فراس سعد
سوزي علي تخترق الخطوط الحمر السورية
إن توجيه الانتقاد إلى أي جماعة سورية سواء أكانت جماعة عرقية أم مذهبية أم دينية في الظرف السوري الحالي، أمر غير مفيد على الإطلاق، عدا أنه يولّد حساسيات جديدة تضاف إلى تاريخ من الخوف وسوء الفهم والشيطنة، ساد بلادنا لقرون، وما زال..
فالنقد الموجه لجماعة متوترة قلقة، من خارجها، يدفعها لمزيد من التوتر والقلق والتقوقع، على عكس ما يفترض بالنقد كوسيلة لتصحيح المسار، وهو، أي النقد، ليس غاية بحد ذاته، فكيف إذا كان به يدفع لمزيد من سوء الفهم؟
كنا وما زلنا نعتقد أن أي نقد بنّاء يوجّه لجماعة ما، يجب أن يوجّه من داخلها، من داخل الجماعة أو الطائفة، أو الحزب… الخ، فالنقد الإيجابي في هذا الإطار، إما أن يكون نقداً ذاتياً أو لا يكون نقداً.
والنقد الذاتي يمكن أن يُنشئ حالة تفاعل أو صراع داخل الجماعة يكون دليلاً على أنها ما زالت جماعة حية، راغبة بالتجدد، عبر الاعتراف بأخطائها والاعتذار عنها قولا، أو فعلا بالتراجع عنها أو تصحيحها.
يضاف إلى ما تقدم أن النقد الذاتي من داخل الجماعة السياسية أو الجماعة -المجتمع العمومي أو الجماعة- الحزب فعل ضروري لصحة الجماعة، كما هو أمر ضروري لتفكيك أوهامها وإيقاف تقدمها في طريق يقودها إلى الهاوية، فضلاً عن أهميته على المستوى الوطني العام..
فمن لا يحاسب نفسه سيفسح المجال للآخرين لمحاسبته، وغالباً ما تكون محاسبة الآخرين لنا قاسية أو ظالمة، وأحيانا مدمرة.
من البيئة الموالية إلى الجماعة الأسدية:
في خانة النقد الذاتي أو النقد من الداخل يمكن وصف ما قامت به الشاعرة السورية سوزي محمد علي القادمة من بيئة اجتماعية “كتب” عليها بالعموم الموالاة للنظام، وهي بيئة لها بعض الخصوصية السياسية والمفاهمية، فخصوصيتها المفاهمية تأتي من كونها في العموم تملك مرجعية فكرية عقائدية مختلفة عن المرجعية العقائدية للسوريين، أما خصوصيتها السياسية فتعود إلى أن النظام الحاكم قبض بإحكام على هذا البيئة وحولّها إلى جزء من جماعة سياسية عامة تدين بالولاء المطلق للحاكم الذي ينحدر بالولادة من هذه البيئة في الساحل السوري، وبغضّ النظر عن الهوية الحقيقية لهذا النظام، وبغضّ النظر عن أهدافه ونواياه تجاه هذه البيئة الموالية.
ما سبق من اعتبارات دفع البيئة الموالية في الساحل إلى جماعة أسدية، الأمر الذي ميزها عن بقية البيئات والتجمعات الموالية للنظام في شتى أنحاء سوريا، بحيث إن أجهزة النظام المتعددة ابتداء من حزب البعث والإعلام الحكومي الموجّه وبطش أجهزة الأمن والاستيعاب واسع النطاق ضمن الجيش والأمن ومؤسسات الدولة منح أبناء هذه البيئة الطمأنينة والشعور بالقوة اللذين افتقدوهما طوال قرون، رغم أن الذهاب حتى النهاية خلف هذه المنظومة ومعها سيكون ثمنه كبيرا بعد سنوات من الثورة والحرب السورية، حيث فقدت هذه الجماعة ما يزيد عن مئة وخمسين ألف شاب ما بين عسكري وأمني فضلاً عن عناصر الشبيحة.
