لطالما كانت موضوعية الكاتب من عدمها، حيال القضايا التي يخوض فيها، هي المعيار القيمي والأخلاقي في الحكم على سيرته الفكرية والثقافية والشخصية، إذ أن الفصل بين مواقف الكاتب حين يشوب التناقض الجارح مصداقية صاحبها، مما لا يتقبله عقل وضمير المُتلقي، دون إثارة جوانب ذاك التناقض ودلالاته الصريحة. في زمن يستدعي نقاش دور المثقف الذي يُعبّر من خلال كتاباته عن حقيقة دوره حيال قضايا الشأن العام، فإن وضوح وجرأة الكاتب في مواقفه في كل زمان ومكان، هو ما يُحدد مجال تأثيره ومكانته في الضمير الجمعي، طالما أن التمييز بين الكتابة كمهنة والثقافة كرسالة، هي من مهام العقل النقدي الذي يأبى تحويل المعرفة إلى سلعة، ولا يحتمل المضاهاة بين القضية التي تستدعي موقفاً، والهروب منها إلى كتابة لا تُملي موقفاً يُوجبُ ثمناً.
مع سيولة الأحداث والمتغيرات التي باتت سمة واقعنا المتحول، تعددت وسائط توثيق ما يُكتب ويُنشر عنها وحولها، وأصبحت بمثابة الأرشيف المفتوح، الذي يضع نتاج الكاتب تحت مجهر الرقابة الشعبية، إنه جمهور عالم الإنترنيت الذي يعرف الكاتب عن قرب، ويستعيد نتاجه كي يتعرف عليه أكثر. في ظل قضايا ساخنة لا يغيب عنها الدم والموت وتحديات مصيرية كبرى، لم يعد الكاتب يملك خيار اصطفاء موقفٍ حيال إحداها، والصمت تجاه أخرى، كأن يُبدي كاتباً منفياً موقفاً صريحاً وحاداً ضد نظام الإجرام في بلده، في حين يصمت عن انتهاكات يتعرض لها بني جلدته في بلد إقامته أو منفاه. لكن يحدث ما هو أكثر من ذلك مع ارتهان نسبة كبيرة من الُكُتّاب لمصادر أرزاقهم، ومع الخوف في حال تمسكهم بدواعي الاستقلالية الحرة، من خسارة تلك المصادر في حال اتخذوا من المواقف ما لا يُرضي سياسات مموليها.
هذا النوع من الصراع بين المبادئ والمصالح يتجاوز الفرز بين ثنائية / مثقف السلطة / ومثقف الثورة / التي طبعت حقبة ما قبل اندلاع الثورات العربية، إذ أن علاقة المثقف مع تحديّات زمن الثورة، وضعته أمام امتحان أكثر تعقيداً وانكشافاً في آن، إذ بات عنوان الصراع في مدى انسجام الكاتب -على طول الخط – مع استحقاقات الانحياز للثورة وقيمها التحررية في كل مكان، فليس مقبولاً من الناحيتين الفكرية والأخلاقية؛ أن يُصاب كاتبٌ بالخرس عن سلوك سلطوي جائر في دولة يعمل في أحد منابرها، في حين يُلعلع صوته حول انتهاكات تقترفها سلطات أخرى بحق مواطنيها أو اللاجئين فيها. قلّة من الكُتّاب من تحرروا فعلياً من شروط الإكراه، التي تفرضها مؤسسات إعلامية وصحفية تطغى عليها نزعات الشخصنة والتسييس والأدلجة، فيما بقيت المؤسسات التي تضمن للكاتب هامشاً واسعاً للتعبير عن آرائه ومواقفه أقرب إلى الاستثناء من سواها. تشكل الثورة السورية المثال الأوضح على امتحان مواقف الكُتّاب المنتمين لها والمدافعين عنها، فيما إذا كانوا مثقفين حقيقيين وفاعلين من حيث أدوارهم النقدية، أم ممتهني استكتاب ضمن سقوف من غير المسموح تجاوزها. لا يُحدد الإجابة هنا جمهور ورثَ ثقافة ” المنحبكجية ” في ردائها الإيديولوجي التعبوي، لأن مثل هذا الجمهور هو الغطاء الذي يستر عورات كاتب يعكس صوت المؤسسة التي يرتزق منها، الإجابة تأتي من متلقٍ متحرر بدوره من سلطة التلقين، يرى في الثورة ما يقرأه في ضمير كاتبها الحر، الذي لا يقبل المساومة أو المداورة على سلطة الحق وموجبات الحقيقة.
