إياد الجعفري
ناقشت وسائل إعلام سورية، خلال الأيام القليلة الفائتة، مدلولات التصريحات التي صدرت عن مسؤولين في الإدارة الذاتية “الكردية” بشمال شرق سوريا، قبل أسبوع، بشأن عزم الإدارة إنشاء مؤسسة للنقد والمدفوعات المركزية، في خطوة تعني -لو تمت- التمهيد لانفصال “نقدّي” عن حكومة النظام السوري في دمشق.
وتوحي تصريحات إحدى القيادات في ما يُعرف بـ “المجلس العام في الإدارة الذاتية”، وكأن حُكام “شرق الفرات” –”الكُرد”- قد استيقظوا فجأةً على واقع تآكل القوة الشرائية لسكان المنطقة، والمُقوّمة بالليرة السورية، بالتوازي مع عجز المصرف المركزي التابع لنظام الأسد، عن اتخاذ أية إجراءات فعّالة لمواجهة تلك “التطورات غير المواتية”. وهو ما دفع محللين إلى اعتبار طرح فكرة “الانفصال النقدّي” عن دمشق، من جانب الإدارة الذاتية، في هذا التوقيت بالذات، بوصفه ورقة ضغط ضد النظام في خضم المفاوضات الجارية على قدمٍ وساق، بين الإدارة والنظام، برعاية روسية، لإعادة ترتيب العلاقة بين الطرفين، وسط أنباء عن تعنت نظام الأسد في تقديم أية تنازلات.
فالإدارة الذاتية، لم تلوّح بشبح “الانفصال النقدّي” عن نظام الأسد، في أحلك أوقات انهيار سعر صرف الليرة السورية، خلال شتاء وربيع العام الجاري. فيما قررت الحديث عن تآكل القدرة الشرائية للمواطنين، اليوم فقط، وبعد استقرار ملحوظ لسعر الصرف ضمن هوامش تغيرات محدودة، منذ منتصف العام الجاري. الأمر الذي يؤكد البعد السياسي لهذا الطرح، في هذا التوقيت.
لكن، قد يكون من المفيد مناقشة مدى قدرة الإدارة الذاتية على تنفيذ هكذا سيناريو -“الانفصال النقدّي” عن نظام الأسد-؟
وبهذا الصدد، يمكن الإفادة من دراسة نشرها مركز دراسات “الفرات”، وهو مؤسسة بحثية مقرها، مدينة القامشلي، في شمال شرق سوريا، تأسس عام 2018. والدراسة التي صدرت في أيار/مايو الفائت، تناقش ظاهرة “الدولرة” في المنطقة. وتورد تفاصيل ومعطيات مفيدة في تقييم الخيارات المتاحة لدى الإدارة الذاتية “الكردية” في إدارة الواقع النقدي بالمناطق الخاضعة لسيطرتها.
ويوصّف معدّ الدراسة، الباحث الاقتصادي د. شوقي محمد، حالة “الدولرة” في “شرق الفرات” بأنها “دولرة جزئية –غير رسمية”، حيث يُستخدم الدولار على نطاق واسع في الصفقات التجارية بين الأفراد، ونشاطات منظمات الإغاثة المدنية العاملة هناك، ومنظمات الأعمال المختلفة. كما ويُعتمد الدولار، في العديد من تعاملات المؤسسات التابعة للإدارة الذاتية، وبصورة خاصة في تجارتها مع الخارج، أو في بعض القطاعات الاقتصادية، كالجمارك وبعض التعاملات النفطية.
ووفق الدراسة، تنأى الإدارة الذاتية بنفسها، عن اتخاذ أي قرار، يشرّع أو يمنع، التعامل بالدولار. وهي ما تزال، رسمياً، تتبع لسلطة المصرف المركزي بدمشق. وتتعامل مع المصرف التجاري السوري، الخاضع للنظام، في العديد من عمليات بيع وشراء الليرة السورية، التي تحتاجها الإدارة لتسديد رواتب موظفيها بالدرجة الأولى، والقيام بالعديد من الصفقات الخاصة بالهيئات التابعة لها.
