طارق الشامي
تضافرت التهديدات الأميركية- الأوروبية بالانسحاب من مفاوضات إحياء الاتفاق النووي الإيراني، مع ضغوط روسية- صينية، في إجبار المفاوضين الإيرانيين على تعديل موقفهم الذي أعلنوه في بداية الجولة السابعة، وكاد أن يفجر المفاوضات، وإن كانت طبيعة التغيير لا تزال مبهمة حتى الآن، فهل سينعكس ذلك على مسار المفاوضات؟ وهل يمكن أن يكون خطوة أولى للعودة للاتفاق النووي، أم أن إيران سوف تواصل سياسة حافة الحاوية لكسب مزيد من الوقت بهدف تخصيب مزيد من اليورانيوم بمعدلات أعلى؟
ثمار التحذير
كادت جهود إحياء الاتفاق النووي الإيراني أن تصل إلى حافة الانهيار حينما تراجع الوفد الإيراني عن التسويات التي جرى التوافق عليها خلال جولات المفاوضات الست السابقة، التي جرت قبل وصول الرئيس المتشدد إبراهيم رئيسي إلى الحكم في طهران، لكن يبدو أن لغة التحذير التي استخدمها جو بايدن عن خيارات أخرى، وبأن واشنطن تعد إجراءات إضافية ضد إيران، بالتزامن مع إشارات أميركية وأوروبية بالانسحاب من المفاوضات فضلاً عن ضغوط روسية وصينية، أثمرت كلها في دفع طهران إلى تعديل موقفها المتصلب المتمثل في رفض التفاهمات السابقة، وهو ما أكده السفير الروسي في المحادثات ميخائيل أوليانوف بأنه تم إنهاء سوء التفاهم الذي خلق بعض التوتر وأن الجميع ملتزم باستعادة الاتفاق النووي بنهج معدل واستعداد للتفاوض بشأن النصوص المتفق عليها خلال الجولة الأولى من المحادثات التي انتهت في يونيو (حزيران) الماضي.
معركة طويلة
لكن المعركة حول بنود الاتفاق ما زالت طويلة، فنقاط الخلاف الضخمة المتبقية في الاتفاق قد لا يتم حلها بسهولة، بينما تثير سياسة حافة الهاوية التي استخدمتها إيران أسئلة كبيرة لدى الولايات المتحدة عما إذا كان النظام الإيراني المنتخب في يونيو، مهتماً بإبرام صفقة بالفعل، أو أنه يرغب في استمرار المماطلة مع تقدم البرنامج النووي بسرعة، وهو ما عبر عنه روبرت مالي المبعوث الأميركي إلى إيران في لقاء مع تلفزيون “بي بي سي” بالفارسية حين طرح أسئلة عما إذا كانت طهران تريد العودة للاتفاق بجدية ولديها روح بناءة أم أنها تريد الإطاحة بالتقدم الكبير الذي أُنجز عبر تنازلات من الطرفين، وتريد الآن أن تعمل على خطة بديلة لزيادة تخصيب اليورانيوم.
تقييمات متشائمة
ولأن الولايات المتحدة لم تعد تثق كثيراً في نهج النظام الإيراني، فقد أعدت مجموعة خطوات لتشديد تطبيق العقوبات على إيران في أعقاب تقييمات عامة متشائمة من قبل المسؤولين الأميركيين والأوروبيين بشأن آفاق المحادثات النووية الإيرانية، وتشمل هذه الخطوات تحذير البنوك والشركات لدى بعض الدول الحليفة التي لا تمتثل للعقوبات الأميركية من أنها قد تواجه إجراءات عقابية إذا لم تبدأ في الامتثال، وهو ما ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” أنها عقوبات قد تشمل شركات وبنوك إماراتية، كما أعطت واشنطن إشارات دبلوماسية لبكين بأن عمليات الشراء التي تقوم بها الشركات الصينية من النفط الإيراني تنتهك العقوبات الأميركية وقد تخضع لعقوبات في خطوة تالية.