السياسة والنقد الذاتي أكبر جريمتين في سوريا
النقد الذاتي -كما السياسة- أمر أكثر من ممنوع داخل هذه البيئة الموالية عموما -كما في عموم سوريا-، فأكبر جريمة في المجتمعات الديكتاتورية هي جريمة الكلام الناقد أياً كان هذا الكلام، سواء كان سياسياً أم دينياً أم اجتماعياً.. فكيف إذا كان الكلام نقداً علنياً عبر وسائط التواصل الاجتماعي التي أصبحت مضبوطة بالكامل من قبل السلطة، بقوانين رادعة، حيث إن كتابة سطر واحد في الصفحة الشخصية الفيسبوكية لأي مواطن سوري، أو كتابة كلمتين بل كتابة حرفين يعبّران عن موقف سياسي ناقد، تعرض صاحبها للسجن لثلاث سنوات وربما للموت أو الإعاقة داخل السجن، بل إن وضع إشارة تعبيرية (لايك أو غيرها.. الخ) يمكن أن تعرض الشخص للمساءلة الأمنية أو للمساءلة “الاجتماعية السياسية” (على اعتبار أن المجتمع المسيّس لصالح النظام الحاكم هو جهاز رقابة وردع مواز لأجهزة النظام الأمنية).
اختراق خطوط حمراء في سوريا -المجتمع- الثكنة
لأجل ذلك فإن خطاب الشاعرة سوزي محمد علي عبر فيديوهاتها خرق خطاً أحمر تاريخياً مزدوجاً، بل مثلثاً بالنسبة للجماعة المُسيّسة لصالح النظام، أو لما يمكن تسميته “الجماعة الأسدية” داخل البيئة الموالية.
لقد وجهت السيدة سوزي أولا نقدا سياسيا للأسرة الحاكمة على خلفية التعامل مع أشخاص يصنفهم النظام نفسه كأعداء لسوريا (الإسرائيليين)، عبر هجومها على ابن رامي مخلوف بسبب مرافقته لعارضة أزياء إسرائيلية، دون أن تنسى أن تعرّج على انتقاد رئيس النظام نفسه بشار الأسد المقاوم الممانع الذي يصمت عن انتهاك الطيران الإسرائيلي للأجواء السورية -بلغت طلعاته الجوية ألف طلعة أو أكثر- وضرب المواقع العسكرية السورية، وبهذا فإن انكشافا خطيرا لخدعة أو كذبة الممانعة -المقاومة الأسدية- سيعرّي النظام في أعمق مبررات وجوده السياسي العمومي ويدفع جماعته السياسية داخل الجماعة الأسدية للجنون، فلقد وضعت هذه الجماعة المخدوعة أمام الحقيقة العارية علناً ولأول مرة، رغم أن كثيرين من هذه الجماعة يعرفونها ويصمتون عنها خوفا من عواقب الكلام.. لكن هؤلاء المخدوعين الذين أصيبوا بالجنون من انكشافهم أمام ذواتهم، وانكشاف هول الخديعة التي انطلت عليهم نصف قرن، فأصيبوا بالصدمة من جهلهم، هؤلاء بدل أن يوجهوا صرخاتهم باتجاه النظام المنافق المخادع، صبّوا غضبهم على السيدة التي كشفت لهم الخديعة الكبرى، عبر رسائل شتم وتهديد أو رسائل لوم وكراهية.
وثانيا فلقد وجهت السيدة سوزي نقدا عاما للبيئة الموالية وللجماعة الأسدية بالأخص هذه المرة حيث وصفت أبناءها أنهم “طائفيون”، وهذه أيضا إحدى تابوهات هذه البيئة وكل بيئة أو جماعة مغلقة، كبرت أو صغرت، تظهر شيئا وتضمر شيئا مختلفا، الأمر الذي يكشف عن سلوك اجتماعي منافق يشترك صراحة فيه جميع السوريين من مختلف التوجهات المذهبية والدينية والسياسية.. بسبب الخوف من الآخر أو من السلطة وبسبب الجهل بالآخر وكذلك وهو الأهم بسبب عدم تقبل اختلاف الآخرين المذهبي أو الفكري..
ثالثاً وجهت السيدة سوزي نقدا اجتماعيا للبيئة الموالية المستلَبة من النظام، طال سلوك أبنائها، فاتهمتهم بتلفيق أخبار وكتابة تقارير ضد بعضهم البعض لصالح أجهزة الأمن، إلى جانب انتقادها لسلوك جزء من شبابها ورجالها غير المبالي بما يجري من دمار للبلاد، جزء تخلى عن مسؤولياته واستسلم لدعاية السلطة.
