الفن العربي الأصيل يفقد علما من أهم أعلامه، وحلب تفتقد ألمع رجالات الفن والطرب والذق الرفيع، صباح فخري، حمل الفن “الحلبي” إلى الآفاق، فأودعت فنه أعماقها، تماهت به، حتى صار :صباح فخري” أحد معاني حلب وتجلياتها.
رحم الله هذا الفنان الذي غاص عميقا في وجدان كل عربي، كل حلبي، كل إنسان، وكان حضوره متحققا في كل الأعمار ومراحل الحياة. وفي كل التجليات الروحية والفنية، من موشحات الدين والتصوف وحب الاله، إلى مواويل الطرب، وقدوده، وفي كلها، وبكل ألوانها، ما يسمو بالذوق، ويعلي شأن الذائقة، ويرقى بالأحاسيس، ويعزز العاطفة . أنا ممن يعتقدون أنه ما من حلبي إلا وترنم وتمايل وتراقصت أحاسيسه مع صباح فخري.
حلب مدينة الطرب، والفن، ومدينة السمو والخلق الرفيع، وقد فعل بها برابرة العصر ما فعلوا، ستفتقد بغياب صباح فخري، شيئا مهما من نكهتها المميزة، لكنها بما عرف عنها من أصالة ستكشف في لحظة من لحظات تجليها كيف أن ما تركته هذه القامة الفارعة في أعماق وجدانها وتربتها سيعطي عطاءه الأخاذ، وينبت من غرس هذا الفنان المبدع الكثير مما يؤكد هذه الأصالة.
د. مخلص الصيادي
——————————
صباح فخري.. من مؤذن صوفي إلى صناجة العرب
سنان ساتيك/ الجزيرة الوثائقية.
في دار عربية مكشوفة الفناء، يلهو بين سيدات يجلسن بعد انتهاء أعمالهن، يجلس على غصن شجرة يدندن بنغم من دون كلمات.. انتبهت سيدة من الجالسات لذلك الصوت، فقالت تعال يا صباح لأعلمك موالا:
غرد يا بلبل وسلِّ الناس بتغريدك
الله يتمم عليك الجمال يا حلو ويزيدك
السعد لو عاد لا بإيدي ولا بإيدك
إلزم غصونك يا بلبل وطير في الجو وادعيلي
يمكن في ساعة رضا يحلها سيدك
هذا أول موّال غناه صباح الدين أبو قوس (صباح فخري) بعمر خمس أو ست سنوات، وهو المولود في الثاني من مايو/أيار 1933 في حلب، فنهل منها ومن تراثها، وآلى على نفسه صون تراثها[1].
تكوين صوفي
صقلت الصوفية موهبة صباح فخري، نمّتها وشحذتها ليصبح واحدا من أهم رواد الفن العربي، فوالده رجل دين صاحب أربع طرق صوفية: القادرية التي يميل إليها، والرفاعية والدسوقية والبدوية[2].
تربى صباح تربية دينية روحية تغلغلت فيه، ففي السادسة أتقن قراءة القرآن على يدي أبيه؛ لذا ساعده علم القرآن والتجويد لاحقا في نطق الكلمات ومخارج حروفها، وغنائها بطريقة سليمة.
وقبل العاشرة تعلم الإنشاد الديني من حلقات الأذكار التي كانت تقام في البيت والزوايا الصوفية، كما عاش في أجواء حلقات النقشبندية وبين قارئي القرآن وصانعي القدود الحلبية، فتبلورت شخصيته مع الأغاني الدينية التي أعانته في التعرف إلى الموسيقى وتعلم الموشحات والأدوار والتراث العربي، متمرسا بها، متمكنا منها، يغنيها بانسيابية، يتلاعب بلحنها مدّاً وقصرا، وبطبقاتها ارتفاعا وانخفاضا، حتى غنى أغاني دينية له مثل “أدعوك يا رب”[3].
درس الموسيقى والغناء في معهد حلب، إلى أن زار أمير الكمان سامي الشوا مسقط رأسه حلب عام 1947 ويحيي فيها عددا من الحفلات. وفي إحداها استمع لصباح الدين فأعجب بصوته، وسماه محمد صباح متمنيا أن يرافقه في حفلاته في سوريا ومصر.
كما أتيح له السفر إلى إيطاليا ليدرس غناء أوبراليا كلاسيكيا، لكنه رفض لأنه سيكون عالميا لا عربيا، وسينسلخ عن تراثه وثقافته.
من صباح الدين إلى صباح فخري
انتقل إلى دمشق مع الشوا يغني معه في حفلاته، وكان من بين حضورها السياسي السوري المعروف فخري البارودي المحب للأدب والموسيقى، ومؤسس المعهد الموسيقي الشرقي ورئيسه، فانبهر به وطلب منه الالتحاق بالمعهد ولم يسمح له بالذهاب إلى مصر أو إيطاليا، وتعهد برعايته، فتلقب بصباح فخري امتنانا له.
