شادي علاء الدين
أن يسقط قتلى لحزب الله وحركة أمل في تبادل للنّيران مع خصوم لهما، كما جرى الخميس، 14 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، في موقعة الطيونة في بيروت، فهذا يعني، وفق وجهة نظر سائدة، تغييرا بارزا في قواعد اللّعبة، وفي موقع حزب الله في الدّاخل اللّبناني. ذلك أن حزب الله لا يدير معاركه بسذاجة، وربما تكمن أهم نقاط قوته الفعلية في هشاشة خصومه وقصر النظر في قراءة مشاريعه.
بدا واضحا، في الفترة الأخيرة، أنّ حزب الله قد أرجع سلاحه الحربي إلى خلفية المشهد، واستبدله بسلاح أكثر فتكًا وفعاليّة، سلاح الاقتصاد. قاد حملة انهيار اقتصادي عامّة، وأدارها بنجاح منقطع النظير. لا أحد يناقش موضوع تحكمّه بمنصّات تحديد سعر الدولار، وجلّ شؤون البلد الاقتصاديّة. تقوم استراتيجيته الحاليّة على دفع الأزمات المعيشيّة إلى حدود قصوى، تتضاءل معها السّياسة وتختفي، ثم يظهر في هيئة المنقذ، ويوزّع المكرمات هنا وهناك، مخترقًا حدود الطّوائف التي لا يمكن للسلاح العاري اختراقها، ولكن “تنكة” المازوت تستطيع.
بناء على ذلك، كان سلوك قاضي التحقيق العدلي في تفجير مرفأ بيروت، طارق بيطار، خطيرًا، على الرغم من أنه في الشّكل يصب في مصلحة الحزب، لأنه يضعف جميع القوى، ويضعها في دائرة المساءلة. من هنا بدت الحملة الكبيرة ضد الرجل مستغربة، كونه لم يعمد إلى استدعاء شخصيات على تماسٍّ مباشر مع الحزب أو تنتمي إليه. والإشكال الذي أثاره القاضي يكمن تحديدًا في بعده الأوسع الّذي يتضمن عودةً إلى السّياسة وحكم القانون، وهو ما لا يمكن أن يحتمله حزب الله في هذه المرحلة التي يقوم فيها مشروعه على نزع السّياسة بالكامل عن كل مفاصل العيش اللّبناني، وإحالته إلى حالةٍ تتحكّم فيها الغرائز البدائيّة، مثل الجوع والخوف.
لم تُبرز واقعة الطيونة وجود قوة حزبيّة فعليّة قادرة على مواجهة الحزب، وتكبيده الخسائر، ما يعني تغييرا في المعادلة، بل بدا كأنّه نجح في صنع المعادلة كلها، بما في ذلك ردّات الأفعال المتوقّعة الّتي أحكم سلفًا السّيطرة على نتائجها. .. وكان من البديهي أن يواجه التّوغل المسلّح بالسلاح، وخصوصا أنّه كان متوقعا، فقد سُبق بإعلانات وتهديدات، بدت كأن الهدف منها منح الفرصة للطرف الآخر لاتخاذ كلّ احتياطاته والاستعداد للمعركة. والحزب لم يخض معركة فعليّا، بل كان يريد أن يشتري مجزرةً تقع في حقّه ليصبح وليّ دم، وبذلك يقيم توازيا مع دماء شهداء المرفأ، وينشئ مجالا يسمح بتحويل ما يسعى إليه من إقفال نهائي لملف التحقيق إلى حالة مقبولة، تُشرعَن تحت عنوان تجنّب الفتنة.