وتفصّل الدراسة في مزايا وسلبيات حالة “الدولرة الجزئية” التي تسود منطقة “شرق الفرات”، موضحةً أن اقتصاد المنطقة يستند بصورة رئيسية على مبيعات النفط، المقوّمة في معظم الأحيان، بالدولار. إذ تساهم عائدات النفط بنسبة 90% من موازنة الإدارة الذاتية، فيما تساهم الرسوم الجمركية بنسبة 8% فقط. كما ويعتمد اقتصاد المنطقة بصورة كبيرة على تحويلات المغتربين لأهاليهم هناك، إذ لا توجد قوانين في “شرق الفرات” تمنع الأفراد من استلام حوالاتهم بالدولار، خلافاً لما هو سائد في مناطق سيطرة النظام، مما يجعل الدولار متوفراً بين أيدي سكان المنطقة، ومتداولاً في الأسواق بشكل ملحوظ.
لكن في مقابل العوامل السابقة، التي تتيح توفير القطع الأجنبي (الدولار) في المنطقة، يشكل استناد الاقتصاد على التجارة والاستيراد، مع ضعف البنية الإنتاجية، عاملاً في استنزاف الدولار، الذي يحتاجه التجار للاستيراد، ويجعل الطلب عليه أعلى، ما يشكل عامل ضغطٍ على سعر صرف الليرة السورية، التي ما تزال قيد التداول اليومي.
ما سبق، إلى جانب غياب نظام مصرفي بالمنطقة، مما يعني غياب الودائع بالعملة الأجنبية، يجعل سلطات الإدارة الذاتية عاجزة عن التحكم في تقلبات سعر الصرف والواقع النقدي. لذلك، يرى معدّ الدراسة، أن الإدارة الذاتية لا تملك أية مقومات تؤهلها لتطبيق سياسة نقدية مستقلة عن نظام الأسد بدمشق. فهي لا تملك بنكاً مركزياً خاصاً بها، ولا منظومة مصرفية أو أسواق مالية. الأمر الذي يجعل اعتماد الدولار كعملة تداول رسمية أو شبه رسمية –إلى جانب الليرة- سيناريو لا يمكن التحكم بنتائجه من جانب الإدارة الذاتية.
وهكذا ينصح معدّ الدراسة، بعدم الانجرار وراء الأصوات التي تطالب بدولرة رسمية في المنطقة، والالتزام بالحالة العفوية القائمة حالياً، مع العمل على التخفيف من سلبيات “الدولرة الجزئية” السائدة الآن، عبر تأسيس كيان إداري مصرفي يستطيع القيام ببعض الوظائف المصرفية ويضبط مدفوعات الإدارة الذاتية، والحركة المالية والنقدية في أسواق الصرف. إلى جانب العمل على سن قوانين وإجراءات تساعد على تعزيز البنية الإنتاجية في “شرق الفرات”، وجذب الاستثمارات إلى هناك.
ورغم أن الدراسة التي استعرضنا أبرز معطياتها، آنفاً، لا تناقش سيناريو “الانفصال النقدّي” عن دمشق، إلا أن النتائج والتوصيات التي خلص إليها معدّ الدراسة، توضح بشكل جلّي، أن هذا السيناريو غير مناسب لمنطقة “شرق الفرات”، وأن الإدارة الذاتية لا تملك المقومات المناسبة لتنفيذه.
ومما يدعم ما خلصت إليه الدراسة، أن الإدارة الذاتية لم تتجه نحو هذا السيناريو، وهي في أوج صعودها، قبل ثلاث سنوات، فما بالك باليوم، وهي تتعرض لواحدة من أسوأ المنعطفات التي تهدد استقلالها، ووجودها بالكامل، بين سندان التهديد العسكري التركي، ومطرقة الابتزاز الروسي – الأسدي، بالتوازي مع لامبالاة أمريكية تزداد وضوحاً، حيال الملف السوري، برمته.
المصدر: المدن