انتسب إلى المعهد ودرس على يدي عمر البطش الإيقاعات والموشحات ورقص السماح وفن غناء القصيدة الأصولي والأدوار، وتعلم من مجدي العقيلي النظريات الموسيقية والإلقاء والغناء بوساطة التدوين الموسيقي (صولفيج) والعزف بالعود، ومن عزيز غنام المقامات.
تخرج عام 1948، وبدأ يغني من ألحان ملحنين سوريين معروفين مثل بكري الكردي وعدنان أبو الشامات وعزيز غنام ومجدي العقيلي وإبراهيم جودت. ثم عاد إلى حلب والتحق بالمعهد العربي الإسلامي عام 1949[4].
عمل مدرسا في الريف، وعاملا في معمل نسيج، وموظف محاسبة، وفي معمل إسمنت، ومحصل ضرائب في القطاع الخاص، ثم موظفا في دائرة الأوقاف مؤذنا في جامع الروضة[5].
عند بلوغه اخشَوْشَن صوته، وأحس بضياع هويته، ففكر في التفرغ للتجارة، لكن حبه للموسيقى والغناء دفعه للعودة التي كانت عبر التلفزيون، فقدم دور محمد عثمان الشهير “أصل الغرام نظرة”، ثم قصيدة “قل للمليحة”، ثم عيون التراث مثل “يا مال الشام” و”يا طيرة طيري” لأبي خليل القباني، ثم غاص في التراث لنبشه وتقديمه وإحيائه بصور تجديدية[6].
غناء متواصل وموسوعة غينيس
أرخت الحرب العالمية الثانية عتمتها على حلب، فعاشت أسرة صباح كغيرها من الأسر في ضنك، لكن الفن عندها استمر، إذ كان يرافق أخاه إلى السهرات الطربية، وعرّفه بعازف العود والنشأة كار (آلة شبيهة بالعود) محمد رجب الذي لحّن له موشح “يا هلالا غاب عني واحتجب” على مقام الرست، ولحن له أغنيات أخرى، ثم اتصل بالشيخ علي الدرويش وولديه نديم وإبراهيم وتعلم منهم، ولحن له إبراهيم بعض الأغنيات.
جاب العالم يقدم فنه وتراثه، حتى بزّ مطربي التراث، كما دخل موسوعة غينيس عام 1968 عندما غنى عشر ساعات متواصلة في كاراكاس، وأحيانا غنى لأربع عشرة ساعة متواصلة.
حاز العديد من الجوائز والتكريمات والدكتوراه الفخرية في الغناء والموسيقى، كما منحته ميامي وديترويت مفتاحيهما تقديرا لفنه مع شهادة تقديرية، وألقى محاضرات عن الموسيقى العربية والآلات الموسيقية العربية في إنجلترا في قضايا أثارت نقاشا لدى المهتمين بالموسيقى، وأسس أول معهد غنائي في حلب في الوطن العربي باسمه[7].
فلسفة موسيقية
اشتهر “صنّاجة العرب”، كما يُلقب، برقصته أثناء الغناء، بتحركات تجلوية على المسرح تمثل حالة روحية منتشية بقلب مليء بالحب يسمو به، فقلبه يدق مع الإيقاع، يعشق الموسيقى، يتألم بها، لأن الفنان إذا تألم تماهت روحه مع الألم وأعطت إبداعا أعلى.
أصيلٌ حتى الثمالة، يتوحد مع الكون بنبض موسيقي على إيقاعات الزمن، لا يفكر بالأمور المادية، فالحب يبدأ بالمادة إلى أن يصل إلى الروح، يُحلق به إلى الروح الصوفية. فخمرة الحب مثلا فلسفة ليست للعشق الخارجي، لا بد من الدخول إلى المعنى وإدراك معنى المعنى: حب الذات الإلهية، والتوحد معها.
كثير من أغانيه يُظن أنها لحن تراثي، لكنها من ألحانه مثل “خمرة الحب” و”قل للمليحة” و”جاءت معذبتي” و”حبيبي على الدنيا” و”اللؤلؤ المنضود”.
مجدد التاريخ والأصالة والتراث العربي القديم نبش منها أشياء، ربما لولاه لاندثرت، حافظ عليها تارة ووشّاها بتجديدات تارة أخرى، فقد جدد “يا مال الشام” بجمل لحنية بصوته مع تطويل وتقصير، وإضافة كوبليهات جديدة بلحن جديد، كما اقتبس من تجديداته آخرون كعبد الحليم حافظ الذي صاغ “مدّاح القمر” باقتباس من “قدُّك الميّاس”[8].
منذ سنوات كان صباح فخري في طور تأليف كتاب بعنوان “ما غناه صباح فخري” يتضمن ألف لحن بين قديم وجديد ومُلحّن، وثّق فيه الألحان والأغاني، وعرّف فيه الموشح والدور والقصيدة والدور، فكان مؤلفا موسيقيا جامعا، لكنْ يبدو أن الحرب سرقته.
ومنذ شهر صدر كتاب يروي سيرة “قلعة حلب الثانية” التي بدأت تظهر عليها آثار الزمن كمثيلتها الأولى التي أنهكتها الحرب، وقضمت بعض حجارتها.