارات رئيسه، ومتشوّق لتعافيه من آثار كوفيد-19 والعودة للحياة الطبيعية، وإعادة رصّ الصفوف بين الولايات المتحدة وحلفاء شمال الأطلسي (ناتو)، لحشد المواقف بمختلف الملفات، وأبرزها ملف الصين؛ وكان هذا واضحاً فيما صدر عن الاجتماعات التي حضرها بايدن في قمة السبع G7 وفي القمة الأميركية- الأوروبية؛ فالصين تبقى أولوية استراتيجية للولايات المتحدة، ولا بد من تمتين الشراكة الأميركية- الأوروبية كضرورة حيوية وأساسية لنجاح السياسة الأميركية الاستراتيجية بعيدة المدى نحو المُنافس الأكبر: الصين.
هذه العلاقة الأميركية- الأوروبية هي التي أدّت للانقلاب السريع على سياسات ترامب نحو إيران الذي سيُتوّج باتفاق خلال فترة ليست بعيدة، تفتح صفحة جديدة بعد إنجاح المتشدد رئيسي؛ وفريق بايدن لم يخفِ يوماً أن أولى مهماته إحياء الاتفاقية النووية مع إيران واستئناف العلاقات الودّية التي بنتها إدارة أوباما معها، فهو الفريق ذاته في العهدين، وهو على عهده نحو طهران بفصل المسألة النووية عن مسألة الصواريخ البالستية وعن السلوك الإيراني الإقليمي الخبيث، كما تصف إدارة بايدن السياسات الإيرانية الإقليمية، تعويضاً؛ واللغز يكمن بتقاطع العلاقات الأميركية- الإيرانية مع الأميركية- الإسرائيلية وما بينهما في علاقة باطنية إيرانية- إسرائيلية؛ لسببٍ ما، هناك ودٌ أميركيٌ شعبي نحو إيران برغم احتجازها لرهائن أميركيين بعد ثورتها لمدة 444 يوماً، وبرغم العداء المُعلن من حُكام طهران نحو أميركا في أكثر من عملية طالت دبلوماسيين وأميركيين عاديين وآخرها الصواريخ والمسيرات الموجهة ضد مواقعها في سورية والعراق، مع تهديدات صريحة من أبواق إيران في لبنان والعراق؛ فالأميركيون اختاروا التسامح مع إيران، اختاروا الخوف من قدراتها النووية ومشاريعها العالمية، قرّروا نسف العراق برمّته لأنه تجرّأ على الحلم بامتلاك قدرات مماثلة وأسلحة متطورة، وساهموا بقتل علمائه، اجتاحوه واحتلوه وتركوه تحت السيطرة الإيرانية، استخدموا إرهاب 9/11 كذريعة لكل ذلك، متناسين تماماً كل ما فعلته إيران قبل 9 أيلول/ سبتمبر 2001؛ ذلك التاريخ بات تاريخ العداء والكراهية للعرب بسبب تلك (الذريعة- الجريمة) والكذبة الفظيعة، لكن الكراهية الأميركية لم تولد يومها، بل هي تاريخية برغم كل ما قدّمه أتباعها من العرب نفطياً واستراتيجياً، ولعل السبب الأول هو إسرائيل، وثانياً الحسابات الاستراتيجية الأميركية في حرمان أمة العرب من أي تقدم.
لقد نفّذ أوباما لإيران كامل مطالبها: الاعتراف بشرعية النظام، الموافقة على حق إيران بامتلاك القدرات النووية المدنية والتي تحوّلت لقدرات نووية عسكرية، وعدم التدخل في سياسات طهران الإقليمية التوسّعيّة في الجغرافيا العربية، شريطة عدم إيذاء إسرائيل؛ وهذا تماماً ما تقدّمه إدارة بايدن لإيران الآن.
فماذا ستفعل السلطة الإيرانية مجسّدة بمرشدها مع انحسار الانتماء الديني شعبياً وفقدان تحكّم النظام بالمجتمع الإيراني؟ وما هي استراتيجية المرشد لرئيسي المعين عمليّاً، المجهّز لخلافته، وفرضه على الشعب الرافض للعمليّة الانتخابية التي قاطعها معظم الناخبين؟
مرحلة خامنئي- رئيسي ستكون لافتة لأسباب عدة، أبرزها:
- تنامي الروح القوميّة الفارسيّة وتحدّي النزعة الإسلاموية، ومُراقبة كيفيّة تعاطي النظام مع هذه الظاهرة براغماتياً، مع احتفاظه بعقيدة الجمهورية الإسلاموية.
- التحوّل الاستراتيجي بفكر فريق إدارة خامنئي- رئيسي وفعلها بضوء رفع العقوبات، لإنماء الأولويّة الاقتصادية والعسكرية بشراكة مع الصين وروسيا، بما يجهّز إيران الإسلاموية للوصول لمرتبة الدولة المسيطرة والمُهيمنة إقليمياً في غضون 3 سنوات برعاية بايدن، وهي الأولوية لنهضة يتصوّرها هذا الفريق.
يتحدّث هذا الفريق عن النهضة والترميم التي ستشكّل أولوية، كي تمضي إيران بتنفيذ هدفها الأول وهو أن تكون لاعباً فائق الأهمية في المنطقة، شرط عدم العودة عن مواقع النفوذ في دول المنطقة، ولا يرغبون كثيراً في خوض معركة مفتوحة مع إسرائيل حالياً؛ وأعلنوا أنهم يحتاجون 2- 3 سنوات للوقوف على قدمين، وبعد ذلك يمكنهم توجيه الضربات؛ وعليه فالسنتين أو الثلاث المقبلة يمكن استخدامها لمفاوضات الباب الخلفي بهدف استبعاد أي نزاع مباشر بين إسرائيل وإيران، وموسكو تلعب هذا الدور لتأجيل موعد النزاع المحتمل.