العلاقة التبادلية في مدلولها التفاعلي بين الكاتب والمُتلقي هي بيت القصيد، بمعنى أدق كلّما احترم الكاتِبُ ذاكرة وعقل المتلقي بادلهُ الأخير الثقة بدور ومكانة المثقف في إعادة تشكيل الوعي الجمعي. بوسعنا تلمس مؤشرات عديدة على خفوت هذه العلاقة في واقعنا الراهن، طالما هناك رهط كبير من المشتغلين في فنون الكتابة، يقتاتون على فتات المعرفة بما يستكفي حدود النشر والترويج، في حين يستحوذ عليهم توسل مفاتيح جديدة لنشر نتاجهم الخالي من الجديّة والعمق والاجتهاد، فغاية ما يطمحون إليه هو زيادة رصيدهم من الاستكتاب، واختزال وظيفة الكتابة إلى لعبة علاقات عامة، تقوم على الشطارة في التسويق على حساب معايير الكفاءة والجدارة.
من البديهي أن من يتحمل مسؤولية تخليع تلك المعايير، العديد من أرباب المؤسسات الإعلامية والصحفية الذين- غالباً – ما يفرضون رؤاهم وحساباتهم الخاصة، على حساب الدور التثقيفي والتنويري المفترض للمؤسسات التي يسيطرون عليها.
لا غرابة – في ضوء ذلك – أن يكون الفقر المعرفي وضعف الحساسية الأخلاقية، هما سمة طائفة متزايدة من الكتبة والصحفيين والمحللين، ممن يعتقدون أن مجرد تصنيفهم في خانة الثورات، يبيح لهم تمرير لغة ومضمون ينتميان إلى مرصوفة الاستبداد الرثة. يتحدثون عن بلايا الفساد والإقصاء والمحسوبية في مؤسسات الثورة، فيما يتجاهلون نظائرها في واقع المؤسسات التي يسترزقون منها. يرذلون الخطاب الطائفي والجهوي شكلاً، في حين يكرسون مضامينه الضارة في مواقف انتقائية وشعبوية وتحريضية “أمثلة لا تحصى عن كُتّاب يتربصون بعضهم البعض، في حفلة مفتوحة للاصطياد بالماء العكر تحت رايات الدفاع عن الثورة ” تشي تلك الأمثلة – التي تفيض من حولنا- إلى تردي في أخلاقيات صنف متزايد من الكتبة المصابين بالتضخم الذاتي، غير الملتزمين بأصول النقد الموضوعي المبرأ من الافتراء، والتشهير، والشيطنة.
ليست تلك السلوكيات فقط الوجه البائس لاستغلال حق الرأي في التعبير، وممارسة نقيضه في عوالم الفوضى والابتذال والمصالح، فالكاتب حين يستهين بذاكرة وعقل المُتلقي، فينسى ما نثره من مواقف ينفي جديدها قديمها، وينقضُ آخرها أولها، لا يحق له أن يسأل عن انكماش الجمهور، وانفضاضه عن نخب تنزاح عن ثقافة الحرية وقيمها العقلانية والأخلاقية، وذاك هو الوجه الأكثر بؤسا لواقع يفاقم من الهوة بين الكاتب المثقف، والكاتب المُعادي لقيم الثقافة، وبين المثقف المستمسك بالحرية، ونُخب تخلت عن حريتها. من المفارقة أن انتشار وسائل الإعلام والتعبير كالفطر، ليس مؤشراً على تزايد هوامش الدفاع عن الحقيقة، بقدر ما أصبحت ظاهرة سياسية في استغلال المثقفين، وتوظيفهم في الدفاع عن مصالح الأنظمة الحاكمة – كما عليه الحال في الصراع الخليجي والأبواق المستخدمة فيه – ما يطرح تحديّات كبيرة حول ضرورة وجود مؤسسات مُستقلة فعلياً، تحصّن أصحاب الكلمة والموقف الحر، وتحمي ثقافة الحرية والتحرر من سطوة المتاجرة والابتذال.