وعلى الرغم من التصريحات المتفائلة التي أطلقها علي باقري، كبير المفاوضين الإيرانيين في فيينا عن إرادة أكثر جدية لدى الأطراف للدخول في محادثات فعالة، إلا أن توقعات النجاح لا تزال قاتمة، إذ لم يتبين حتى الآن، المدى الذي يمكن أن يذهب إليه المفاوضون الإيرانيون حول مطالبهم السابقة بإزالة كل العقوبات الأميركية المفروضة منذ انسحاب الرئيس دونالد ترمب من الاتفاقية في 2018، وإصرارهم على أن تقدم الولايات المتحدة ضمانات بأن الرئيس المستقبلي لن يتخلى عن الصفقة مرة أخرى، كما أنه لم يعرف أيضاً ما إذا كانت إيران مستعدة للعودة إلى مستويات التخصيب التي نص عليها الاتفاق الأصلي عام 2015 وهي 3.67 في المئة، بعدما وصلت في مستويات تخصيب اليورانيوم إلى 50 في المئة وحصلت على معرفة تكنولوجية متقدمة.
خيارات عسكرية
وعلاوة على ذلك، ما زالت الولايات المتحدة متشككة في النيات الإيرانية، إذ أكد مسؤولون أميركيون أن الأمر سيستغرق بضعة أيام لمعرفة ما إذا كانت إيران مستعدة للتحلي بالمرونة كما أشار آخرون إلى العواقب الاقتصادية والعسكرية التي قد تواجهها إيران إذا لم يكن هناك حل دبلوماسي، بخاصة أن الاجتماعات التي جرت أخيراً في واشنطن مع وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس ناقشت بعض الترتيبات لإجراء تدريبات عسكرية محتملة للتحضير لأسوأ سيناريو يهدف إلى تدمير المنشآت النووية الإيرانية في حال فشل المفاوضات الدبلوماسية، وهو ما ألمح إليه وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، من أن إيران فشلت في تقديم مشاركة بناءة في محادثات فيينا النووية.
ويتماشى هذا التنسيق المتزايد بين واشنطن وتل أبيب مع تصريحات سابقة لوزير الدفاع الإسرائيلي أوضح فيها أن إسرائيل تحث إدارة بايدن على وضع الخيارات العسكرية على الطاولة على الرغم من قبوله النهج الأميركي الحالي للعودة إلى البرنامج النووي الإيراني.
وتشير صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية إلى أن الجيش الإسرائيلي حصل في الرابع من الشهر الماضي على مخصصات تبلغ 1.5 مليار دولار من الميزانية لضربة محتملة على إيران تشمل دفع ثمن طائرات وأسلحة وطائرات “درون” لجمع المعلومات الاستخباراتية، في وقت يؤكد مسؤولون في الجيش الإسرائيلي أن العمل العسكري كان دائماً خياراً.
التمسك بالتفاوض
ومع ذلك، يرى البعض في واشنطن أن خيار التفاوض هو المطروح الآن بشكل أكبر إذا استمرت طهران في إبداء حسن النوايا وأقرت بالتفاهمات السابقة والصياغات التي اتفق عليها الطرفان في كثير من النقاط التي تضمنت تنازلات من الطرفين، ويشير إريك بريوار نائب مدير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، إلى أهمية عدم الاستسلام لمنطق أن القنبلة النووية الإيرانية أصبحت مسألة حتمية، ويؤكد في مقال نشرته مجلة “فورين أفيرز” أهمية تركيز الولايات المتحدة على منع إيران من الاقتراب من تصنيع قنبلة نووية عبر التوصل إلى اتفاق معها يقضي على برنامجها النووي تحت رقابة دولية صارمة مقابل تخفيف العقوبات.
ويوضح بريوار، الذي كان عضواً في مجلس الأمن القومي ومجلس الاستخبارات الوطني في الولايات المتحدة، أن إيران ليست ملتزمة بالقنبلة، ويمكن التأثير في قراراتها بشأن برنامجها النووي، وأن مهمة واشنطن هي إقناع طهران بأن مصالحها سوف تتحقق بشكل أفضل من خلال التوصل إلى اتفاق وليس من خلال تصعيد برنامجها النووي، ولكن، لكي يتم ذلك، ينبغي على الولايات المتحدة الاحتفاظ بورقة الخيار العسكري، والتحلي بالمرونة بشأن بدائل الاتفاقية النووية المعرضة للخطر.
