مايكل سينغ
على واشنطن زيادة الضغط على طهران. وعلى رغم أن التفاوض على اتفاق جديد يحمل خطراً على المدى القصير، ولكن إذا حرصت إدارة بايدن على حشد الدعم الداخلي والدولي لجهودها، يمكنها تحقيق نتيجة أنجح وأكثر استدامة على المدى البعيد
عندما كان جو بايدن مرشحاً رئاسياً، عرض استراتيجية من جزأين وضعت من أجل كبح جماح البرنامج النووي الإيراني. وبموجبها، تقترح إدارته أولاً العودة إلى “الامتثال المتبادل” بالاتفاق النووي المبرم في عام 2015، الذي انسحبت منه الولايات المتحدة في عام 2018، وانتهكته بعدها إيران. وثانياً، تبدأ واشنطن جولة مفاوضات جديدة مع طهران بغية التوصل إلى اتفاق “أكثر صلابةً وأطول مدة” يستبدل الاتفاق الأساسي.
وحين أعلن بايدن سياسته، ساد الاعتقاد أن الخطوة الأولى ستكون الأسهل. فمع أن حملة عقوبات “الضغط الأقصى” التي فرضها الرئيس دونالد ترمب لم تحظَ بدعم شركاء الولايات المتحدة، نجحت مع ذلك في جعل الاقتصاد الإيراني يترنح. وفي الوقت نفسه، بدا كأن انتهاك إيران للاتفاق، مهما كان سافراً، مصمماً بشكل يفسح لها المجال للعودة إلى الاتفاق النووي، ولكن الأحداث اللاحقة برهنت أن هذا التحليل بالغ التفاؤل: قدمت إيران مطالب مستحيلة عند التفاوض على إعادة إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة، فيما أظهرت في الوقت نفسه تردداً في التراجع عن نشاطاتها النووية المخالفة لذلك الاتفاق.
في أي مفاوضات يقارن كل طرف الصفقة المطروحة أمامه بأفضل الحلول البديلة المتوفرة له. ويشير تعنت إيران أثناء محادثات إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة في فيينا إلى تغيير في الحسابات التي قامت بها في عام 2015، أي إن الاتفاق النووي أفضل من استمرار الضغوط الاقتصادية. وهذا يعكس على الأرجح قلة الاحترام لاتفاق عام 2015 في أوساط حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي المتشددة ونظرتها الأفضل للبدائل المتوفرة أمام إيران. وعلى الأغلب أن إيران خرجت باستنتاج خلال السنوات الأربع الماضية بأن تخفيف العقوبات لا يرقى إلى المستوى الذي اعتقدته وانتظرته، أولاً بسبب تردد الشركات الأجنبية في العودة إلى السوق الإيرانية حتى عندما كانت خطة العمل الشاملة المشتركة سارية المفعول، وثانياً بسبب سهولة تراجع الولايات المتحدة عن الاتفاق من جانب واحد في عام 2018. وقد يشك رئيسي كذلك في استعداد إدارة بايدن لفرض العقوبات في غياب الاتفاق ويعلق آمالاً كبيرة على العلاقة الناشئة مع الصين باعتبارها بديلاً يوازن الضغط الاقتصادي الأميركي.
وبعبارات أخرى، ربما يعتقد المسؤولون الإيرانيون أن الامتثال لبنود خطة العمل الشاملة المشتركة من جديد هو أسوأ من البدائل الموجودة لها. ومن طريق وضعه خطة بديلة متينة تحدد بوضوح ما قد يترتب على إيران من تبعات في حال استمرت برفض المبادرات الدبلوماسية وتوسيع نشاطاتها النووية تزامناً مع تقديم عرض دبلوماسي لها يحمل في طياته احتمالات استمرارية أكبر، حتى بعد مغادرته منصبه، ربما ينجح الرئيس بايدن في تغيير حسابات القادة الإيرانيين.
التعلم من التجربة
في سياق دراستها الخيارات المطروحة أمامها، على إدارة بايدن الاستناد إلى تاريخ طويل من النجاح والفشل في السياسات الأميركية تجاه إيران. أما العبرة الأساسية التي يمكن استخلاصها من التفاعل الدبلوماسي الماضي فهي أن الولايات المتحدة حققت أقل نجاح لها حين اعتمدت بشكل مكثف على مقاربة أو أداة سياسة واحدة بعينها فيما تحققت بالمقابل أكبر نجاحاتها عند استخدامها عدة أدوات سياسية في الوقت نفسه وتنسيق جهودها مع شركاء رئيسين. وعلى سبيل المثال، يعتقد إجمالاً بأن تعليق إيران نشاطها في مجال الأسلحة النووية في عام 2003 جاء نتيجة تضافر الضغط العسكري الأميركي والجهود الدبلوماسية الأوروبية. كما أسفر مزيج العقوبات والدبلوماسية كذلك عن إبرام اتفاقات نووية في عامي 2013 و2015، ولو أن ترمب وبايدن اعتبراها غير كافية.
