د- عبد الناصر سكرية
أثارت أحداث الأسابيع الأخيرة في أفغانستان وإنسحاب قوات أمريكية منها بطريقة هوليودية تمثيلا وإخراجا ؛ سجالات طويلة متنوعة شغلت أغلب المتابعين والناشطين العرب المعنيين بالحدث محللين ومستبصرين تبعات مستقبلية له على مستوى أفغانستان ذاتها وطبيعة الحكم المقبل فيها وما سيطبقه من ” الشريعة الإسلامية ” وكيف سيكون حال المراة والديمقراطية وحقوق الإنسان فيها..قلة من المثقفين العرب الذين حللوا تلك الأحداث من زاوية صلتها بما يجري على الساحة العربية علاقة طالبان بنظام الملالي الحاكم في طهران والمشروع الإيراني في المنطقة العربية كلها..
وعلى الرغم من أهمية معرفة نظام الحكم الجديد وسياساته الداخلية وطبيعته الحقوقية والتشريعية وأية أنظمة وقوانين سوف يطبقها إجتماعيا وثقافيا وإقتصاديا ؛ إلا أن معرفة علاقاته الخارجية وتحالفاته المقبلة وصلاته بالحركات ” الدينية ” الناشطة في المنطقة العربية وشكل علاقته المقبلة بجارته إيران ومشروعها الشعوبي المعادي للعرب ؛ تكتسب أهمية أكبر إلى درجة تجعل من تحليل ما حدث وتشخيص الانسحاب الاميركي جيدا وتشخيص طبيعة حركة طالبان وخلفياتها التاريخية ؛ ضرورة لوضع تصور مستقبلي واضح لآستراتيجيات القوى الأجنبية والإقليمية ذات المشاريع العدوانية في بلاد العرب ؛ وفي طليعتها الولايات المتحدة الامريكية وإيران ..
إن معرفة كل هذه الأمور معرفة سليمة تتوقف على معرفة حقيقة الموقف الأميركي وتطور علاقاته بأفغانستان ثم بحركة طالبان منذ نشأتها وصولا إلى الإنسحاب الدراماتيكي السريع من بلادها وتسليمها لطالبان ..وهذا يستدعي بدوره معرفة الإستراتيجية الأميركية للعالم الثالث في العقود الخمسة ألمنصرمة ..بدأ التواجد العسكري الأميركي في أفغانستان بعيد الإحتلال السوفييتي لها لحماية نظام الحكم الشيوعي فيها..ولأن شعب افغانستان مسلم فقد أعلنت أميركا النفير ” الجهادي ” لمحاربة الشيوعية فتدفق عشرات آلاف الشباب المسلم إلى أفغانستان مدفوعي الأجر منظمين مدربين في معسكرات المخابرات الأميركية ومن بيئة هؤلاء أنشأت السي آي إي الاميركية ما يسمى بتنظيم القاعدة ليكون غطاء وإطارا لهم في حربها ضد الإتحاد السوفييتي الشيوعي.. ومع خروج السوفييت من أفغانستان فقدت القاعدة أهميتها الإستراتيجية كأداة صريحة للسياسة الأمنية الأمريكية…ولكنها سرعان ما إستعادت أهمية أكبر واخطر بعد سقوط الإتحاد السوفييتي الخصم العقائدي للنظام الرأسمالي العالمي ..إنما كعدو للولايات المتحدة – ظاهريا وظاهريا فقط..
مع سقوط العدو الشيوعي إحتاج النظام الرأسمالي العالمي إلى عدو خارجي جديد يستخدمه كغطاء لتبرير كل إجراءاته حول العالم وهي التي تقوم على منع قيام أية تجارب وطنية مستقلة عن الارادة الاميركية تمهيدا لفرض هيمنة سياسية أميركية كاملة تسمح لها بنهب خيرات العالم وموارده الإقتصادية لا سيما السلع الإستراتيجية كافة..
وجدت اميركا في الإسلام غايتها المنشودة فجعلت منه عدوا مستجدا يهدد ليس فقط مصالح الغرب الرأسمالي إنما يهدد أيضا أسس الحياة الديمقراطية والحضارة الغربية القائمة على الليبرالية والعلمانية..
وهكذا تبدلت علاقة اميركا بتنظيم القاعدة من أداة صريحة صديقة إلى أداة مخفية صديقة تمارس الدور الأخطر المطلوب بأن تمثل دور ذلك العدو ” المسلم ” الذي يهدد الغرب وحضارته وديمقراطيته..
وهكذا كان فنقلت القاعدة بما فيها آلاف الشباب المسلم إلى معسكر مقابل ودور جديد سوف تكون له تداعيات مستقبلية خطيرة على الوضع العالمي..
