د. مخلص الصيادي
منذ أشهر عدة ونحن نتابع مسار الاستعصاء السياسي في تونس، وهو استعصاء ساهمت فيه جميع القوى السياسية التي ترسم أبعاد المشهد السياسي في هذا البلد الذي يعتبر آخر محطة من محطات الربيع العربي التي نجت من عمليات التخريب التي شهدتها بلدان الربيع الأخرى، وبالتالي باتت أعين المراقبين ترنو إليه بين مشفق وخائف مما يحاك له وبين متربص وشامت، ولعل مما زاد هذا المشهد بؤسا أن رافقته أزمة اقتصادية خانقة تنتمي في جذرها إلى نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن على، لم تستطع الحكومات اللاحقة أن تتصدى لها، ولم تستطع أن تخرج من منظومة الفساد التي تمسك بكل مفاصل الاقتصاد التونسي، كما رافقته الآثار المدمرة لوباء كوفيد 19 بعدما أثبتت الحكومة التونسية وأجهزتها عجزا بينا في التعامل مع هذه الجائحة التي ضربت وما تزال بعنف الحياة العامة، وباتت المنظومة الصحية بأكملها في حالة عجز عن الاستجابة ولو الجزئية لتحدي الوباء، مما دفع برئيس الجمهورية أن يسند للقوات المسلحة التعامل مع الجائحة.
والحق أن الفهم الدقيق لمجريات ما يجري في تونس يستدعي منا أن نقر بأن تطور العمل السياسي في هذا البلد خلال الفترة الأخيرة تميز بعاملين اثنين لهما أثر بيٍنٌ، بل وحاسم في هذا المشهد:
العامل الأول خاص برئيس الجمهورية:
إذ تم انتخاب أستاذ القانون الدستوري “قيس سعيد” رئيسا للجمهورية في 13 أكتوبر 2019 وبأغلبية ساحقة تجاوزت 72% من أصوات الناخبين، وجاء فوز “سعيد” من خارج السياق السياسي والحزبي في تونس، وبالتالي فإنه رئيس “خارجي طارئ” على الحياة السياسية والحزبية، أي أنه لا تربطه أي التزامات تجاه أعضاء البرلمان التونسي، وكتله وبرامج هذه الكتل، والرابط الوحيد يتمثل فقط في” الدستور التونسي”. وعلى مدى مسيرة “سعيد” الرئاسية التي مضى عليها أقل من عامين غطت جائحة كوفيد 19 معظمها، ظهرت الطبيعة الخاصة للرئيس في تناوله وتفاعله مع الأحداث، وظهرت لغته وإشاراته ونمطه التفاعلي خارج عن مألوف السياسة التونسية والسياسة العربية على حد سواء، وكلت هذه الطبيعة حرجا لقوى عديدة داخل تونس وخارجها.
العامل الثاني خاص بالدستور التونسي:
فقد أقر الدستور التونسي الجديد في العام 2014 على وقع ربيع تونس، وبدافع الظرف والمرحلة صيغ هذا الدستور على نحو يقطع مع احتمالية الانفراد في الحكم ويعمل على توزيع السلطات بشكل قلق بين الأطراف المختلفة، فهو بهذا الشكل دستور متأرجح بين البرلماني والرئاسي، ويبرز قلق الدستور حينما يقع خلاف بين الرئيس ورئيس الحكومة، وحينما لا تتمكن قوة سياسية من الحصول على الأغلبية لتشكيل حكومة، وكذلك في علاقة وتبعية القوى المسلحة وأجهزة الامن باعتبارهما “جيش وأمن جمهوري” مع الرئاسة أو الحكومة “الفصل 18+19″، وفي عدم وجود وضوح كاف في توزيع الصلاحيات بين أطراف السلطة الثلاثة: رئيس الجمهورية ، رئيس مجلس نواب الشعب، رئيس الحكومة.
وقد لحظ قيس سعيد هذه الحالة في الدستور لذلك جعل الدعوة إلى تعديله مكونا من مكونات برنامج حملته في انتخابات الرئاسة، لكن رئيس مجلس نواب الشعب راشد الغنوشي وهو في الوقت نفسه الأمين العام لحركة النهضة استمر معارضا لإدخال أي تعديل على الدستور معتبرا أن الخلل ليس في الدستور وإنما في عدم تطبيق مواده، وحال هذا الخلاف والتصارع دون تشكيل المحكمة الدستورية التي نص عليها الدستور والتي تتشكل من اثني عشر عضوا يختار أعضائها بالتساوي كل من رئيس الجمهورية ورئيس مجاس نواب الشعب ومجلس القضاء الأعلى الفصل 118، ويعود لهذه المحكمة وفق الفصل 101 البت في دستورية القوانين الصادرة، والنظر في التدابير الخاصة التي يأخذها رئيس الجمهورية لمواجهة الحالات الطارئة المهددة لكيان الوطن وأمنه.
وعدم تشكيل هذه المرجعية الدستورية نتيجة خلافات الأطراف المعنية إذ يعكس الخلل في بنية الدستور من هذه الزاوية فإنه يفقد القوى المختلفة فرصة البت في مشروعية الإجراءات والقرارات الطارئة المتخذة.
