جورج عيسى
لا يزال التوتر يزعزع استقرار العلاقات الإيرانية-الأذرية بعد سلسلة من التطورات التي طرأت خلال الصيف الماضي والمستمرّة حتى اللحظة. بدأ الأمر برسالة اعتراضية وجّهتها أذربيجان إلى إيران في آب (أغسطس) بسبب إرسالها سلعاً تجارية إلى إقليم ناغورو كراباخ مروراً بالأراضي الأرمينية. وهو خطوة غير شرعية بحسب المنظور الأذريّ.
في 12 أيلول (سبتمبر)، فرضت أذربيجان رسوماً كبيرة على الشاحنات المتوجّه من إيران إلى الإقليم. وفي 15 أيلول، تمّ تأكيد أنّ باكو احتجزت شاحنتين مع سائقيهما. وقال الرئيس الأذري إلهام علييف في حديث إلى وكالة “الأناضول” إنّ 60 شاحنة إيرانيّة دخلت الأراضي الأذرية بطريقة غير مشروعة.
تحذير “من اللعب بذيل الأسد”
خلال حرب ناغورنو كراباخ الثانية، (أيلول/تشرين الثاني) 2020، سيطرت أذربيجان على طريق تربط مدينتين بارزتين في جنوب أرمينيا (غوريس وكابان). وتعدّ هذه الطريق الممرّ الوحيد بين أرمينيا وإيران. هذه السيطرة تمكّن باكو من التحكّم في التجارة الإيرانية مع أرمينيا.
في 12 أيلول أيضاً، أجرت أذربيجان وتركيا وباكستان مناورات عسكرية في بحر قزوين – خطوة أخرى أزعجت إيران التي ردّت بإطلاق تهديدات عدّة. حذّر ممثل المرشد الأعلى في محافظة أردبيل المحاذية لأذربيجان حسن عاملي باكو قائلاً إنّه يجب عليها “الامتناع عن اللعب بذيل الأسد”.
وخلال زيارته موسكو يوم الأربعاء، قال وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان “إنّنا بالتأكيد لن نتسامح مع تغيير جيوسياسي وتغيير بالخريطة في القوقاز”.
لكنّ الردّ الميدانيّ الأكبر جاء عبر تدريبات عسكرية بالقرب من الحدود الأذرية في 21 أيلول. اختارت إيران إجراء المناورات بالقرب من أقاليم فيزولي وجبرايل وزنجيلان وهي مناطق سيطرت عليها باكو خلال حرب 2020. وفي رمزية بارزة أخرى، شكّل مركز تلك التدريبات، أي الحدود المشتركة بين البلدين (700 كيلومتر)، سابقة في تاريخ العلاقات. لهذا السبب، تساءل الرئيس الأذري عن الدافع وراء إجراء هذه التدريبات في تلك المنطقة تحديداً وبعد مرور عام على اندلاع حرب ناغورنو كراباخ الثانية. وفي 1 تشرين الأول (أكتوبر) الحالي، قادت طهران تدريبات عسكرية أخرى بالقرب من معبري بولداشت وجولفا مع أذربيجان تحت اسم “فاتحي خيبر”.
في 5 تشرين الأول، قادت تركيا وأذربيجان تدريبات “الأخوّة التي لا تتزعزع” والتي ستستمرّ حتى الثامن من الشهر نفسه. وقالت وزارة الدفاع التركية إنّ هدف التدريبات هو “تطوير الصداقة والتعاون والتنسيق” بين القوات البرية التركية والأذرية و”تشارك المعرفة والخبرة لتطوير التداخل العملاني”.
ويوم الثلاثاء، أعلنت أذربيجان إغلاق حسينية إيرانية في باكو بسبب فيروس “كورونا”. كما أغلقت إيران مجالها الجوي أمام مقاتلات أذرية تنقل إمدادات عسكرية إلى إقليم ناخشيفيان الأذري المتمتّع بالحكم الذاتيّ والواقع في أرمينيا.
موقع إيران الإقليميّ
تجد إيران نفسها معزولة بشكل تدريجيّ في الإقليم، وليست هذه التطوّرات سوى جزء من المشهد الذي يزعج طهران. خلال حرب ناغورنو كراباخ الثانية، اتّخذت إيران موقفاً محايداً. لإيران أقلية أرمينية تعيش على أراضيها وتحظى بممثّلَين في مجلس الشورى. ورأت طهران في تلك الأقلية بوّابة مهمّة لها على العالم الغربيّ، بالنظر إلى القوّة الثقافيّة التي يمثّلها الشتات الأرمينيّ حول العالم.
