كشفت مسيرة العودة التي شهدها قطاع غزة في الذكرى (42) ليوم الأرض، عن حقائق جديرة بالتقدير والاهتمام والمتابعة، لما سيكون لها من تداعيات عميقة على عموم الحالة الفلسطينية، بل قد تشكل محطة فارقة تتجاوز المعادلة السابقة في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، التي تحولت منذ اتفاق أوسلو عام 1993، وما تلاه من تصدّعات الوضعية الداخلية الفلسطينية، إلى عبء ثقيل يرزح الفلسطينيون تحت وطأة تلك المعادلة المجحفة، وما نجم عنها من مخاسر وطنية، طالت الداخل والخارج على حدٍ سواء. ليس مشهداً قابلاً للخفة والاستسهال في قراءة دلالاته الكبرى، أن يخرج عشرات الألوف من أبناء قطاع غزة المحاصر منذ عشر سنوات، ويتوجهوا كهولاً ونساءً وشباباً وأطفالاً إلى الشريط الحدودي، ويتراصفوا كالبنيان المرصوص تحت راية فلسطين دون سواها، وهم يهتفون ويصرخون أمام العالم أجمع، للتأكيد على الربط الوثيق بين إحياء يوم الأرض، وحقهم في العودة إلى بيوتهم التي شردوا عنها عنوةً.
يقيناً أن الدماء التي سالت على الشريط الحدودي، هي من أفصح الرسائل الكفاحية على ذاك الربط الوطني والتاريخي، بين عشق الأرض والإصرار على العودة إليها. لكن ثمة رسائل أيضاً على لسان المتظاهرين تؤكد تلك الحقيقة، وتفضح المسؤولين عن محاولات النيل منها. فقد غابت عن المسيرة الكبرى رايات الفصائل التي تذكرهم بمآسي الانقسام، واضراره المتفاقمة على الشعب والقضية، وتوافدت حشود الأهالي على مد البصر هذه المرة، كي يؤكدوا أنهم من يملكون زمام المبادرة، وأن استجابتهم القصوى لإحياء يوم الأرض، على بعد أمتار من قراهم ومدنهم المحتلة، هو بمثابة تحدي صارخ لكل الصيغ والتسويات، التي حاولت تغييبهم في السنوات الماضية. رفعوا راية فلسطين وهم في ذروة الغضب، من حصار تواطأ عليه النظام المصري مع العدو الصهيوني. كما ربطوا في هتافاتهم الموحدة، بين مسؤولية الاحتلال الغاصب عن نكبتهم وسرقة أراضيهم وتهجيرهم، ودور الأنظمة العربية في استمرار نكباتهم والتفريط بحقوقهم. لا يمكن فهم حماسة الجموع الهادرة للتعبير عن وجودها وحقوقها الوطنية في صرختها المدويّة تلك، بمعزلٍ عن يأسها من أوضاعها الإنسانية القاهرة، ورفضها بكل وعي وعناد الرضوخ لسياسات الحصار والإذلال، فقد بلغ سيل الغزيين الزبى من استمرار معاناتهم وهمومهم اليومية. اختاروا بأنفسهم أن تكون المواجهة سلميّة، وباللغة التي يفهمها العالم مهما حاول العدو شيطنة شعبها الأعزل، ولم يغضوا الطرف عمن يريد أن يستثمر فيها من أية جهة كانت، ولم يغب عنهم وجود أجندات تتربص المتاجرة بالدم الفلسطيني لمصالحها الخاصة، فهم لا يريدون لبوصلتهم أن تتوه في زحمة الاتجاهات والحسابات الرخيصة، في لحظة لا تحتمل سوى فتح لهيب التناقض المفتوح مع العدو الرئيسي. وإن كانت لا تخلو من إشارات صريحة، على عودة الحياة للشارع الفلسطيني، بعد أن جففت الفصائل بخلافاتها وفشلها المزمن الكثير من مكامن القوة والأمل. اختاروا بملء أرادتهم الحرة الوقوف في وجه آلة البطش الصهيونية، دفاعاً عن وطنهم وكرامتهم، ودفاعاً عن القدس من مخططات تهويدها بقرار أمريكي، وموافقة ضمنية من الأنظمة العربية. فوجئ قادة الاحتلال الغاشم حدّ الصدمة، من انهيار كل ما فعلوه كي لا يُزهر الربيع الفلسطيني، وها هي ثورة اللاجئين تجدد عزيمتها، بجيل جديد من ورثة جراح النكبة والأوفياء لحكاية الأرض.
للتوقيت في مسيرة العودة الكبرى رسالته ومغزاه أيضاً، طالما أن للشعوب مواقيتها الخاصة، في اجتراح ساعة الحقيقة خلافاً لقوانين المحتلين والطغاة، إذ يدرك الفلسطينيون أن تهجير السوريين من أرضهم على يد نظامهم العميل، سيغري أسياده في تل أبيب على تمرير صفقة القرن في فلسطين، ويدركون أكثر أن الواقع العربي المطحون على يد الثورات المضادة، يقف اليوم مشلولاً على أنقاض مصائب شعوبه، وأن المجتمع الدولي المحكوم بمافيات النهب والإفقار، متواطئ مع الاحتلال حتى أذنيه. تلك وقائع ومعطيات تفتح الطريق أمام مخططات تصفية القضية الفلسطينية، لذلك جاء الرد الفلسطيني في ذكرى يوم الأرض هذا العام، في سياق مقاومة شعبية عارمة، تُمهد لقلب الطاولة من حيث لم يحتسب لها قادة العدو، بعد أن سعوا مع أدواتهم من حكام العار، ليكون إفشال الربيع العربي، ضالتهم المنشودة للاستفراد بالشعب الفلسطيني، وفي أشد لحظات تخبط القرار الفصائلي في زمن الصراع على السلطة.
سبعة عشر شهيداً وأكثر من ألف وأربعمائة مصاب، هم حصيلة هذه الوقفة الفلسطينية المُشرّفة، لكل منهم أبناء وأهل وعوائل وجيران، ليسوا أرقاماً ولا يجب أن يبقى ضحايانا مجرد أرقام، ووحشية الطرف الصهيوني المسؤول عن قتلهم على رؤوس الأشهاد، لا يجب أن تحجب مسؤولية الطرف الفلسطيني المسؤول عن تنظيم تلك المسيرة، ولاتزال ذاكرة الناس حيّة على ما حدث في مسيرة العودة على الحدود السورية واللبنانية عام 2011. آن الأوان كي تكون ثقافة ومشاعر الحرص على كل قطرة دم من أبناء شعبنا، هي الأولوية في الكفاح المدني السلمي وحتى العسكري، وأن يكون ثمنها كبيراً في إلحاق الألم والأذى بصفوف القَتلة، فلم يُنذر شعبنا للعذاب والألم والمتاجرة، وإنما للحياة والحرية والنصر، وقد أثبت ببطولاته وتضحياته أنه شعب الانتماء الأصيل، والذاكرة المخضّبة بالتحدي والأمل.