مضر رياض الدبس
أهم فتوحات الثورة السورية أنها صنعت ذاتًا سوريةً تُفكِّر، وهذا ما يمكن أن نسميه بحق فتحًا مُبينًا؛ فما أن صار السوري ذاتًا تُفكر، حتى رفض أن يكون موضوع تفكيرٍ مُفكَّرًا فيه فحسب (Subject)، سواء من نظامٍ سلطانيٍّ مجرم أو من “معارضةٍ نخبوية”. وامتلك السوري مع الثورة إرادة القرار، وامتلك ذاته. وبطبيعة الحال، امتلك المشكلات التي يفكر فيها، وحدّد تفكيره في المشكلات التي يمتلكها دون غيرها. يعني ذلك أن السوري الذي ينتمي إلى ما بعد 2011 لم يبدأ بالتفكير فحسب، بل أنجز عملية تأميم تفكيره أيضًا: أي إنه صار يُفكّر بعمومية. وهذا واحدٌ من أهم معاني العبور إلى ما بعد 2011، حيث تكوَّنت تنسيقية تفكيرٍ وطني كبرى، يسميها السوريون ثورة. وبهذا المعنى، تتطابق الثورة مع التفكير العمومي؛ فإذا انحسرَ انحسرت وإذا ازدهرَ انتصرت. وأن نفكّر اليوم يعني أن ندعو إلى الحضور الدائم أمرين: الوعي والضمير. والوعي والضمير هما بالتحديد ما يمنح السياسةَ السورية معنى، أو نظلّ في دوامة الـ “لا معنى” والتقهقر وتطابق مفهوم السياسة مع مفهوم “الرعي” الذي ينتج قطعانًا عصبيةً من البشر يغيب عنها مفهوم الفرد، ويغيب عنها التفكير. في غياب المعنى، يظلّ السياسيون جميعهم مشغولين في “إتقان فنون الرعي”، وهذا ما وقع على كثيرين من سياسيي “المعارضة” أيضًا، فكانوا استمرارًا للمأساة عندما أرادوا إنهاءها. وأن نفكّر اليوم يعني أن نمتلك مشكلاتنا، وأن نؤمّم تفكيرنا، والتأميم تثبيتُ ملكيةٍ عموميةٍ لما نمتلكه بحق بعد الثورة: وهو المشروع التحرّري الوطني السوري، وما يدور في فلكه. نقترح أن يكون هذا التأميم هو الخطوة الأولى على المستوى التنفيذي للحل النهائي؛ فما هو تأميم السياسة السورية؟ وكيف نؤمّم السياسة السورية؟ ومن أين نأتي بالقوة السياسية اللازمة لذلك؟
قبل الشروع في اقتراح إجابةٍ عن هذه الأسئلة، نضع وصلةً منهجيةً وموضوعية؛ فنقول إن هذه المقاربة تنتمي إلى مشروعٍ يفكّر في تأسيس الحل النهائي، استنادًا إلى أسس تنتمي إلى ما بعد 2011، وقد بدأ الكاتب في طرح هذه الأفكار في سلسلة مقالات نشرت في “العربي الجديد”، حاولت محاولة بسط فكرتين أساسيتين: الأولى سميناها “تأسيس الحل النهائي” وتمتد على ثلاثة عناوين: “المسألة السورية وتأسيس الحل النهائي” (31 يوليو/ تموز 2021)، “سبعة معانٍ للتفكير بعد 2011″ (6 أغسطس/ آب 2021)، و”التأويلات الكارثية للثورة السورية” (21 أغسطس/ آب 2021). والفكرة الثانية هي “مادة الحل النهائي.. السوري العادي ومقدمات عملية” (10 سبتمبر/ أيلول 2021). ومن مسار التفكير هذا، يمكن أن نستخلص إطارًا عريضًا مكثفًا يشكل مقدّمةً لبدء التفكير في الإطار التنفيذي الذي نبدأ به في هذه المادّة، ويمتد الإطار العريض على ست نقاط:
أولا، وضع حياة السوري وتكريمها وصونها في نطاق تفكير السياسة السورية المركزي، وفي الخلفية الذهنية لكل هدفٍ استراتيجي، من ثم مناهضة كل خطابٍ يدعو إلى القتل، أو إلى التضحية بالنفس، أو إلى أي فعلٍ يحتفي بالموت. وتصنيف أعداء الحياة كلهم بوصفهم أعداءَ السوريين.