ومن رحم القاعدة ودورها الجديد إستولد الأميركيون حركة طالبان فكانت حركة منظمة ذات إمكانيات تمتعت بدعم نظام باكستان الموالي لأميركا وبدعم أجهزة إستخبارات أميركا ومؤسساتها الإعلامية التي أخرجتها بصياغة متطورة ذات دور مواجه للسياسة الأميركية في العالم الإسلامي..وبسرعة لافتة إكتسبت طالبان إمكانيات كبيرة وتمتعت بفعالية ميدانية ملحوظة ..ثم تسلمت حكم افغانستان لسنوات محدودة لتصنع المبرر الأمني لغزو أفغانستان عسكريا من قبل الولايات المتحدة…وهذا ما حصل ..
وقد إكتسبت فكرة إيجاد أدوات دينية – إسلامية تعادي أمريكا ظاهرا وتأتمر بثوابتها الإستراتيجية ؛ إكتسبت أهميتها من أمرين أساسيين :
– الأول : كانت الاستراتيجية الاميركية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ترى أن الفرصة مؤاتية لها للسيطرة التامة على العالم أجمع..وقد أعلنت دوائرها الفكرية والبحثية هذه الرغبة وأفصحت عنها صراحة لا مواربة فيها ..وهي تحتاج إلى أدوات ومبررات تشكل ذرائع لها لتعميم تدخلاتها وهيمنتها على دول العالم لا سيما العالم العربي والإسلامي..
– الثاني : كانت الوقائع الحياتية في داخل مجتمعات الغرب الرأسمالية تشير إلى تراجعات عميقة في المثل الليبرالية ذاتها وفي النموذج الغربي الرأسمالي كله..وقد كانت الأصوات التي تحذر من إنهيار النموذج الرأسمالي بعد تفاقم مواصفاته الإمبريالية ؛ تصدر من نخب غربية ومراكز بحثية غربية..بمعنى أن النظام العالمي الذي يقوده النموذج الرأسمالية يكاد يصل إلى طريق مسدود وكانت تناقضاته الطبقية والإجتماعية وتفاوت الثروات وارتفاع الفوارق بشكل خطير وإزدياد التضخم والبطالة وإرتفاع الطلب على الرعاية الإجتماعية بسبب تفاقم أزمات إقتصادية وحياتية متعددة ؛ تنذر بمستقبل أسود قاتم له..الأمر الذي خلق حاجة ماسة ملحة لتحوير الحقائق الحياتية للناس وتحويل إهتماماتهم وإشغالهم بعصبيات ديماغوجية تثير عواطفهم وإنفعالاتهم بعيد عن وقائع حياتهم ومصائرهم ؛ فكانت المسألة الدينية وما تثير من تعصب وتشنج وتوتر هي الملاذ الذي تم اللجوء إليه والإستعانة به..
وهكذا تزايدت أهمية أدوات دينية تأخذ الناس بعيدا عن حقائق حياتهم من جهة ومن جهة ثانية تثير فيهم من الإنقسامات والصراعات المذهبية والدينية التي تشكل غطاء لإشعال الحروب من جهة ولتدخل النظام العالمي من جهة أخرى..وكان هذا ما حصل منذ سقوط الاتحاد السوفييتي وتحول القاعدة الى عداء مكشوف – مصنوع مع الولايات المتحدة الاميركية ..ثم رفدتها فيما بعد بحركة طالبان الأفغانية..
وقد وصل الإستخدام الأمني لهذه الأدوات الدينية إلى ذروته مع تفجيرات ١١ سبتمبر ٢٠٠١ والتي كانت الذريعة المباشرة لإطلاق إستراتيجية محاربة الإرهاب على مستوى العالم وهي التي كانت مبررا ذرائعيا لغزو أمريكي عسكري مباشر لكثير من دول العالم وتحديدا في البلاد العربية..وقد تصاعدت الضغوط الأميركية على كل دول العالم حتى جعلت من شعار محاربة الإرهاب هدفا عالميا مشتركا فيما هو ذريعة لسوق الجميع في نطاق استراتيجية العمل الأميركية وسعيها للإمساك بمقدرات العالم الإقتصادية ومواقفه السياسية..
وفي إستراتيجية محاربة الإرهاب تكتسب تلك الأدوات الدينية المتزمتة المغلقة المتطرفة أهميتها الفائقة ..إذ من دونها يسقط كل كلام عن الإرهاب ومحاربته..