الرئيس سعيد الذي اتخذ أمس قرارات بتجميد مجلس النواب لمدة ثلاثين يوما ورفع الحصانة عن أعضائه، وإعفاء الحكومة، وتسلم زمام المسؤولية التنفيذية، فعل ذلك استنادا إلى الفصل 80 من الدستور، ويتيح هذا الفصل اتخاذ تدابير استثنائية، لكن بعد مشاورة رئيس مجلس نواب الشعب ورئيس الحكومة،
وقد أعلن سعيد أنه شاورهما بأنه بصدد اتخاذ قرارات استثنائية، ويعترف الغنوشي أنه لم تمت مشاورته ورئيس الحكومة هشام المشيشي في اتخاذ التدابير الاستثنائية كما ينص الدستور، لكن لم تتم مشاورتهما في طبيعة وتفاصيل هذه الإجراءات.
وقد حرص الرئيس على إظهار تأييد المسؤولين العسكريين والأمنيين لهذه القرارات من خلال لقائه معهم في القصر الرئاسي.
الرئيس ضمًن قراراته تجميد عمل مجلس نواب الشعب، لكن الفصل 80 المشار إليه يشير إلى أنه في حالة اتخاذ هذه القرارات الاستثنائية يعتبر مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طوال فترة الثلاثين يوما. أي أنه لا يجيز تجميد عمل مجلس النواب.
الرئيس سعيد اتخذ قراره بالتصدي لحالة العطالة التي أحاطت بمجمل الحياة السياسية والاجتماعية والصحية، والتي أرخت بظلالها على جميع مكونات المجتمع التونسي، ولا شك أن قرارات الرئيس شكلت تحديا كبيرا للقوى السياسية في تونس، وأيضا للقضية الديموقراطية فيها، وسيكون على الرئيس وعلى مجمل هذه القوى أن تتعامل مع هذا الظرف الجديد بحكمة بحيث تستطيع الخروج من حالة العطالة وفي الوقت نفسه أن تحافظ على البناء الديموقراطي في هذا البلد، وهذا البناء هو المكسب الرئيس المتبقي من ربيع تونس.
يجب على الأطراف المختلفة في تونس أن تثبت قدرة الديموقراطية على تصحيح أخطاء وعقبات التطبيق، وقدرتها على إجراء التغييرات المطلوبة شعبيا والتي كانت وراء ثورة هذا الشعب وربيعه الحقيقي، إن الديموقراطية لا تحتاج إلى وسائل من خارجها لمعالجة أي عجز أو خلل تقع فيه القوى السياسية، إذ فيها من الوسائل القانونية والشعبية ما هو كفيل بالتصحيح والمعالجة.
نحن نرصد حقيقة أن القوى السياسية التونسية فشلت في تحقيق الأهداف التي ثبتها دستور 2014 باعتبارها حق من حقوق الشعب التونسي: حق العمل والصحة والكرامة والأمن والعدل والتعليم والثقافة والشفافية ومحاربة الفساد وكلها مثبتة في الباب الثاني من الدستور بفصوله الممتدة من 21 حتى 49. ولع التظاهرات والاحتجاجات التي شهدتها تونس مؤخرا جاءت دليلا إضافيا على مدى الإحباط الشارع مما يحدث، وإنذارا بإمكانية انفجار الوضع الشعبي في مختلف أنحاء تونس.
لكن المكسب الحقيقي في معالجة هذا الفشل يتحقق من خلال تفعيل العمل الديموقراطي، والبنى الديموقراطية، ومن خلال اثبات أن الديموقراطية تملك من وسائل وطرق التصحيح والعلاج ما يمكنها من تحقيق مراد المجتمع وأهدافه.
التحدي كبير، وهو يقع على عاتق جميع القوى والأحزاب السياسية، ومنها بالتأكيد اتحاد الشغل التونسي الذي يحظى بمكانة خاصة وتأثير خاص في الضمير التونسي وفي جراك الشارع التونسي، وقد عبر أمس أمينه العام “نور الدين الطبوبي” عن تخوفه من خطورة الأزمة التي تعصف بالبلاد، مشيرا إلى أن “مؤسسات الدولة تفككت والمنظومة الحاكمة الحالية انتهى توقيتها”، ومعترفا ب”أن هذه الأزمة التي تعيشها البلاد ليست وليدة اللحظة ولكنها تراكمات لعدة لعديد من السنوات بعد الثورة”
ويقع على عاتق رئيس الجمهورية بحكم تحمله المسؤولية أن يحفظ ديموقراطية البلد، ويصون أبنيتها، ويفتح قنوات لتفعيلها، إذ ليست الديموقراطية لعبة تمارسها القوى السياسية وإنما مسؤولية تجاه المجتمع تتحملها مختلف قوى هذا المجتمع.
وقد يكون مهما في هذه الأيام الحساسة في المشهد التونسي أن يتم إبعاد كل الدول والقوى الخارجية عن تطورات الوضع، مهم أن يكف الخارج كله عن التدخل في الشأن التونسي سواء جاء التدخل على صورة تأييد أو معارضة أو فتاوى تعزيز أو تجريم، هذا الطرف أو ذاك، فكلها لا نتاج لها إلا زيادة حدة التوتر في الشارع التونسي، وإلا تعطيل عملية التفاعل والتعامل الإيجابي بين القوى التونسية.
وقد لا نكون مخطئين إذا قلنا إنً جلً إن لم نقل كلً ” الخارج المؤثر” لا يريد الخير لتونس، التي تحدت الحياة السياسية العربية النمطية وعملت عبر السنوات الماضية على صوغ طريق خاص لها.
مهم أن تقتنع القوى السياسية المختلفة في تونس بضرورة إبعاد الخارج ولا تنزلق لمغرياته، فليس فيه إلا الدمار والتخريب للبنية الوطنية للشارع التونسي ولقواه المختلفة.