ثانيا، إحالة النخبة السياسية التي تنتمي إلى ما قبل 2011 إلى التقاعد، وهو تقاعد متأخر. ونظرًا إلى أن السوريين لم يصنعوا نخبةً سياسية تنتمي إلى ما بعد 2011؛ فإن مفهوم النخبة السياسية يظل مفهومًا مُعلَّقًا إلى حينه. ولا يمكن ادّعاء ملكيته أو إعادة استخدامه إلا بمصادقة السوري العادي.
ثالثا، بسط التفكير الذي ينتمي إلى ما بعد 2011، وبسط فوائده، وبناء خطاب عصري يستند إليه للوصول السلس إلى بداية العمل على التأهيل الذات المستمرّ، وتمرين قدرة النقد وتقبله بروحٍ تستند إلى الثقة؛ فالثورة بوصفها فعلًا تواصليًا تُنتج مراقبةً ذاتيةً لمسار التفاهم يتطوّر باستمرارٍ في جوهرها، إذا ظلّ حاضرًا في الأذهان.
رابعا، العودة إلى الثقة السورية الكلاسيكية المتجذّرة في المجتمعات المحلية السورية، والارتقاء بها خطابيًا إلى المستوى السياسي، لاستثمارها في زيادة مراكمة رأس مال اجتماعي وطني. واستثمارها في أنظمةٍ أكثر ملاءمة للزمان وللمشروع الوطني مثل اللامركزية الواسعة، والغيرية أو “المواطنوية” (civility).
خامسا، تمثيل السوريين في عالم السياسة، وتمثيل السياسة في عالم البسطاء، وهذا يتطلّب بناءً سياسيا سوريا يُترجِم من العمومية وإليها: يبني خطابًا من كلام السوري العادي، ويفكّك الخطابات للسوري العادي، وهذه هي نواة النخبة التي تنتمي إلى ما بعد 2011، هي نواة من “المترجمين من العمومية وإليها”. وبناء هذه النواة، في واحدٍ من أهم معانيه، هو انقلابٌ أبيض على السياسيين السوريين الكاذبين، وعلى السياسيين الصادقين ولكن غير الأصيلين: الذين يفتقرون إلى الأصالة اللازمة لنقل المشهد (ترجمته) بدقّة؛ فتصيرُ صدقيتهم شيئًا نظريًا لا يعمل.
سادسا، السوري العادي هو منبع ما يمكن أن نسمّيه “الذات الوطنية الحميمية”. يعني هذا أن الثورة مثل السياسة ومثل الوطن: ملكية عمومية غير قابلة للخصخصة وإلا فقدت معناها، مثل ما فقدت سورية معناها عندما صارت “سورية الأسد”، واستردّته عندما انطلق شعار “سورية لينا ما هي لبيت الأسد”، وهو شعار تأميمي يعكس فهمًا عموميًا عميقًا..
