تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب المتتالية، والتي تؤكد أن قواته ستنسحب من سورية في وقت قريب جدًا، واختيار ذلك في هذا الوقت بالذات، وعلى غير المتوقع، دفعت بالكثير من المراقبين إلى البحث في مكنونات ذلك، ومن ثم الوصول إلى الأسباب التي دعته لمثل هذه التصريحات، وكذلك الغوص في مصداقيتها، والغاية منها، وصولًا إلى استلهام المستقبل المنظور للشعب السورية، الغارق في دمائه، بينما الخارج يلعب في حيواته كما يريد ويشاء، دون الالتفات إلى معاناة السوريين، التي فاقت كل حد، من قتل ودماء، وتهجير قسري لم يسبق له أي مثيل في التاريخ الحديث للبشرية.
جيرون من جهتها حاولت مع بعض الباحثين والسياسيين والكتاب الولوج في الماهية، وسأتهم كيف يرون الجدية والمصداقية في هذا الانسحاب المفترض من سورية؟ ولماذا الآن؟ وماذا وراء هذه التصريحات؟
نادر جبلي المحامي والكاتب السوري قال لجيرون ” فاجأتني تصريحات الرئيس الأميركي الأخيرة بقرب سحب قواته من سورية، مثلما فاجأت الجميع على ما يبدو. فقد كانت خارج كل التوقعات والسيناريوهات الممكنة، وما كان حتى بالإمكان تخيلها. فاجأتني أولًا لأنها أتت غريبة ومتعارضة مع كل نهج إدارة ترامب في الملف السوري، حيث أنهت حالة الانكفاء التي سارت عليها إدارة أوباما، وانخرطت بقوة في الأحداث، فأصبح لها وجود عسكري وازن وقواعد عسكرية عديدة وأسلحة متطورة، وتجاوز عديد جنودها الألفين، وسيطرت قواتها بشكل كامل على شرق الفرات. ومن جانب آخر كانت جميع التصريحات والأفعال تؤكد هذا الحضور، وتؤكد أنهم ماضون في الإمساك بزمام المبادرة والتحكم بالمشهد العسكري والسياسي على المدى الطويل.” وأضاف جبلي ” وفاجأتني ثانيًا لأنها ضد مصالح الولايات المتحدة بشكل مطلق كما أراها، فهي تعني تعزيز النفوذ الروسي في المنطقة، وتعني إنعاش المشروع الإيراني في السيطرة على دمشق والوصول إلى المتوسط، وتعني التخلي عن الحليف الكردي وتركه لقمة سهلة للأتراك، وتعني إيقاف الضغط العسكري على داعش، ومنحها فرصة ذهبية لإعادة تنظيم نفسها. وفاجأتني ثالثًا لأنها ستُحدث صداما قويًا بين ترامب ووزارة الخارجية ووزارة الدفاع وعدد كبير من المسؤولين والنواب، الذين يرون في الانسحاب كارثة حقيقية على المصالح الأميركية يصعب التساهل حيالها. لأجل ذلك لا يمكنني تخيل أن ترامب يعني تمامًا ما يقول، وأرى خلف تصريحاته أهدافًا أخرى لا أعرفها، وربما يكون منها ابتزاز السعودية وسحب المزيد من الأموال منها، باعتبار أنها تخشى امتداد النفوذ الإيراني وتستميت لضرب مشروع إيران وإعادتها إلى حدودها.”
