حسن النيفي
لا يكاد يلتقي بشار الأسد بالرئيس الروسي فلادمير بوتين، إلّا وسيعقب لقاءهما موجة من التعليقات تصلح أن تكون مادّة لوسائل الإعلام الرسمية لبضعة أيام، إضافة إلى وسائل التواصل الأخرى، يتداخل في تلك الموجة من التعليقات ما هو سياسي بما هو حديث للتندّر، علماً أن أحاديث التندّر باتت ضرباً شبيهاً بالكوميديا السوداء لدى معظم السوريين، ولكن يبدو أن ما كان مثيراً للتندّر بات أمراً طبيعياً ولم يعد يحتفظ بالمفارقة المثيرة للسخرية، وذلك موازاة مع تكشّف طبيعة العلاقة الناظمة لشخص بشار الأسد بداعميه الروس، إذ إن مبدأ استدعاء رأس النظام في دمشق أو شحنه إلى روسيا لم يعد يثير أية حساسية لبشار وأعوانه، أمّا بالنسبة إلى بوتين، فإنه قادر على هندسة الموقف بالنتيجة، فلئن بدا بشار وضيعا مُهاناً في أنظاره، إلّا أن هذه الوضاعة يمكن استثمارها، كما يمكن تصديرها للآخرين على أنها مهابة وشجاعة، إذ لا يتوانى بوتين عن تهنئة نظيره بعيد ميلاده، وكذلك تهنئته بفوزه في انتخابات الرئاسة التي أثببت أن بشار لا يزال محلّ ثقة السوريين، على الرغم من المراحل الصعبة التي تمر بها البلاد، فهذا الثناء البوتيني وحده كافٍ، ليس لاحتواء بشار وتلميع وضاعته فحسب، بل هو رسالة ناصعة الملامح تؤكّد أن بوتين مصرٌّ على الاستمرار بالتمسّك بتلك الوضاعة واستثمارها، إذ ليس ثمة غيرها ما يوازي الوضاعة الأخلاقية ذاتها لدى بوتين الذي يؤكّد في حديثه أمام وسائل الإعلام أنه رأى بنفسه عموم السوريين وهم يعودون إلى مدنهم وبلداتهم، كما رآهم وهم منهمكون في إعادة إعمار بيوتهم، وكذلك رآهم وهم يشرعون في متابعة أعمالهم، وكأن سورية تنهض من جديد وسط أجواء مليئة بالأمن والسلام والاستقرار، وبذلك يكون بوتين متماهياً مع صاحبه بشار حين تحدث أمام برلمانه مؤكّدا أن نظامه قد نجح في مواجهة الضغوط الاقتصادية، وأن البلاد تشهد نهضة صناعية نوعية من شأنها أن تنقل المشهد الاقتصادي البائس إلى حالة إقتصادية مزدهرة في المستقبل القريب. لم يشأ بوتين أن يرى أكثر من مليون نازح سوري في مخيمات النزوح هجّرتهم طائراته وقاذفاته بعد أن هدّمت بيوتهم وقتلت أطفالهم في شهر شباط من العام الفائت بعد اجتياح مدن وبلدات سراقب ومعرة النعمان وكفرنبل والعديد من قرى ريف أدلب وحلب وحماة، وكذلك لم يشأ بوتين أن يرى طوابير المواطنين السوريين التي تمتد إلى مئات الأمتار في انتظار الحصول على ربطة الخبز أو أسطوانة الغاز أو سوى ذلك من مقوّمات الحياة الأساسية. وبطبيعة الحال، لا يمكن مواجهة بوتين بمعاناة أكثر من مئة ألف معتقل ومعتقلة في سجون الأسد، فضلاً عن حالات الترويع الوحشي التي تُمارس بحقهم، ذلك أن معاناة السجناء كمُنتَج للتوحّش الأسدي، هي النظير الموازي للمُنتج البوتيني القذر المتناسل من حمم طائراته فوق رؤوس وبيوت المواطنين السوريين.