على إدارة بايدن أن تستفيد من هذه التجارب في خضم سعيها لجعل البدائل المتوفرة أمام إيران أسوأ من الاتفاق. أول وأهم نقطة هي أنه على الولايات المتحدة أن تبرهن النتائج التي ستضطر إيران لتحملها بسبب موقفها غير المنطقي أثناء محادثات فيينا، حين أصرت أن يتخطى تخفيف العقوبات النطاق الذي نصت عليه خطة العمل الشاملة المشتركة، وأن تتلقى ضمانات بعدم انسحاب أي إدارة مستقبلية من الاتفاق، وهي ضمانات لا يمكن لبايدن تقديمها حتى لو رغب بذلك. وفي حال استمرار التعنت الإيراني، على إدارة بايدن تنفيذ العقوبات الاقتصادية المفروضة أساساً وتوسيع نطاقها. ومن شأن الإقدام على هذه الخطوة أن ينبه المسؤولين الإيرانيين إلى خطئهم في تفسير الانتقادات التي وجهها المسؤولون في إدارة بايدن سابقاً لمقاربة الضغط الأقصى التي اتبعها ترمب، واعتبارهم أنها تتيح إضعاف العقوبات أو زوالها ببساطة في حال عدم التوصل إلى اتفاق.
ولذا، سيتوجب على إدارة بايدن تأكيد التزامها بتنفيذ العقوبات المفروضة على إيران في عهد ترمب وسد الثغرات التي ظهرت في نظام العقوبات خلال السنوات الماضية. وأهم هذه الثغرات مبيعات النفط الإيراني إلى الصين، التي ازدادت بشكل هائل ابتداءً من 2020. وتشير التقارير إلى أن ما يسهلها هو مناورات خادعة منها عمليات النقل في البحر. وقاربت المشتريات الصينية من النفط الإيراني مليون برميل يومياً في مارس (آذار) 2021، وهذا أعلى من أي فترة سابقة في السنتين الماضيتين، كما ارتفعت نسبة تصديرات المواد البتروكيماوية الإيرانية عالمياً. ويحسب للمسؤولين الأميركيين تحذيرهم من احتمال التشديد المرتقب للعقوبات، ولكن الخوف من ردة الفعل الإيرانية وتضارب الأولويات في إطار العلاقة الأميركية – الصينية المشحونة يصعبان على الأرجح تنفيذ هذه الخطوة.
سيكون من الأسهل اتخاذ قرار كهذا، ومضاعفة الضغط الإجمالي على إيران في حال عملت الولايات المتحدة بالتنسيق مع الشركاء. وتحديداً، إن انضم ما يسمى مجموعة الدول الأوروبية الثلاث، أي ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة، إلى الولايات المتحدة في الانسحاب من خطة العمل الشاملة المشتركة على خلفية رفض إيران العودة إلى الامتثال المتبادل بالاتفاق، قد يؤدي ذلك إلى عودة فرض عقوبات الاتحاد الأوروبي كما عقوبات الأمم المتحدة، وهذه هي “العودة إلى العقوبات”، التي سعت إليها إدارة ترمب. أظهرت السنوات الماضية أن التأثير الاقتصادي لخطوة كهذه قد يكون هامشياً بالنسبة لإيران، ببساطة لأن العقوبات الأميركية الأحادية حققت الكثير في معزل عن غيرها، ولكنها ستمثل مع ذلك تصعيداً مهماً للضغط الدبلوماسي على إيران، نظراً لأن قيادتها حساسة كذلك تجاه فكرة انعزالها دولياً.
ولذا، قد يظهر أن سعي إدارة بايدن لإحياء خطة العمل الشاملة المشتركة مفيد، ولو لم يتحقق هدفها المباشر. فعلى الأقل، هو دليل حسن نية دبلوماسية، ويجعل تنسيق العمل بين شركاء الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا وواشنطن مقبولاً سياسياً.