الباحث السوري الدكتور مخلص الصيادي تحدث لجيرون قائلًا ” شكوك عديدة تثار حول تصريحات وقرارات الرئيس الأميركي ومقدار اتزانها واتساقها مع واقع أنها تصدر من رئيس دولة عظمى، والأدق أن يقال الدولة الأعظم في عالم اليوم، لكن متابعة ما صدر عن الرئيس دونالد ترامب من تصريحات ومواقف، وما أجرى في إدارته من تغييرات صارخة وفجة تفرض على المحلل السياسي ألا يستهين بما يصدر عن هذا الرئيس ، وإذا دلت تصريحات ما إلى موقف غير معقول، وغير متوافق مع ما هو مجمع عليه بأنه في مصلحة الولايات المتحدة فإن علينا قراءة هذه التصريحات من زاوية جديدة تتسق مع طبيعة ترامب، الذي يدير شؤون الدولة من زاوية التاجر اليهودي وقيم هذا التاجر، وليس من زاوية رئيس الدولة الذي يفترض أن يمثل محصلة قوى مجتمعه، ويمثل كذلك محصلة مصلحة هذا المجتمع وحلفائه على المستوى الدولي، ترامب يصرح بالانسحاب من سورية، لكن الموقف التقليدي لوزارتي الدفاع والخارجية ليس في هذا الاتجاه، لذلك يجب أن نتأكد ما إذا كان ترامب يريد فعلًا ذلك، أم أن تصريحه يمثل رسالة إلى دول معينة في المنطقة، ليطلب منها ثمنًا تدفعه لتغطية تكاليف هذا الوجود، كما هي سياسته تجاه مختلف القضايا الاقتصادية والدفاعية وسياسات الهجرة، أي ما يفعله مع الحمائية التجارية، ومع الناتو، ومع مشروع بناء الحائط على الحدود مع المكسيك، ومع قضايا عديدة أخرى”. وأضاف الصيادي” تصريح ترامب عن الانسحاب يستدعي على الفور السؤال عمن سيحل محل القوات الأميركية، والقول بأن الانسحاب سيتم لصالح الأكراد قول ضعيف لأن قوة الأكراد قوة غير ذات شأن، وما أعطاها قيمة هو الوجود والدعم الأميركي. وأيضًا لأن تصريحات ترامب تضمنت إعلانًا بتراجع الولايات المتحدة عن تقديم 200 مليون دولار لإعادة الإعمار في مناطق سيطرة الأكراد، أي أن في هذا الاعلان وقرار وقف الدعم إضعاف لا حدود له للجانب الكردي. كذلك فإن القول بأن الفراغ المتخلف عن هذا الانسحاب سيملأه الروس أو القوات الحكومية والايرانية، مما لا يمكن اعتماده، لأنه يعني سقوط هذه المنطقة الاستراتيجية بيد منافسي، إن لم نقل خصوم المصلحة الأميركية”. لكن الصيادي تحدث أيضا التوتر في العلاقات الأميركية التركية بشأن سوريا بقوله ” تحالف واشنطن مع ما تعتبره تركيا قوى إرهابية، أي أن انسحاب أميركا من سورية من شأنه أن يفتح الآفاق لصراع تكون تركيا عنصرًا مهمًا فيه ويتسع لمناطق جديدة في سورية، لكل ما سبق فإن حسابات واشنطن لا بد أن تكون أبعد مما تدل عليه مباشرة تصريحات الرئيس ترامب، وأنا أرجح أن تكون هذه التصريحات بشأن الانسحاب من سورية جزء من استهداف الحصول على الثمن، أي إن هذه التصريحات موجهة أساسًا لدول الإقليم، كي تبادر لدفع الثمن الذي يبقي القوات الأميركية في المنطقة، ويبدو أن كبار المسؤولين في هذه الدول قد وصلته الرسالة، ولا يجب أن لا نستبعد أيضًا أن تكون هذه التصريحات في إطار ترتيب جديد في المنطقة قائم على إشعال معركة مع إيران وبالتالي يصبح إبعاد الجنود الأميركيين ضرورة مرحلية لتجنيبهم الانتقام المباشر، والأيام القادمة ستكشف عن آفاق السياسة الأميركية في المنطقة التي يريدها ترامب، ويعمل على إجراء التغيرات اللازمة في إدارته لتنفيذها، وما يجب الانتباه إليه في هذا الصدد أن مصلحة الشعب السوري، وثورته، وتطلعه للخلاص من نظام القتل والاستبداد والطائفية القائم في دمشق، ومصلحة شعوب المنطقة ودولها ليست أبدًا من استهدافات سياسة ترامب وسيكون خطأ مميتًا أن يتوقع أحد شيئًا ايجابيًا من مواقف وتصريحات الرئاسة الأميركية أو من مواقف الادارة الأميركية عمومًا”.