لقد وجد العالم في التدخل الروسي المباشر في الشأن السوري في أواخر إيلول عام 2015 ، وعلى وجه الخصوص أمريكا وأوربا، فرصة مواتية للتنصل من همٍّ نافل بالنسبة إليهم يُدعى ( القضية السورية)، بل ربما أطربتهم ادعاءات بوتين بعزمه القيام بحرب على قوى الإرهاب في سورية، في حين أنهم غضّوا الطرف جميعاً عن مسار تلك الحرب، أهي في مواجهة الإرهاب حقاً، أم هي لاستئصال الحواضن المدنية والشعبية للثورة، كما تجسّد في تهجير سكان حلب الشرقية والغوطة والقلمون وداريا وسواهما؟ وهل هي في مواجهة قوى داعش والنصرة أم في استهداف المستشفيات ودور العبادة والمخابز والمدن والبلدات ومراكز الدفاع المدني، مع استهداف موازٍ للبنى التحتية ؟ كان يكفي الإدارات الأمريكية المتعاقبة أن تسمع عبارة ( الحرب على الإرهاب) لتتيح للروس أن يمارسوا أقصى درجات التوحّش الكامنة خلف هذا الشعار، وحين تؤكّد جميع تلك الإدارات المذكورة على سعيها الرامي إلى تغيير سلوك نظام الأسد وليس إسقاطه، هي على درجة من اليقين بأن سلوك النظام المراد تغييره – وفقاً لزعمها – هو غير مفارق لسلوك الروس الذين منحهم العالم التفويض الكامل لهندسة المقتلة السورية، ولا غرابة في ذلك، إذ طالما اتهم المجتمع الأوربي وأمريكا نظام بوتين بالديكتاتوري والفاشي، إلّا أنه لا مانع لديه من أن تتماهى تلك الفاشية مع فاشية لا تقل عنها قذارة، في مواجهة شعب أضحى أشلاءً ممزقة عالقة في أنياب المصالح الدولية.
بالمقابل، لا يبدو أن قوى المعارضة الرسمية السورية قد أفلحت في تجنّب الوقوع في مستنقع الوضاعة الروسية، ذلك أن مجرّد التصديق بأن روسيا أحد رعاة إحقاق السلام في سورية، هو إذعان صريح لمبدأ القوّة، وتنكّر لمبدأ الحق والعدالة، فتحتَ ذريعة أن الروس هم الأوصياء الحقيقيون على نظام الأسد، وهم من يملك القوة على توجيه بوصلته السياسية، وكذلك هم المفوضون من المجتمع الدولي ببسط نفوذهم على الملف السوري، فلا مناص إذاً من التوجه إلى الخصم ليكون حكماً منصفاً، وأي إنصاف ترجوه النعجة التي تأتي مذعنةً وتضع عنقها على مدية ناحرها؟ ألم تكن عمليات اجتياح الغوطة ودرعا وجميع مناطق ما يسمى ( خفض التصعيد)، وكذلك اجتياح سراقب ومعرة النعمان وكفرنبل، وقتل وتهجير مئات الآلاف من المواطنين، موازية لجولات التفاوض واللقاءات المتعاقبة بين وفود المعارضة والمسؤولين الروس؟ وهل أُتيح لنظام الأسد وحلفائه فرصة واحدة لقتل مواطن أو تهجيره وامتنعوا عن ذلك؟ وهل كان مجدياً إلتزام فصائل المعارضة وكذلك امتثال المعارضة السياسية لأوامر الجهات الراعية بحقن دماء سوري واحد، أو الإفراج عن معتقل أو معتقلة؟
ربما كان صحيحاً أن الاستنقاع الكامل في الوضاعة الروسية لم يأتِ دفعة واحدة، بل هو نتاج مسار تراكمي، بدأ بمسار أستانا في مطلع العام 2017 ، وانتهى بسوتشي واللجنة الدستورية المنبثقة عنه، ولكن بعد هذا المسار المفضي إلى العدم، ألم يحن الوقت للتفكير بالخروج من هذا المستنقع؟ وهل الركون إلى البؤس السياسي والثوري سيكون مجدياً في مواجهة ضراوة الوضاعة؟
المصدر: تلفزيون سوريا