تحت هذا العنوان كتبت أكثر من مقال أدنت فيه قصف دمشق، وأشرت الى التنظيمات التي تتواجد في الغوطة. وكتبت موقفي من هذه التنظيمات، سواء جيش الإسلام أو فيلق الرحمن، أو طبعاً جبهة النصرة، حيث لم أعتبر أنها من الثورة لأنها تطرح ما يخالف أهداف الثورة التي بدأت في 15/3/2011. وكشفت أصوليتها، وتسلطها، وتبعيتها دول إقليمية.
لكن، من السذاجة المفرطة الآن، ومن المشاركة في الجريمة، أن نصدِّق أن من يطلق القذائف الآن على دمشق هي هذه التنظيمات، ولا نرى سياسة النظام وروسيا التي تريد التغطية على المجازر التي ترتكبها في الغوطة الشرقية. ربما هناك من أطلق القذائف من الغوطة على جرمانا، أو باب توما، أو باب شرقي، ولقد انكشف أن هناك من كان يعمل مع النظام ضمن هذه التنظيمات كما ظهر مع فيلق الرحمن. ويمكن أن يكون في جيش الإسلام من يعمل مع النظام من يظلق القذائف. وسيبرر ذلك بالرد على وحشية النظام، حيث لا يجري التمييز بين النظام والقوى التي تقاتل معه وتقتل الشعب، وبين السوريين المتواجدين تحت سيطرة النظام، والذين ليسوا كلهم مع النظام، ولا يتحملون ما يقوم به. ولأن التنظيمات الأصولية لا تعرف معنى المواطنة، وتعتمد على غرائز، فإن كل خطاب يحلل قتل من هم تحت سيطرة النظام سوف يجد آذاناً صاغية، سواء وُضع تحت تفسير ديني أو غيره، أو قاله أصولي متخلف او رجل مخابرات يخترق هذه التنظيمات.
هذا جزء من الموضوع، بالتالي ليس كل الموضوع. والتركيز عليه وحده هو أمر مضلل لأنه يخفي، ويغض النظر عن، جزء آخر، بات واضحاً تماماً. فأن تصل القذائف من الغوطة الى المزة وحي 86، ووسط دمشق، وأن تقصف طائرات حي ركن الدين، وأن تُلقى قذائف فوسفورية على العديد من أحياء دمشق في الوقت التي كانت تلقى على الغوطة الشرقية، لهو أمر يحتاج الى فهم إستراتيجية النظام وروسيا. لأن فصائل الغوطة لا تمتلك السلاح الذي يصل الى هذه المناطق، ولا تمتلك الطائرات، ولا القذائف الفوسفورية التي تُلقى من الطائرات. بالتالي ليس سوى النظام وروسيا هما مَنْ يقوم بذلك، وساذج من يفكّر بغير ذلك، ربما كان وجود فصائل أصولية، وممارسات سابقة لها، تسمح بتلبيسها أي ممارسة، لكن ليس الى هذا الحدّ. لا شك في أنه قد انوجد أغبياء، ومتعصبين، و”مندسين”، وأصوليين جهلة، وسلفيين متعصبين، يمكن أن يتلبَّس عليهم كل ممارسة قذرة. فجبهة النصرة أو داعش مارست ما يسمح بتلبيسها كل ممارسة قذرة للنظام أو إيران أو روسيا، وهي تمارسها باسمهم، لهذا باتتا سبب كل الشرور. كذلك كل الفصائل الأصولية، ومنها جيش الإسلام وأحرار الشام وفيلق الرحمن. بالتالي صار ممكناً أن يُمارس كل ما هو قذر ووحشي من قبل النظام والروس تحت هذه الحجة.
لقد كان إظهار الممارسات البشعة لداعش والنصرة، التي هي بدفع من النظام وكل الدول التي وظَّفت فيها، ولأسباب متعددة، يهدف الى رمي كل ممارسة بشعة يقوم بها النظام، وكان واضحاً منذ البدء أنه سيقوم بها، على كل الفصائل التي باتت أصولية أو إرهابية. بالتالي يمكن القول إنه جرى “خلق” وحش أصولي من أجل تبرير والتغطية على كل الممارسات الوحشية التي يقوم بها النظام وإيران وروسيا. إنه غطاء جيد لممارسة كل الوحشية وإيجاد الأسس التي تبرئ منها، حيث ستُلقى على مخلوق وحشي من صنع هؤلاء (وغيرهم). خصوصاً أن الأمر لم يتوقف عند هاتين المجموعتين بل تعممت على كل من حمل السلاح ضد النظام، وعلى الشعب الذي ثار ضده.