كان العالم العربي والأسلامي هو المجال الحيوي لتلك الاستراتيجية ..فهو الإمتداد الجغرافي المطلوب السيطرة التامة عليه وإعادة تشكيله وفقا للرؤية الصهيونية – الأميركية وتقسيمة وتدمير مقوماته الوجودية بما يضمن فقدانه القدرة على النهوض مجددا أو تكرار تجارب البناء والتقدم من جديد..
كان تجربة النظام الوطني في العراق خطرا يهدد مصالح الغرب الإستعماري وقاعدته الإسرائيلية بتحقيقها ثلاثة أمور أساسية جعلت منها هدفا مباشرا :
الاول : خروج العراق قويا متماسكا منتصرا بعد حربه ضد إيران ..
الثاني : قوة إقتصادية وعلمية وأكاديمية ووحدة شعبية داخلية جعلت من العراق في أواخر ثمانينات القرن العشرين أهم قوة عربية تجمع العلم والإقتصاد والموارد البشرية المتميزة الى جانب النفط والمياه..
الثالث : ألإلتفاف الشعبي العربي العارم مع القيادة العراقية في الحرب مع إيران ولا سيما ما تبلور خلالها من تلاحم عربي خليجي مع العراق وهو ما أفزع الغرب وقاعدته الصهيونية..
وقد شكلت هذه العوامل الثلاثة أهم الأسباب للتدخل العسكري الأمريكي المباشر في المنطقة بعد عقود من الإعتماد على الحلفاء المحليين والأدوات المحلية والإقليمية دون تدخل عسكري واضح..
وقد مثلت الحرب الأميركية على التجربة الوطنية العراقية ذروة التدخل العسكري المباشرة وذروة الحاجة إلى أدوات محلية دينية وهو ما فتح أبواب التكامل والتناغم الأمريكي مع نظام الملالي الديني المذهبي الحاكم في إيران..
أما وقد إستطاعت أميركا ضبط إيقاع الأحداث في المنطقة العربية ومحيطها الإقليمي كاملا ؛ على أنغام مصالحها وسياساتها وأهدافها الإستراتيجية خلال ثلاثة عقود هي عمر تواجدها العسكري المباشر في المنطقة ؛ ونجحت في تأسيس تشكيلات سياسية وحزبية وميليشيوية وزعامات فردية ونخب متنوعة تأتمر بأمرها وتدور في فلك إستراتيجيتها العليا ؛ ووضعت لها دساتير مليئة بالأفخاخ الطائفية والمذهبية والتبعية ؛ فلم تعد محتاجة للتواجد العسكري المباشر لجنودها وبأعداد كبيرة وفي تجمعات واضحة علنية..
ولهذا أعلنت أنها ستنسحب من العراق سابقا ثم تعلن اليوم إنسحابها من أفغانستان..
وإمعانا في سياسة الخداع والمناورات ؛ أهدت إنسحابها إلى ذات الأدوات الميليشيوية المتطرفة التي صنعتها أجهزتها الأمنية لكي تستمر في لعب دور العدو الديني الذي يحارب الغرب ويجسد الإرهاب الذي ينبغي إجتماع العالم على محاربته تحت قيادة أميركا ..
خلاصة القول أن الانسحاب الاميركي من أفغانستان وتسليمها لحركة طالبان إنما هو إنطلاق استراتيجية أميركية جديدة تعتمد على أدوات محلية صنعتها ورتبتها ودعمتها وأهلتها لإستلام السلطات المحلية لتكون بديلا عن وجودها العسكري المباشر .مع الإبقاء على أمنيين خبراء وعملاء وصنائع محلية أكثر إلتحاما بالمصالح الأميركية حتى من بعض العسكر الأمريكان..كما هو حاصل في العراق ويتوقع أن يكون حال أفغانستان..
ويبقى الهدف الهام للغرب الراسمالي بتقديم الإسلام كنموذج متخلف يهدد البشرية من جهة ؛ وإبراز نموذجين منه أحدهما سني يحكم أفغانستان والآخر شيعي يحكم إيران…ولا بد أن يتصارعا ليفنى العرب والمسلمون على أيديهم ..
كلاهما يعيق تحرر المسلمين وإنطلاقهم للتحرر والنهضة والتقدم..فهما أدوات إستنزاف وإستجرار للصراعات الأهلية وإستهلاك الطاقات في الفناء الذاتي المتبادل..
وكلاهما على صلة مباشرة بالأحداث في بلادنا العربية بطريقة لا تبشر بخير ولا تقيم للمصلحة العربية إعتبارا..
فهل يتعظ سلاطين العرب فيتنبهون ويغيرون بعضا من سياساتهم العقيمة ؟؟
وحدها الحركة الشعبية المنظمة تستطيع التأثير الميداني لخلق معادلات نهضوية توحيدية جديدة..
المصدر: كل العرب