حسن النيفي
غالباً ما يتزامن حديث السوريين بين بعضهم البعض عن قضايا مستقبلهم، بجملة من المؤثرات منها ما هو خارجي طارئ، ومنها ما هو دفين كامن، حيث تسهم هذه المؤثرات بانزياح مسارات أحاديثهم وحواراتهم الجادة من مجالها الواقعي إلى مجالات أخرى ذات صلة بالعقائد والأفكار والرغبات، أكثر من ارتباطها أو صلتها بواقعهم المرير.
مفهوم ( اللامركزية السياسية أو الفدرالية) كان وما يزال أحد الشواغل لقطاعات واسعة من النخب السياسية والثقافية السورية على مدى أعوام،وذلك في سياق البحث والتفكير في إنتاج تصورات مستقبلية لسورية الجديدة، وربما بدا ذلك في غاية المشروعية، إذ من حق السوريين التفكير في الشكل الذي يرونه مناسباً للحكم وإدارة الدولة في المستقبل الذي ينشدونه، إلّا أن المتابعة الدقيقة لهكذا نشاط ثقافي وسياسي لا يمكن أن تتجاهل عدّة وقائع، كانت تؤثر تأثيراً مباشراً بارتفاع أو انخفاض وتيرة الحديث حول الفيدرالية، ولعل من أبرز تلك الوقائع:
أولاً – لم يكن مفهوم ( الفيدرالية) مطروحاً بالزخم الذي نراه إلّا في نهايات العام 2016 ، أي بعد سقوط القسم الشرقي من حلب، وبداية التراجع العسكري للفصائل المناهضة لنظام الأسد، ومن ثم استمرار الروس بتمكين نظام الأسد من استعادة السيطرة على العديد من المدن والبلدات التي كانت خارج سيطرته.
ثانيا – ظهور مسار ( أستانا ) في بداية العام 2017 ، كمسار موازٍ لجنيف، حيث استطاعت روسيا من خلال هذا المسار الالتفاف على القرارات الأممية ( جنيف 1 – 2012 – 2118 – 2254 ) ، واختزال العملية السياسية بعمل اللجنة الدستورية مجهولة المصير.
ثالثاً – اقتحام قوات النظام مدعومة من روسيا وإيران لكل من الغوطة الشرقية والقلمون، ومن ثم مدينة درعا عام 2018 ، وقبول الفصائل المقاتلة بالدخول في تسويات نتيجة الخيارات الضيقة المتاحة أمامها، ثم نقض نظام الأسد لتلك التسويات وعودته إلى حصار درعا منذ نهاية حزيران الماضي، بهدف اقتحامها من جديد وإخضاعها لسيطرته.
لا شكّ أن كل ما سبقت الإشارة إليه قد أسهم في تكريس النفوذ الإقليمي والدولي على الجغرافية السورية التي باتت أوصالها متقطعة، تخضع كل قطعة منها لسلطة أمر واقع تستمد مشروعية وجودها من حيازتها للقوة التي تمكّنها من بسط سلطتها بكل ما تملكه من وسائل، الامر الذي ترك آثاراً كارثية على حياة المواطنين وسبل عيشهم ومقوّمات أمنهم، فضلاً عن أن سوء الأحوال المعيشية وافتقاد الأمن وافتقار معظم المناطق والمدن السورية للخدمات الأساسية الضرورية، قد تزامن اطراداً مع حالة استعصاء سياسي على مجمل المسارات التفاوضية، الأمر الذي أسهم في تعزيز القنوط واليأس لدى قطاعات واسعة من السوريين، وبات حلم التغيير يصطدم باقتصار المجتمع الدولي على إدارة الأزمة في سورية وليس السعي من أجل إيجاد حل سياسي للقضية السورية.
لعله من الواضح أن جميع قوى الثورة والجماعات المعارضة لنظام الأسد، قد أخفقت حتى الوقت الراهن بمواجهة الاستحقاق الجوهري للثورة، والذي يتمثل بإزالة نظام الأستبداد الأسدي، وعوضاً عن إعادة التفكير والمراجعات العميقة والجذرية لبواعث وتداعيات ذلك الإخفاق في القدرة على إزالة العقبة الأساسية التي تحول دون أي تغيير منشود، فقد رأت بعض الجماعات السياسية والثقافية أن بإمكانها الالتفاف على الاستحقاق الجوهري للثورة، من خلال طرح بدائل أخرى، في مقدمتها المطالبة بنظام فدرالي، أو بتطبيق اللامركزية السياسية، إعتقاداً من هؤلاء بأن هذه الخطوة من شأنها أن تقوّض المركزية الشديدة لنظام الأسد – سياسياً وإدارياً – وبالتالي تكون هي الخطوة الأهم في عملية تفكيك الإستبداد.
