محمد أمين الشامي
هل سبق وأن تابعتم تلك المشاهد التي تبثها بعض القنوات على الفيسبوك وغيره عن مفاجأة الجنود الأميركان لذويهم لدى عودتهم من الخدمة خارج التراب الأميركي؟ كثيرًا ما استوقفتني تلك المشاهد، وكلما تابعتها يقفز السؤال نفسه إلى ذهني: هؤلاء عادوا من العراق وأفغانستان وشمال سورية، ومن كوريا واليابان، ومن كل ركن على هذه المعمورة أنشأت أميركا لها فيه قاعدة وثبتت وجودًا. ترى كم قتل أحدهم من أهل ذلك البلد؟ كم خلفوا وراءهم من ثكالى وأرامل وأيتام ومفجوعين؟ كم من الأسلحة جربوا على أجساد وتاريخ وأرض تلك البلاد، ثم عادوا ليستعرضوا إنسانية خبؤوها لحين الرجوع؟
ثم، جاءتني تلك اللقطة التي اختارتها لجنة مسابقة سيينا الدولية للصور الفوتوغرافية لتفوز بجائزة صورة العام 2021 للمصور التركي محمد أصلان وهي تصور أبًا سوريًّا، هو منذر النزال، فقد ساقه نتيجة القوة الصلبة للنظام في مواجهة شعبه وهو يلاعب ابنه، مصطفى، ذي الأعوام الخمسة الذي ولد بدون أطرافه الأربعة، وكلاهما يضحكان بصدق، فأبكيانا بصدق وحرقة.
عند هذه المفارقة توقفت مليًّا أحسب الفروقات بين قطبيها في الموقف والمشاعر والصدق. في الطرف الأول تجد ردود أفعال لا تدري إن كانت مصطنعة أم حقيقية، لكنها تنقل موقفًا إنسانيًّا بين أحد الوالدين وابن/ابنة، أو زوجة وزوجها، أو حتى أخ وأخته. تجد الابتسامات والضحكات والدموع وصرخات المفاجأة، صور لردود أفعال قد تكون صادقة أو مفتعلة. تجد كل هذا فتتدغدغ مشاعرك، في مشاهد تستغلها القوة الناعمة أحسن استغلال بهدف تغيير رأي عام داخلي أو خارجي، أو تبديل موقف شعبي أو رسمي، أو تسويق لتوجه أنسنة رعاة القوة الصلبة، أو فرض رأي عبر التأثير في الثقافات والهيمنة على عقول أبناء المجتمعات الأخرى بنعومة الأفعى.
أما في الطرف الثاني، فنجد صورة لموقف إنسانيٍّ وصفتها لجنة التحكيم التي انتقت الصورة لتكون صورة العام بأنها “تمور بالعاطفة الجياشة”. ففي الصورة تحتشد مشاعر الحنان والفرح والرحمة إلى جانب القسوة والألم واللوعة والعجز؛ خليط مما يمر بنا ويعترينا، وكأن هذه الصورة لخصت وضع كثير من السوريين في هذين السوريَّيْن.
نحن مثلهما، بترت جذورنا واجتثثنا من أرضنا مرغمين، وولد مستقبلنا عاجزًا في غربة استهلكت كل شيء فينا، لكننا لم ننهزم. بقينا نعاند الحياة ونبتسم في وجه غلظتها، ونزرع الصحراء زهورًا وسنديان وياسمين، ونتفوق في الدراسة والعمل حتى أثرنا غيظ الحاسدين. كل العدسات التقطت صورًا لوجوه معاناتنا، وكل الشاشات نقلت، مباشرة أو تسجيلًا، صور المأساة، صور الأشلاء والصرخات والخراب، وصور موجات اللجوء والمعاناة والغرق، وصور التنمر والجفاء الذي نلقاه. كم من صورة فاز صاحبها بجائزة مع أنها تقطر ألمًا؛ وكم من فيلم وثائقي فاز مبدعوه بجائزة، مع أنه نقل جانبًا من البلاء. لكننا، على الرغم من كل هذه الابتلاءات والأوجاع والخرائب بقينا قادرين على الإبتسام، بقينا قادرين على صنع القوة الناعمة التي لم يعرف صناع القرار في المعارضة الاستفادة منها لردع القوة الصلبة للنظام وميليشياته وداعميه، وتأليب الرأي العام الشعبي للضغط على الموقف الرسمي الدولي لوقف مأساة القرن.
القوة الناعمة، الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي ومنصات الميديا المشابهة، إن لم نحسن اتقانها واستغلالها في دعم قضيتنا، ستبقى هذه القضية مثل هذا الطفل، مصطفى، بلا أطراف، وستبقى ثورتنا مثل والده، عاجزة عن فعل شيء له.
المصدر: اشراق