تأمين الانسحاب الأميركي المحتمل
ويشير تقرير أخير لمجموعة الأزمات الدولية التي كان روبرت مالي المبعوث الأميركي لإيران يقودها قبل وصول بايدن إلى السلطة، إلى أن إلحاح التسوية يتزايد مع استمرار البرنامج النووي الإيراني في التوسع وخطورة أن يصبح أقل شفافية مع قيام إيران بتقييد وصول مفتشي الأمم المتحدة إلى المواقع النووية، ولهذا، فمن الأفضل، بحسب تقرير المجموعة، اتباع سلسلة من الخطوات بمساعدة الأوروبيين، من بينها وضع تدابير لمساعدة طهران اقتصادياً من خلال مؤسسات الإقراض التابعة للاتحاد الأوروبي، كما يمكن للاتحاد الأوروبي دعم جدوى الصفقة على المدى الطويل من خلال حماية التجارة الأوروبية مع إيران من خطر انسحاب الولايات المتحدة مرة أخرى من الصفقة، وإعادة فرض عقوبات اقتصادية أحادية الجانب من واشنطن، والهدف من ذلك عزل التجارة بين إيران والاتحاد الأوروبي عن انسحاب محتمل من الولايات المتحدة في المستقبل، حيث يمكن لبروكسل على سبيل المثال، وضع قانون يحمي شركات الاتحاد الأوروبي من العقوبات الأميركية ضمن آلية يُخطط الاتحاد الأوروبي لتأسيسها كجزء من استراتيجية تجارية جديدة.
اتفاق مؤقت
وحتى في حال تعثر أو انهيار مفاوضات الاتفاق النووي الإيراني المعروف باسم خطة العمل المشتركة الشاملة، يمكن للأوروبيين اقتراح اتفاقية مؤقتة تعلق فيها طهران بعض أنشطتها الأكثر حساسية مثل تخصيب اليورانيوم فوق حاجز 3.67 في المئة، أو وقف أعمال الطرد المركزي المتقدمة أو إنتاج معدن اليورانيوم، في مقابل تخفيف محدود للعقوبات المفروضة على مبيعات النفط الإيرانية أو السماح لإيران باستخدام الأصول المالية المجمدة.
وتستهدف هذه الرؤية التي طرحتها مجموعة الأزمات الدولية، تفادي دوامة تصعيدية بين الجانبين، وكسب مزيد من الوقت حتى يمكن التوصل لتفاهم أكثر شمولاً، إذ يمكن أن يكون مثل هذا الترتيب، بمثابة محطة على طريق اتفاق جديد شامل، يضع مزيداً من تخفيف العقوبات على طاولة المفاوضات، مقابل قيود نووية طويلة المدى أكثر مما وافقت عليه إيران في اتفاق 2015، فضلاً عن تأسيس نظام مراقبة أكثر صرامة، من خلال توسيع الاتفاقية الأصلية إلى إطار أفضل يسمح للولايات المتحدة والقوى الغربية بإضافة شروط أقوى لمنع حصول إيران على قنبلة نووية، بينما يتيح لإيران جني فوائد اقتصادية أكبر.
ولا يغفل هذا الاتفاق مصالح دول الإقليم، إذ يمكن للأوروبيين العمل على تعزيز الدبلوماسية بين إيران ودول الجوار الإقليمي في حوار مدعوم دولياً لتسهيل المناقشات حول بعض المجالات الأمنية والسياسية، وتحقيق خفض التصعيد الإقليمي من خلال فتح قنوات اتصال منتظمة بين المسؤولين.
وفي حين أن المؤتمر الأخير في بغداد، الذي شارك فيه معظم جيران العراق، بما في ذلك إيران إلى جانب فرنسا، كان خطوة في الاتجاه الصحيح، إلا أن الأمر في النهاية سيتوقف على طبيعة النيات الإيرانية وقدرتها على التعاطي بشكل إيجابي يضمن إنهاء تدخلاتها الإقليمية ودورها المزعزع للاستقرار والذي تسبب على مدى سنوات عدة في تفجير المنطقة وإراقة كثير من الدماء، كما سيتوقف أيضاً على مدى ثقة دول الجوار في النظام الإيراني.
المصدر: اندبندنت عربية