مهما اختلفت التعريفات حول مفهوم التهجير القسري، فسيظل في جوهره عمل استبدادي يأتي بفعل العنف والقوة ضماناً لمصالح فردية أو قومية/عرقية أو دينية/طائفية.. وقد كتب الكثير حول هذا الموضوع، ويشكل التهجير القسري حالة قلق يعيشها السوري، منذ سنوات، بكل آلامها وأحزانها، وبكل ما تخلفه من فواجع على صعيدي الحياة الاجتماعية والنفسية، ويتسبب التهجير القسري بآلام وأحزان ينجمان عن تفتيت الأسرة والمجتمع، وعن الفقد متعدد الأشكال ومصائبه…!
والتهجير القسري موضع اهتمام الكثير من الباحثين والحقوقيين ومجموعات العمل المدني الذين يتفقون، فيما بينهم، على فهم عميق لهذه الحالة التي تنفذها، كما يرون، “حكومات أو مجموعات شبه عسكرية أو جماعات تتصف بالعنصرية والتعصب القائِمَيْن على أسس عرقية أو دينية أو مذهبية، (غالباً ما تكون الأسس وسيلة لا غاية بذاتها) وتمارس هذه الحالات بإخلاء أراضٍ معينة من سكانها الأصليين تحت ذرائع شتى وإحلال مجاميع سكانية أخرى بدلا عنها”. ولدى هؤلاء المهتمون موقف واحد من هذه الحال، وهو الإدانة المطلقة لمثل هذا النوع من التهجير.. ولم تأت الإدانة عن رغبة أو نزعة إنسانية وحقوقية فحسب، بل هي مدعومة بقوانين الشرعية الدولية التي توثقها نظم واتفاقات كما هو معروف بالمواد: 6 و7 و8 من نظام روما الأساسي، إضافة إلى اتفاقيات جنيف الأربع الصادرة منذ العام 1949 وملاحقها عام 1977. وتمنع هذه الاتفاقيات الدولية كل أشكال التهجير من منطقة سكانية إلى أخرى، سواء كان النقل فردياً أم جماعياً.. يستثنى من ذلك الحالات التي يكون السكان المعنيون بها موافقين، أو أن يأتي نقلهم بناء على رغبة لديهم، ولمصلحة خاصة بهم. وعلى الرغم من تلك القوانين التي تقف في وجه تلك الأعمال غير الإنسانية بل التي ترقى إلى جريمة حرب ضد الإنسانية، فإن مخالفة هذه القوانين تجري تحت أعين الأمم المتحد ومواقفها المتراخية، وبخاصة حين يكون الفاعل (القائم بالتهجير) أو من يدعمه، على نحو أو آخر، دولة عظمى قادرة على إدارة الظهر للشرعة الدولية..
إن التهجير القسري، كما أشرت إنما يجري في ظل حكومات استبدادية وبأمر منها، للإبقاء على مصالحها وسياساتها التي تفتقر إلى أبسط حقوق المواطنة، وتنتهك القوانين في مناحيها كافة، ذلك إن وجدت أصلاً. وقد شهد القرن العشرون الكثير من هذه الحالات! وربما كانت البداية، إذا اقتصرنا حديثنا على منطقتنا العربية، في فلسطين عام 1947 واستمر بعد ذلك في فلسطين وغيرها.. إذ ساهمت بذلك التهجير عصابات يهودية مسلحة دعمها الغرب الاستعماري، واستمر جيش الدفاع الإسرائيلي على النهج نفسه في ظلِّ صمت عربي يمارس بعض حكامه السياسة نفسها ضد الأقليات في البلدان التي يحكمونها..!
وإذا كانت الصهيونية القائمة على العنصرية والتعصب الديني الذي يأتي تحت مفهومين اثنين هما الدين والحقوق القومية المزعومة المنتمية إلى العرق السامي.. فإن حكومات كثيرة مارست الأمر نفسه وتمارسه ضد جماعات تعيش في ظلالها، وتعد من مواطنيها، كما يحدث الآن للسوريين في إطار الهجمة الإيرانية ذات المحتوى القومي الفارسي الطامع في السيطرة على المنطقة العربية والمتخذ من الشعارات الإسلامية الشيعية غطاء له، إضافة إلى تبني شعارات أخرى، زعماً بالطبع، كشعارات المقاومة أو الممانعة المناصرة للقضية الفلسطينية، بينما هدفها البعيد هو الهيمنة على المنطقة، وإيران اليوم، بالنسبة للعرب، تلتقي في تبني مسائل التهجير مع أساليب التعصب الصهيوني ذاته.. بل هي الأشد خطراً، (لست في وارد المقارنة الآن بين هذين العدوين اللدودين)، فما فعلته إيران في سورية دليل واضح، وهي تقوم بأفعالها مدعومة من الروس، وبصمت مطلق من النظام، بل لعلَّه راغب ضمناً، إذ عبر رأسه عن ذلك بإحدى خطبه حين أتى على مسألة التجانس السكاني.. وإيران التي تقودها عقلية متخلفة غير مكترثة بأحد، رغم أنَّ الأمم المتحدة ومنظماتها المعنية يرفعون الصوت والتقارير، بلا أيِّ فعل مجدٍ.. فعلى سبيل المثال عدَّ الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس “أن ما جرى لدى اتفاقية المدن الأربعة في سورية أن هذا العمل يرقى إلى جريمة حرب..” ويستخدم الإيرانيون والنظام أسلوب المحاصرة، والتجويع لوضع السكان تحت أمر واقع، وقسرهم في النهاية على الهجرة. وتعد هذه الخطوات التي تقوم بها المليشيات الإيرانية خططاً منهجية تتبع في مختلف المدن السورية..! وقد بدؤوا ذلك في حمص لينتقلوا إلى ريف دمشق كقدسيا وداريا والمعضمية والزبداني، وصولاً إلى الغوطة الشرقية كما حدث في الأسابيع الأخيرة والهدف واضح وهو إخلاء تلك الأراضي القريبة من قرى الحدود اللبنانية التي يسكنها الشيعة.. لإحلال حزام سكاني شيعي يحيط بحزب الله..!
قد يكون الشعب السوري اليوم مغلوباً على أمره، وقد يكون بعضهم ملتصق بإيران بنوازع مختلفة، ولكن السوريين سوف يستيقظون في وقت ما ليروا أنفسهم في شباك الإيرانيين المدفوعين برغبات استعمارية بشعة تعززها أحقاد من الماضي، وأحلام الإمبراطوريات البائدة.. إضافة إلى أنَّ النظام السوري غير مخلد.. وعلى ذلك فهذه الأخطار محكومة بأسبابها، وستزول بزوالها.