لكن إقناع مجموعة الدول الثلاث بالانسحاب من الاتفاق مع إيران ليس بالمهمة السهلة. على الرغم من عدم احترام أي من الولايات المتحدة أو إيران للاتفاق، قد تخشى المجموعة أن يؤدي الانسحاب إلى رد فعل إيراني يزيد من زعزعة الاستقرار أو أن تضحي بعناصر الاتفاق التي ما زالت فاعلة على الرغم من النزاع الأميركي – الإيراني. وربما تتردد في الإقدام على أي تصرف في غياب توافق عليه ضمن الاتحاد الأوروبي، الذي يشكل طرفاً في الاتفاق كذلك. وفيما قد يتبين أن المشكلة الأخيرة هي الأصعب، يسهل التصدي لأول مشكلتين، فأعمال إيران تهدد بالفعل بإحداث اضطرابات خطيرة، فيما تعني الخطوات التي اتخذتها طهران أخيراً في سبيل الحد من تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن عمليات التفتيش ومراقبة نشاطاتها النووية بأن العناصر الأخرى لخطة العمل الشاملة المشتركة قد لا تظل قائمة على المدى البعيد. وفي المقابل، يمثل انسحاب مجموعة الدول الثلاث مؤشراً على أن إيران وحيدة بشكل متزايد في موقف التحدي وأنه من الضروري وضع اتفاق جديد.
إنما على إدارة بايدن الاستعداد كذلك إلى احتمال كون الضغط الدبلوماسي والاقتصادي غير كافٍ لردع القيادة الإيرانية عن سعيها لاقتناء الأسلحة النووية، إذ برهن المسؤولون في إيران بالفعل عن استعدادهم للسماح لبلادهم بالمعاناة من الصعوبات الاقتصادية في سبيل تحقيق التقدم النووي. ولهذا السبب، على الولايات المتحدة توجيه رسالة واضحة عن استعدادها لتنفيذ ما هو أكثر من العقوبات وتسديد ضربة عسكرية باعتبارها الحل الأخير لمنع إيران من الحصول على السلاح النووي. ويرجح أن تسقط خطة العمل الشاملة المشتركة في حال فوز الجمهوريين بالمقعد الرئاسي.
يمكن تفهم تردد إدارة بايدن في الإقدام على هذه الخطوة. فلا الديمقراطيون ولا الجمهوريون يهمهم التورط في نزاع عسكري آخر في الشرق الأوسط، ويبدو أن البيت الأبيض يخشى أن يدفع التهديد والوعيد بالإدارة الإيرانية الجديدة المتشددة إلى رفض التفاعل الدبلوماسي بسبب استيائها من طريقة معاملتها، ولكن استخدام رادع عسكري أميركي موثوق يحمل ثلاث ميزات تستحق النظر فيها.
أولاً، سيوجه رسالة إلى إيران بأن اقتناء السلاح النووي ليس مكلفاً فحسب، بل مستحيل كذلك. وثانياً، قد يطمئن شركاء الولايات المتحدة في المنطقة الذين قد يشعرون لولا ذلك بأنهم مضطرون للتصرف ضد إيران أو السعي لتطوير قدراتهم النووية الخاصة. وثالثاً، من شبه المؤكد أن أي رئيس أميركي، بغض النظر عن انتمائه الحزبي، سيفكر في شن عمل عسكري في حال تلقيه معلومات استخباراتية عاجلة ومؤكدة بأن إيران قررت تطوير سلاح نووي، نظراً للخطر الذي تمثله تبعات قرار كهذا على الأمن القومي الأميركي. من الأفضل بالتالي أن تفهم إيران تبعات هكذا قرار، بدل أن تخطئ في استيعاب المخاطر وتؤجج احتمالات اندلاع صراع مع الولايات المتحدة بسبب سوء تقديرها.
ويكمن التحدي الفعلي في طريقة الحرص على أن تكون التهديدات بالعمل العسكري موثوقة فيما تنفذ الولايات المتحدة تحولاً استراتيجياً طال انتظاره طويلاً باتجاه آسيا وبعيداً من الشرق الأوسط. ومع أن الخطر الذي تمثله إيران بالنسبة للأمن القومي الأميركي حقيقي، لا يمكن مقارنته بالتحديات التي تمثلها الدول العدوانية التي تمتلك سلاحاً نووياً مثل الصين وروسيا. وسوف يتطلب الحفاظ على مصداقية التهديدات الأميركية المواظبة على التصرف حين تستهدف إيران وعملائها المصالح الأميركية، ولكن بدل ترافق الردود الأميركية مع استخدام مجموعة من أصولها ذات العيار الثقيل التي تجلبها من مناطق أخرى، من قبيل حاملات الطائرات والقاذفات البعيدة المدى، على الولايات المتحدة العمل بشكل دؤوب على تعزيز قدرات حلفائها، كما قدراتها، من أجل مواجهة ردود إيران المحتملة. وسوف تكبر مصداقية الولايات المتحدة كذلك إذا أكدت واشنطن التزامها بالمنطقة مع توضيحها شكل الاستراتيجية الأميركية المستقبلي في الشرق الأوسط وسط زيادة التركيز على آسيا.