بالاستناد إلى هذه النقاط الست التي تكوِّن الإطار العريض، يمكن أن نناقش مسألة تأميم السياسة السورية بوصفها خطوةً مبدئيةً ولازمةً لفتح إمكانات الحل السياسي في سورية. وللشروع في هذا النقاش، نُفكّر في المسألة كالآتي: لا ينبغي أن يتملّك الأفراد كلهم، والجماعات كلها، حصةً خاصة في السياسة السورية لتصبح مؤمّمة، بل على العكس، تكون ملكًا للجميع، عندما لا يمتلكها أحدٌ فحسب. ولتوضيح المسألة، نتخيّل السياسة في البلد مثل الأرصفة في الطرقات: يدل استخدام جزء منها لغاياتٍ خاصة (مثل “الأكشاك” و”بسطات” البيع) على خصخصتها بكيفيةٍ فوضوية، من ثم انحسار قدرة الآخرين على استخدامها في الوظيفة التي تمَّ بناؤها من أجلها، هكذا كانت الأرصفة في “سورية الأسد”، وهكذا كانت السياسة فيها، ولا تزال. وكما يبدو جليًا، ليس الحل أن يمتلك الجميع إمكانية استثمار مكانٍ من الرصيف بصورة خاصة، بل الحل في تأميم هذا الرصيف؛ فلا يمتلك أحدٌ الحق في استخدامه استخدامًا خاصًا إلا بقدر ما تسمح وظيفته العمومية. يعني ذلك أن التأميم يبدأ بإعادة السياسة السورية إلى السوري العادي، صاحب المشروع الوطني، ومالك الثورة. وهذا بدوره يتفرّع إلى معانٍ فرعيةٍ كثيرة، أهمها: أن المعارضة السورية أيضًا لا تمتلك حق احتكار السياسة الثورية في سورية اليوم، لأنها فقدت مصادقة السوري العادي، بسبب مشكلاتٍ تتلخص في الزحف على ملكية السياسة الثورية العمومية من أحزاب وجماعات وأفراد، منها من يعمل بموجب أيديولوجيات تنتمي إلى ما قبل 2011، ومنها من يعمل لجهاتٍ إقليمية ودولية، ويفكّر في حلولٍ لمشكلاتٍ لا يمتلك السوريون معظمها. إضافةً إلى أن جوهر السياسة السورية المؤهلة لتمثل الثورة وطني عمومي، لا يمكن اختزاله بمشروع معارضة؛ فالأخيرة تحيل على معارضة نظامٍ سياسي، فيما الحقيقة أن النظام السوري لم يكن نظامًا سياسيًا في أي يومٍ، إنما كان عصابة إجرامية منظّمة تمكّنت من اختطاف بلد واحتلاله، ووصفه بـ “النظام السياسي” خدمةٌ لا يستحقّها. والتفاوض معه على الدستور مثلًا ليس في العمق إلا خدمة جلية له تصبّ في إضفاء شيء من الشرعية على عصابة، مع أن التفاوض صحيحٌ من حيث المبدأ، ولكنه لا يصحّ إلا إذا امتلك السوريون السياسة، ولن يصير قانونيًا أيضًا إلا بتثبيت هذه الملكية، وهذا ما أكّدت عليه وثائق الأمم المتحدة، حيث استخدم قرار مجلس الأمن 2254 مثلًا التوصيف الآتي: “الانتقال السياسي تحت قيادة سورية وفي ظل عملية يمتلك السوريون زمامها”، وفي الصيغة الرسمية لإنشاء اللجنة الدستورية ورد التوصيف نفسه: “لجنة دستورية بقيادة وملكية سورية” (Syrian-led, Syrian-owned). وعلى هذا، تصير مقولةُ “المعارضة” مُشكلًا مفهوميًا وأخلاقيًا ينبغي إعادة صياغته وتغيير فهمنا له. ما نقترحه أن تأميم المعارضة السورية لا يعني شيئًا إلا إعلان تنازلها عن امتيازاتها طوعًا أو قسرًا لصالح مشروع وطني تحرّري. وأما القول إن المشروع الوطني التحرّري غائبٌ في سورية فيفتقر إلى الدقّة أو يتجاهل الثورة وشبابها وروحها… ولا يزال كثيرون من الذين فكّروا وخطّطوا ونفذوا الثورة موجودين، ولكنهم يشعرون بخيبة أمل. وإن كان في هذه الدنيا خيبة أملٍ تدعو إلى التفاؤل فهي خيبة أمل الشباب السوريين مالك الثورة وصانعها، وخيبة أمل الذين لم يخبُ إيمانُهم بالعقل والتفكير والتواصل والخطاب، بوصفها أدوات الثورة الأولى التي ستؤدي إلى التغيير؛ ولو لم يكن لديهم خيبة أمل الآن، لما كان في سورية أمل. وأكثر المشاريع المستقبلية احتفاءً بالحياة، وبالإنسان السوري وكرامته، هو مشروعٌ يهدف إلى إعادتهم للعمل معًا من جديد. هؤلاء هم أدوات التأميم والتغيير، وهم قوة السوري العادي لينجز تأميم السياسة، تمهيدًا لابتكار الوطن.
المصدر: العربي الجديد