الواقع أن إسرائيل لا تبدو قلقة من الاندفاع الدبلوماسي والاقتصادي، الأميركي والأوربي، نحو إيران، وهي تتعاطى معه بهدوء كونها تمكّنت من اختراق إيران لتفعل ما تشاء، من ضرب مفاعل نطنز النووي وتغيير معالِمه، لاغتيال علمائه داخله وخارجه، فأكدت على منعها من امتلاك سلاح نووي، ولديها عملاء ووكلاء ونشطاء داخل إيران، وهي تتلقى المساعدة من داخل النظام ومن معارضيه؛ المهم أن لدى إسرائيل شبكة داخل إيران وصل اختراقها لدرجة خطيرة، مع قدرة خارقة في القرصنة ولإيران أيضاً قدرات متفوّقة فيها.
إيران دخلت مرحلة النهضة الاستراتيجية بعد الاستفادة من مرحلة الصبر الاستراتيجي، لإنعاش الاقتصاد وتجديد البلاد، هذا يتطلّب تجنّب الأخطاء والترفّع عن التحديات اليومية، وهذا ما قرّرت إدارة خامنئي- رئيسي اعتماده؛ وهي بحاجة لفترة من 3- 4 أشهر لترمّم علاقاتها وصفقاتها الاقتصادية مع أوروبا، لتكون نقطة الانطلاق للتجديد والإنعاش، ولفترة 3 سنوات لتكون قوّة عظمى إقليمياً، وتجهيز الاقتصاد والمؤسسة العسكرية لضمان قدرة طهران على الهيمنة إقليمياً، ومع مرور 3 سنوات على رئاسة بايدن، سيكون أضعف مما عليه الآن، وستستغلّ إيران هذا الضعف لبسط سلطتِها وهيمنتها إقليمياً بفضل رفع بايدن للعقوبات النفطية عنها أولاً، والتي ستستفيد منها الصين وروسيا معاً: الصين التي تُصقل موقِعاً استراتيجياً لها في إيران وتحتاج نفطها، وروسيا المتأهِبة لاستخدام أموال رفع الحظر النفطي لتسليم صفقات الأسلحة الضخمة لطهران؛ وسيقف رئيسي على ساقين، روسيا والصين، بحيث تقوم الأولى بتجهيز ماكنته العسكرية وتحديثها، وتقوم الثانية بصقل شراكته الاستراتيجية. وكلاهما يدعم قدراتها النووية؛ هذا ما يرضي إدارة أميركية تقنّن كامل جهودها في ضمان نجاحات آنيّة لجو بايدن في توطيد العلاقات الأميركية- الأوروبية وإشاعة مواجهة الصين شرقاً وليس في مناطق النفوذ التي تقوم الصين بصقلها، إيرانياً وشرق أوسطياً.
بعد 3 سنوات، تكون إيران أقوى وأغنى، وأكثر قدرة على تنفيذ مشاريعها العدائية في المنطقة العربية، من العراق لسورية للبنان فاليمن؛ وبهذه الأثناء يكون المجرم رئيسي قد تمكّن من تدعيم حكمه وتنفيذ مشروع إحياء إيران العظمى، مستفيداً من نزعة قوميّة فارسية لتحقيق النهضة الاستراتيجية، ويتمكّن من امتصاص كراهية شعبه لقيادته الدينية وحكمها الثيوقراطي، فيما يستعدّ لوراثة خامنئي؛ فجذب اهتمام الناس على إنماء الاقتصاد وعلى القوميّة الفارسية سيخدم عمليّاً لتحويل الأنظار عن الاستبداد الثيوقراطي، وسيساهم بإخفاء الوجه الديني مرحلياً لإلهاء جيل الشباب بالذات بانطباع التغيير؛ لكن فعليّاً، ستزداد إيران تمسّكاً بهويتها الدينية، وبتحكّم مرشدها، وسيطرة حرسها “الثوري” على سياساتها الخارجية، وستتمكّن من تعزيز مشروع “هلالها الفارسي” الذي في ذهنها، لكن بصورة أكثر حذاقةً وأقل استفزازاً، وستستخدم أدواتها في المنطقة العربية للاحتفاظ بنفوذها وسيطرتها عبرهم من خلال معادلة الفوضى واللّعب على أوتارها كما تشاء، ساعةً لإطلاقها وساعةً لاحتوائها حسبما تقتضيه مصالحها، واستخدام “القوة الناعمة”، لكنها لن تتخلّى عن عقيدتها واستراتيجيتها الإقليمية والدولية.
ما تريده إيران الآن هو الاستمرار في الحديث مع الدول الخليجية، شرط أن تعي هذه الدول أن إيران هي التي تقرّر شكل النظام الأمني المستقبلي، قد تريد الهدوء والاطمئنان، بحيث يتم التفاهم والتقاسم بالنفوذ، ولهذا فإن المحادثات الإيرانية- السعودية ستكون مستمرة في فترة رئيسي ويسعى وراء صفقة اقتسام مناطق النفوذ على نسق الصفقة بين النازيين والسوفيات التي وُقِّعت في آب/ أغسطس 1939 وأدّت لتقسيم بولندا.
أخيراً لا عزاء للمغفلين والحمّقى من العرب، المطبّعين وبائعي أوطانهم، المفرّطين بالعمل العربي المشترك إرضاءً لمزاعم أميركية كاذبة، وتواطؤ مع عدوان صهيوني/ صفيوني مشترك مدعّم بغطرسة ودجل أوربي واضح معزز بنفاق روسي صيني.
المصدر: اشراق