لعلّ اللافت للانتباه، ان طبيعة الطرح الفيدرالي ضمن هذا السياق من الأحداث والظروف السالف ذكرها، قد جعله موسوماً بعدّة سمات، أهمها: إن الاتجاه نحو المطالبة بتطبيق نظام فيدرالي انطلاقاً من الواقع السوري الراهن بما ينطوي عليه من تمزّق وتعدد سلطات أمر واقع لا تحمل أية مشروعية شعبية، ما هو إلّا تكريس للحالة الاستبدادية بدلاً من تفكيكها، وبما أن الحدود المرسومة بين مناطق النفوذ هي حدود رسمتها الحرب، أي أنها وُجدت نتيجة تصارع موازين القوى على الأرض وليس نتيجة لأي باعث آخر، فإنها – والحالة هذه – قابلة للتبدّل والتغيير وفقاً لتغيّر موازين القوى أيضاً، أضف إلى ذلك أن الأكثر حماساً لمفهوم الفيدرالية لم يتمكنوا في الغالب من تقديم رؤى مقنعة حول طبيعة الفيدرالية التي ينشدونها، أهي تستند إلى مقوّمات واقعية عرقية أم دينية أم جغرافية؟. وفي ظل غياب المقوّمات المقنعة والدراسات الدقيقة التي تجعل من وجهات النظر وقائع دالّة وليس رغبات، يتحول الحوار أو الحديث عن الفيدرالية إلى حالة من الجدل التي لا تحتكم إلى حاجات السوريين الواقعية وذات الأولوية، بل إلى مخزون دفين من حالة عدم الثقة واستحضار رواسب وقناعات إيديولوجية ربما يدّعي الجميع تغييبها أو تجاوزها، إلّا أنها حاضرة، ولإدراك ذلك، يكفي أن نجد النهاية المعهودة لأي طرفين متحاورين تتحدّد باتهامين متقابلين: طرف يسعى إلى شيطنة أي طرح فيدرالي باعتباره مشروعاً إنفصالياً مرتقباً، بينما الطرف الآخر يتهم نظيره في الحوار بالنزعة الشوفينية والعروبية العنصرية، وكلا الاتهامين لا يستمدّان فحواهما من وعي عميق ومسعى جدّي لاستقراء الواقع السوري والوقوف عند المفاصل المعطِّلة للتغيير، بقدر ما يمتحان من مخزون اللاثقة والريبة التي لم يستطع السوريون تجاوزها حتى الآن.
ما يمكن تأكيده، أن السوريين كانوا على مدى نصف قرن، ضحايا ( مركزية مركّبة) المركزية الشديدة للإدارة التي يتضمنها الدستور الحالي لنظام الحكم، والتي يعزز من مركزيتها النظام الرئاسي الذي يتيح للحاكم القبض على صلاحيات مذهلة، وكذلك ( مركزية السلطة) التي تعني حيازة جهة أو جهات محددة – الحاكم – الجيش – المخابرات – لمجمل السلطات، بل التغوّل على الدولة ودستورها وقوانينها، والعمل وفقاً لما يخدم المصالح السلطوية للحاكم، بل ربما بلغت السلطة في سورية درجة من التوحّش والدموية أزالت بفعلها أي ملمح مؤسساتي يحيل إلى الدولة ككيان يحكمه الدستور والقوانين، بقدر ما عزّزت القناعة بأن سورية ليست في نظر حاكمها سوى ملك عضود لا يمكن التخلّي عن حيازته.
لقد أدّى استفحال المظالم وتداخلها بفعل تداخل منظومتين مركزيتين ( الإدارة والسلطة) إلى ردّات فعل شديدة، غالباً ما تحكمها الرغبة بالتمرّد والنفور والريبة الشديدة من الأطر المركزية سواء الإدارية أو السياسية، ولئن كان لهذا السلوك ما يبرّره نظراً لما عاناه السوريون من عقود مليئة بالاضطهاد، إلّا أن بناء دولة الحرية والقانون والديمقراطية لا يمكن أن يتقوّم على ردّات الفعل مهما كانت وجاهتها.
المصدر: تلفزيون سوريا