لاتفاق نووي أفضل
يجب ألا يعني تفصيل خطة بديلة لإيران التخلي عن المسار الدبلوماسي، فلن ينجح إضعاف البدائل المقدمة لإيران سوى في حال توفر اقتراح دبلوماسي موثوق كذلك. والأحرى بإدارة بايدن التركيز على استبدال خطة العمل الشاملة المشتركة بدل إعادة إحيائها بما أن استئناف العمل باتفاق عام 2015 لن يرضي الولايات المتحدة ولا إيران. وبدر عن طهران بالفعل دعوة للتفاوض على اتفاق جديد كلياً عبر مطالبتها بتغييرات رئيسة على خطة العمل الشاملة من شأنها منع الولايات المتحدة من الانسحاب مجدداً. كما أشار بايدن إلى أن هدفه النهائي هو التفاوض على اتفاق أقوى، وليس إعادة إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة فحسب. ويبدو أنه لا يمكن تفادي التخلي عن خطة العمل مجدداً في حال عاد الجمهوريون إلى البيت الأبيض.
من المثير للسخرية أن أكثر الطرق استقامة أمام إدارة بايدن لكي تقدم لإيران اتفاقاً “أفضل” هو أن تعرض عليها اتفاقاً دبلوماسياً فيه متطلبات أكثر من طهران، ولكنه قادر على استقطاب دعم الحزبين الرئيسين، بالتالي على الدوام لفترة أطول وتكتب له حياة مديدة. وقد يتخذ هذا الاتفاق شكل “خطة العمل الشاملة المشتركة المحسنة” التي تهدف إلى توسيع نطاق القيود النووية المفروضة على إيران وإضافة قيود على نشاطاتها الصاروخية. كما أشارت إدارة بايدن، بالإضافة إلى منتقدي خط العمل، أنه يجب إضافة القضايا الإقليمية، مثل العراق أو اليمن، إلى المفاوضات، ولكن على واشنطن التفكير ملياً قبل التفاوض على هذه القضايا بشكل ثنائي مع طهران، أو حتى مع موسكو أو بكين. فمن الأفضل التعامل مع هذه الشؤون على حدة، ومع مجموعة مختلفة من الأطراف.
كما يمكن للولايات المتحدة وضع خطة العمل الشاملة المشتركة جانباً والسعي لتطبيق نموذج مختلف كلياً. ومن الخيارات الممكنة تطبيق اتفاق شبيه باتفاقات الحد من انتشار الأسلحة، حيث تنتهي صلاحية الالتزامات المفروضة على الطرفين بعد فترة زمنية محددة، في حال عدم إلغاء الاتفاق، وهو ما يشكل تحسناً بعد خطة العمل الشاملة المشتركة، التي تنتهي بموجبها الالتزامات الإيرانية تدريجياً، خلافاً لالتزامات الولايات المتحدة وشركائها التي لا تنتهي أبداً. وفيما يحمل وضع نموذج دبلوماسي جديد سلبيات كبيرة من حيث التخلص من اتفاق يحظى بدعم عالمي واسع النطاق، فهو يسمح للولايات المتحدة وإيران التخلص من الثقل الذي ترافق مع النقاش حول خطة العمل الشاملة المشتركة في السنوات القليلة الماضية. وفي النهاية، قد لا يكون التوصل إلى اتفاق دبلوماسي مع إيران ضرورة قصوى. في حال كانت تبعات توسيعها برامجها النووية قوية وواضحة بما فيه الكفاية، من الممكن أن ترتدع إيران من دون اتفاق. ومع ذلك، يجب أن يظل التفاوض على اتفاق الهدف المفضل للسياسة الأميركية، نظراً لأن الاتفاق القوي يمكنه الحد من غياب الاستقرار واحتمالات سوء التقدير التي من الممكن حدوثها في حال الاعتماد على سياسة الاحتواء والردع.
ولكن الاحتمالات تزداد في ألا يكون الاتفاق الجديد بين الولايات المتحدة وإيران إعادة إحياء لخطة العمل الشاملة المشتركة. ولا شك في أن الانتقال المباشر نحو التفاوض على اتفاق جديد يحمل في طياته خطراً على المدى القصير، ولكن إذا حرصت إدارة بايدن على حشد الدعم الداخلي والدولي لجهودها، يمكنها تحقيق نتيجة أنجح وأكثر استدامة على المدى البعيد.
*مايكل سينغ، زميل أقدم في برنامج زمالة “لين – سويغ” والمدير الإداري لمعهد واشنطن، وشغل سابقاً منصب مدير أقدم لشؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأميركي خلال ولاية إدارة جورج بوش الإب
مترجم من “فورين أفيرز”، أكتوبر (تشرين الأول) 2021
المصدر: اندبندنت عربية