وفي تسجيل ثانٍ لها كشفت الشاعرة سوزي محمد علي عن المجتمع المقموع الخائف الذي يشبه الثكنة العسكرية -إذا صح التعبير- الذي فرضه النظام على مدينة اللاذقية تحديداً، فضربت مثالا من تجربتها المريرة خلال دراستها المدرسية في مراحلها المتوسطة الإعدادية والثانوية، حيث ساد جو من الخوف وسط الطلبة طلابا وطالبات، امتلك فيه مدربو التدريب العسكري وكذلك المدرسون والمديرون صلاحية إرهاب الطلبة لإذلالهم وتحطيم معنوياتهم، وإجبارهم على الركوع -حرفيا- دون أدنى سبب أو مبرر، تحولت فيه مدارس اللاذقية إلى ما يشبه جو الثكنات العسكرية، وتحول الطلاب والطالبات إلى جنود وأرقام متشابهة مسحوقة مسلوبة الكرامة، وهو غاية ما ترغب به سلطة النظام الحاكم، وكل سلطة حاكمة متجبّرة.
لكن أكثر ما يثير الدهشة ويدعو للحيرة هو أن النظام كان وما زال يفعل هذا الأمر وبالطريقة الفجّة المخزية ذاتها في مدينة اللاذقية ومدن الساحل تحديدا، دوناً عن بقية المدن السورية، قاصدا متعمدا، ربما لأنه يعلم يقينا أن إفلات أهالي اللاذقية والساحل عموما، من قبضته، قبضة الخوف والرعب، سيكون فيه مقتله.
خطاب حاد كسر التابوهات يعبّر عن مدى فجيعة السوريين
على خلاف كل الأشخاص الذين انتقدوا قبلها، النظام أو العائلة الحاكمة أو الجماعة السياسية الموالية داخلها… الخ بدا خطاب السيدة سوزي للنظام وجماعته السياسية حادا وانفعاليا كسر كل التابوهات، بحيث إنها استخدمت فيه ألفاظا قاسية وشتائم، لم يستسغها بعض متابعيها من جمهور المعارضين للنظام.. وربما كان هذا أمرا بعيدا عن قصدها، فهي أصلا وجهت خطابها لحاضنة النظام في الساحل بهذه الطريقة الحادة بقصد إيقاظهم من غفلتهم..
ولعل خطابها الحاد من ناحية أخرى، يعبّر عن مدى فجيعتها، كما كثير من أبناء هذه البيئة بالحالة التي أوصل النظام إليها سوريا وشعبها، إضافة لذلك فخطاب الشاعرة سوزي الحاد يعود بلا شك لشعورها بالحرية والطمأنينة بعد خروجها من سوريا.
وبسبب ما سبق عرضه في خطاب الشاعرة سوزي، باعتباره خطاب نقد ذاتي علني وعبر وسائط التواصل الأكثر شعبية، أي الفيسبوك والبث المباشر صوتا وصورة، كانت ردة فعل الجماعة السياسية الأسدية -كما أسلفنا- وأجهزة الأمن أيضا، عبر حملة ضغط على الشاعرة وأسرتها، أدى بها إلى إغلاق صفحتها الشخصية لبضعة أيام، وتوقفها عن تسجيل فيديوهاتها النارية التي أثارت ضجة بين السوريين عامة، وتداولتها عدة قناة تلفزيونية معروفة، كما انتشرت عبر قنوات اليوتيوب..
ورغم ذلك ما زال جزء من أبناء البيئة الموالية في الساحل يجدون أنفسهم يقفون خلف النظام الحاكم، لا حول لهم ولا قوة، بسبب تيمة البعبع الإسلامي الذي يقطر سيفه دما هذه التيمة الحاضرة دوما، والتي يجري استحضارها كلما خفتت شعلة حضورها، والتي -للأسف- يغذيها من الجهة المقابلة خطاب طائفي معلن أو موارب لأفراد ولمنصات إعلامية وجهات معارضة..
المصدر: موقع تلفزيون سوريا