بعد ذلك أعود الى قصف دمشق. قبل دمشق حدث الأمر في حلب، حيث قامت جبهة النصرة بعد إدخالها الى حلب بقصف على الجزء الذي يقع تحت سيطرة النظام، في عزّ القصف الوحشي بكل الأسلحة على حلب، والذي وصل الى ارتكاب جرائم حرب. وجبهة النصرة معروفة لن أقول بارتباطها بالنظام (فهي مرتبطة بأكثر من طرف)، بل في وجود اختراق كبير فيها من قبل النظام. لهذا جرى التركيز الإعلامي من قبل النظام وداعميه على قصف المدنيين في حلب الغربية، وأصبحت هذه هي المشكلة التي تفترض حسم وجود المسلحين في حلب. رغم أن المعركة بدأت لحسم هذا الوجود قبل القصف، بالتالي باتت هي المبرر للهجوم على حلب، كما لاستخدام كل أنواع الأسلحة بما فيها غاز الكلور. هذا الأمر تكرر في العديد من المناطق، وبالطريقة ذاتها. وها هي تتكرر في الغوطة، بحيث بات الهجوم عليها هو بسبب قصف دمشق، حتى في مناطق لا تملك الفصائل في الغوطة سلاحاً يصل إليها (أي المزة وحي 86، ووسط دمشق). بينما كان واضحاً أن النظام يريد حسم معركة ولا يريد حلاً، بل يريد ترحيل السكان والمسلحين الى شمال سورية. وظهر أن هذا الحسم يحتاج الى سلاح كيماوي (غاز السارين) فقام باستخدامه لفرض الاستسلام. لكن كل الحديث يجري عن قصف دمشق ومقتل سبعة، دون التفات لآلاف المدنيين الذين قتلوا في الغوطة. رغم أنني ضد قتل أي مدني، بغض النظر عمن قام بذلك.
إن حسم المعركة بعد سنوات من الحصار لمدن وقرى، والعجز عن هزيمة الكتائب المسلحة، تفترض استخدام أقصى الوحشية، أي كل الأسلحة المحرمة وغير المحرمة، هذه هي إستراتيجية النظام التي لا تتردد في قتل الشعب، الأطفال والنساء وكل الموجودين. ولأن هناك إعلام ينقل مباشرة، وهناك استغلال لما يحدث من دول يعتبر أنها معادية، ولتخفيف الإحراج عن دول أخرى، يحتاج الى “التغطية”، التي باتت جزءاً من إستراتيجيته، وأفضل ما يخدم ذلك هو الإدعاء بالقصف على المدنيين. كما الإدعاء بوجود جبهة النصرة أو تنظيم داعش، شركاءه في القتل والحرب ضد الثورة.
لقد ضربت قنابل النابالم على الغوطة، وضربت على بعض مناطق دمشق، حيث اشتعلت حرائق في بعض الأماكن، مَنْ قام بذلك؟ الفصائل لا تمتلك النابالم، ولا تمتلك الطائرات، بالتالي جرت الإشارة الى طائرات روسية، ويمكن فهم الأمر بأن الهدف في ضرب دمشق هو “تمييع” المسألة لتغطية مَنْ قام بها. ولاستخدام غاز السارين كان يجب التحجج بقصف دمشق، لهذا وصل القصف مناطق لا يطالها سلاح الفصائل. فهذا يخلق حالة “تضامن” من السكان، ويوجه حقدهم ضد الثورة، والفصائل المسلحة. ويعطي النظام القدرة على صياغة خطاب ينطلق من التشكيك في الجرائم التي يرتكبها والتركيز على مسألة قصف دمشق، لتكون كل المشكلة هي قصف دمشق. هذا ما أعاد الحديث عن فبركة الصور، حيث ان كل الصور التي تُنقل من الغوطة حول وحشية القصف واستخدام السلاح الكيماوي هي فبركة مقصودة. وأن كل ما في الأمر هو أن سكان دمشق سئموا من القصف المتكرر الذي يتعرضون له من مناطق الغوطة الشرقية، لهذا كان لا بدّ من “إنهاء تواجد المسلحين” هناك. وليظهر أن المطلوب هو تهجير السكان كذلك، بالضبط لأنهم تمرَّدوا على النظام، وأرادوا تغييره.
إذن، يجب أن نشير الى أن هناك مشجب يلعب النظام على ربط كل ما يريد فعله به. لهذا يجري إطلاق القذائف على دمشق، والأمر الملفت هو أن ما حدث في دمشق كان أوضح من أن يخفى بأنه من صنع النظام، حيث مشاركة الطيران، ووصول القذائف مناطق ليس لدى الفصائل أي سلاح يسمح بها، استخدام النابالم. ولا شك في أن حالة الخوف التي تنتشر تدفع الى تصديق رواية النظام، وتجاهل التدقيق فيها، وبالتالي عبر ذلك يشدّ النظام كتلة من الشعب خلفه، ويقدم للمدافعين عنه رواية يكررها، ويستخدم الرواية في الإعلام والمحافل الدولية لكي “يهوِّن” من تناول الجريمة التي قام بها، وإعطاء المبررات لسكوت الدول الكبرى، وكل الذين لا يمانعون في أن يقوم بما قام به. وأيضاً يشدّ “الممانعين” عبر ذلك.