بالمقابل، يشكّل الأذريّون ثاني أكبر مجموعة إثنية في البلاد. وتتركّز تلك المجموعة في شمال غرب إيران على حدود أذربيجان كما تنتشر في جيوب أخرى. لذلك يتحدّث أذريون وأتراك عن تركّز تلك الأقلية في “أذربيجان الجنوبية”. وتخشى إيران من تعزيز هذا الخطاب لسرديّة “الانفصال”. حتى أنّ أذريّي إيران حاولوا الانفصال مرّات عدّة عن البلاد في القرن الماضي. وخلال تبادل التهديدات في أيلول، قال النائب الأذري غودرات حسن غولييف إنّ الأقلية الأذرية في إيران يمكن أن تثير المتاعب لإيران في أيّ نزاع ما باكو. وتظاهر الأذريون الإيرانيون خلال حرب ناغورنو كراباخ في إيران دعماً للدولة الأذرية.
إنّ تعزيز العلاقات العسكرية بين تركيا وأذربيجان – إلى درجة توصيفها من قبل مسؤول إيراني بأنّها “إدمان” أذريّ على الأسلحة التركية – يشكّل مصدر قلق إضافيّ لإيران بما أنّه مكّن الطرفين من إدخال “تغيير حدوديّ” بفعل الأمر الواقع بدءاً من تشرين الثاني 2020. تفاقم هذا القلق مؤشّرات التواصل بين أرمينيا وتركيا. فافتتاح باكو المحتمل لما تدعوه “ممر زانجيزور” يغيّر أيضاً “الحدود الدولية” عبر ربطه أذربيجان بإقليم ناخشيفيان الأذريّ داخل أرمينيا. واشترط الرئيس التركيّ رجب طيب أردوغان على أرمينيا افتتاح هذا الممرّ لفتح مفاوضات مباشرة مع تركيا.
جميع هذه التطوّرات سيّئة بالنسبة إلى إيران. لكنّ الأسوأ قد يكون توطيد الروابط الأذرية-الإسرائيليّة ممّا يدفع الإسرائيليين إلى التمتّع بحدود مباشرة مع إيران. وفي موسكو، تحدّث أيضاً عبداللهيان عن أنّه “لدينا مخاوف جدية من حضور الإرهابيين والصهاينة” في القوقاز.
“تطويق”
مع صفقة عسكريّة محتملة بين إسرائيل وأذربيجان يمكن أن تبلغ قيمتها ملياري دولار، تصبح الهواجس أكثر ترسّخاً. هذا ما يوضحه مدير برنامج إيران في “معهد الشرق الأوسط” أليكس وطن خواه حيث كتب عن “تطويق” إسرائيلي لإيران. ويرى وطن خواه أنّه للمرّة الأولى في التاريخ، تتمتّع تل أبيب بهذه الشبكة المتنوّعة من العلاقات مع الدول المحيطة بإيران، مضيفاً أنّ الأخيرة تخشى أيضاً من أن تتقاطع المصالح التركية-الإسرائيلية ضدها.
لن يكون هذا التقاطع مستبعداً مع انفتاح شامل تبديه تركيا تجاه دول المنطقة. من جهتها، تنفي أذربيجان أيّ وجود عسكريّ إسرائيليّ على أرضها. ليس من شأن هذا النفي أن يلقى قبولاً في طهران. وثمّة تقارير تتحدّث عن احتمال افتتاح سفارة أذرية في إسرائيل. بالرغم من اعتراف أذربيجان بإسرائيل وافتتاح الأخيرة سفارة على أراضي الأولى، فضّلت باكو عدم الإقدام على هذه الخطوة. إلى متى يستمرّ هذا التفضيل أمرٌ قيد التكهّن.
المشاكل بين إيران وأذربيجان قديمة وهي تسبق تطوير العلاقات الأذرية-الإسرائيلية. تحدّث الرئيس الأذريّ الثاني أبو الفضل إلجي بي عن “أذربيجان العظمى” التي تضمّ أجزاء من إيران. ستظلّ الهواجس الانفصالية عاملاً أساسياً في منع عودة العلاقات الثنائية إلى طبيعتها. وليس أمراً هامشياً أن تعجز إيران عن تصدير نموذجها الإسلاميّ إلى الحكم في أذربيجان، علماً أنّ غالبية الأذريين تنتمي إلى المذهب الشيعيّ، كما هي غالبية الإيرانيّين. لا شكّ في أنّ الخلافات الجيو-سياسيّة الجديدة تضيف بعداً آخر إلى التوتّر الإيرانيّ-الأذريّ الذي يجد جذوره في بعدين آخرين غير قابلين للتبدّل السريع: الثقافة والتاريخ. تبقى معرفة كيفيّة مواجهة إيران للبعد الجيوسياسيّ الأكثر تحرّكاً. إلى الآن، لم تنجح إيران في صياغة سياسة “تحيّد” انقلاب هذا البعد ضدّها، بحسب وطن خواه.
المصدر: النهار العربي