يبيع الحزب الدماء ليشتري السلطة. يعلم الجميع أنّ لا أحد يوازيه في القدرات العسكريّة. تخرج تحليلاتٌ كثيرةٌ تؤكد تراجعها وتقلصها، ولكن الفرق الحاسم بينه وبين غيره أنّه نجح في إيجاد جمهور يمثل العسكرة وتقبل الموت الجامع المشترك بينه. ألم تطلب أخت الضحية المدنية، مريم فرحات، التي سقطت في الشيّاح، مباشرة ودم أختها لم يجفّ بعد من السيد (حسن نصرالله) ألا يحزن، لأن حزنه غالٍ للغاية؟ تضحّي بحزنها الخاص وبدماء أختها في سبيل الجهة الحزبية التي تنتمي إليها ومشروعها. ينشر الفيديو الذي تطلق فيه هذا التصريح تحت عنوان تحميل قاضي التّحقيق المسؤوليّة عن الدماء، وفي الوقت نفسه، تنطلق حملات إعلاميّة مبرمجة، تصف قائد القوات اللبنانيّة، سمير جعجع، بالقاتل والنّازي، وتظهر على غلاف صحيفة الأخبار صورة له تظهره في هيئة هتلر.
تصبّ كل هذه الوقائع في مصلحة الحزب ومشروعه. نجح في إظهار ردّة الفعل على تغوّل مجموعاته لتبدو من إنتاج مليشيا مسلّحة ومنظّمة. وبذلك، لا يحقّ لها تبنّي فكرة الدولة والقانون والنطق باسمها، ما يعني تاليًا أن دفاعها عن قاضي التّحقيق ليس سوى إدانة له. ومن ناحية أخرى، كرست الواقعة انتقال المعركة بين الحزب وجل مكونات الشعب اللّبناني، وكل من يريد أن يكون مواطنًا في دولةٍ بغض النظر عن طائفته، إلى صراع إسلامي مسيحي، استكملت عناوينه بعد أن كانت خريطة استدعاءات القاضي طارق بيطار شخصيات من الطائفة السنيّة قد استجرّت تمترسا طائفيًا معلنًا وراء هذه الشخصيات، أصبح معها تيار المستقبل محسوبًا، شاء أو أبى، على الخط نفسه الّذي يمثله حزب الله.
بقي الحزب خارج الاتهام المباشر، في حين أنّ كلّ خصومه وحلفائه بدوا، بشكل أو بآخر، في دائرة الاتهام. استدعاء وزير الماليّة السابق، علي حسن خليل، استهداف مباشر لرئيس مجلس النّواب، نبيه بري، الذي لم يعد خافيًا على أحد رغبة حزب الله في استبداله بشخصيةٍ تنتمي إليه. وباتت المقايضة بين الإبقاء على قاضي التحقيق والسّلم الأهلي (والحكومة) مطروحة واقعيّا. وتاليًا، يصبّ تقسيم الأدوار الذي يبدو مدروسًا بين الحزب وحليفه العوني بشأن الموقف من القاضي في خانة مقايضة يربح فيها الطرفان. ويفترض السيناريو المرسوم أن يُزاح اسم حزب الله عن التّحقيق نهائيًّا، ويتم تعيين قاض جديد يحيل الموضوع إلى القضاء والقدر، بينما يستكمل الحزب مسار تمهيد الطريق لترئيس ولي عهد الرئيس ميشال عون وصهره، جبران باسيل، خصوصا بعد أن تم استهداف المرشّح الرّئاسي سليمان فرنجية مع استدعاء وزير الأشغال السابق، يوسف فنيانوس، المحسوب عليه، إلى التحقيق.
المرحلة المقبلة التي يمهّد لها الحزب، ولم تكن موقعة الطيونة سوى مقدّمة منهجية لها، تقول إنّه مستعدٌّ لبذل الدماء في سبيل مشروع نزع السياسة عن البلد، وإنجاح مشروع السّيطرة على كل مفاصله عبر انتخابات، يبدو، حتى اللحظة، متحكّمًا بنتائجها سلفا، في ظل تشرذم كلّ القوى المناهضة له، وإسقاط لبنان من دوائر الحسابات الدّولية والعربيّة.
هكذا، لن يكون حزب الله صاحب الدويلة، بل سيمتلك الدّولة كلّ الدولة، وسيتحوّل كلّ من لا يريد أن يكون أسيرًا داخل حدود مثل هذه الدّولة إلى منتحِر أو منفي.
المصدر: العربي الجديد