محيي الدين بنانا الوزير السابق في الحكومة السورية المؤقتة يعتقد ” أن تصريحات الرئيس الأميركي غير متزنة، وكما عودنا غير متناسقة مع بعضها البعض، فكل يوم يتحف اليوتيوب بتصريح غير متناسق أحيانًا مع السياسة الأميركية، وهذا التصريح يدخل ضمن هذا السياق حيث أن السياسة الأميركية في سورية، وفي المنطقة بشكل عام تقود إلی الهيمنة عليها وكل
ما يحصل ما هو إلا تمهيدًا لهذه السياسة، وهي التي ستوزع حصص إعادة الإعمار علی الآخرين كما تشاء. بناء علی ذلك فإنني لا أرجح أن تنسحب أميركا لا من سورية ولا العراق واليمن، وستتدخل بشأن أقوی في الشأن الليبي، وسيكون لها اليد الطولی في المنطقة”..
الكاتب السوري محمود عادل باذنجكي يقول ” التحليل الموضوعيّ يكون وفق معطيات منطقيّة تفضي إلى استنتاجات تلامس جوانب الإقناع، وما يحدث في سورية عمومًا خرج عن أيّ توقّع. فكيف إن ارتبط بسياسات معلنة لترمب، تَسمع عنها خارجيّته ووزارة دفاعه من وسائل الإعلام؟
ولست أعلم جديّة التصريحات من عدمها. لكنّني أستطيع التأكيد أن لا شيء في المحصّلة سيصبّ في مصلحة سورية وإنهاء معاناة السوريين المظلومين”.
أما الكاتب الصحافي مضر حماد الأسعد فقد أكد لجيرون أن ” أميركا لن تنسحب من سورية، فهي على العكس تمامًا عززت تواجدها من خلال القواعد التي أوجدتها في الشدادي ورميلان والطبقة ومبروكة ودير الزور، ومسألة الانسحاب وعدمه ليست بيد الرئيس الأميركي، هناك جهات تنفيذية لها سلطات، منها وزارة الدفاع والخارجية ومجلس النواب والكونغرس وخاصةً بعد أن تم تعيين الصقور في الخارجية والأمن القومي، ولكن تصريحات الانسحاب كانت من أجل أن يزداد حجم الدعم المالي من دول الخليج، للصرف على التواجد الأميركي في سورية وثانيًا للضغط على بعض الأطراف في سورية للقبول في أنصاف الحلول ومنها الbyd أي جيش سورية الديمقراطية والأكراد عامة، وخاصةً بعد الاتفاقات السرية التي تسربت لنا عن اتفاق بين أميركا وتركيا لتفويض الأخيرة للدخول إلى منبج حتى الحدود العراقية، وإبعاد العناصر الإرهابية منها وتسليمها إلى أهلها، بإشراف تركي وأقل منه أميركيًا وكذلك من أجل الوقوف شوكة ضد التوسع الإيراني في سورية وخاصةً في البادية الشامية والتنف على الحدود السورية العراقية والأردنية وفي منطقة الجزيرة والفرات”. وأضاف الأسعد مؤكدًا أنه ” بالمحصلة تبقى تركيا هي ثاني أكبر قوة في حلف الناتو، وأكبر قوة عسكرية في الشرق الأوسط، وابتعاد أميركا عنها أو الناتو عنها، يعني ذهابها إلى الطرف الآخر وهو محور الشر كما يطلق عليه غربيًا اليوم (إيران وروسيا)، لذلك فإن تقديم تنازلات لها من قبل واشنطن لحماية أمنها القومي، ضرورة حتى لا تفتش عن مساعدة دول معادية لأميركا والناتو والاتحاد الأوروبي”.