برهان غليون
1- الأزمة السورية: من البحث عن حل إلى البحث عن مخرج
على الرغم من مظاهر الاهتمام المتزايدة بالملف الإنساني، يبدو أن المجتمع الدولي قد يئس من إيجاد حل للمحنة السورية، وتخلى فعليا، أو هو في طريقه إلى التخلي، عن الشعب السوري، إلا بمقدار ما يؤثر ذلك على استقرار بعض دوله أو الحفاظ على ما تبقّى من مصالحها. وبعد سنوات عشر من الصراع على تطبيق قرارات مجلس الأمن، ومن دون الاعتراف بفشل مساعيه في التوصل إلى تسويةٍ وحل “عقدة الأسد”، الذي يرفض المساومة على “حقه” في استعباد شعبه وحكم سورية إلى الأبد، تحوّل الصراع عن موضوعه الرئيس بين شعبٍ ونظامٍ قاتل، ليصبح صراعا على الاختيار بين التطبيع مع الأسد أو الاستمرار في ممارسة الضغوط الاقتصادية والسياسية و”الصبر الاستراتيجي”.
هذا ما يبرز من مداولات الدبلوماسية الأوروبية والأميركية التي تخلت عن أوهامها في إقناع الروس والنظام بالدخول في مفاوضات جدّية لتحقيق شكلٍ ما من الانتقال السياسي، ولو من قبيل حفظ ماء الوجه. أما في أوساط الدبلوماسية العربية، فهذا الاختيار بين الموقفين هو ما يناقش علنا، على ضوء اقتراب القمة العربية، منذ أن أعلن الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، حرصه على حضور الأسد القمة المقبلة في الجزائر، والتي يبدو أن عددا لا بأس به من الأعضاء يؤيدون هذه الخطوة، غير مبالين بمشاعر السوريين الذين قضى مئات الآلاف منهم تحت التعذيب أو بالبراميل المتفجرة أو بالسلاح الكيميائي، ولا بتقارير المنظمات الإنسانية الدولية التي قدّمت شهاداتٍ مكبلة عن ارتكاب الأسد جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية لا يمكن ردّها، للحفاظ على سلطةٍ لم يعد لها من وظيفة سوى تنظيم عمليات النهب والسلب والاتجار بالمخدّرات، حتى أصبح الكبتاغون أهم الصادرات السورية.
والواقع أن استمرار الأوضاع من دون حل يهدّد بدفع البلاد وبالمعية المشرق بأكمله إلى هاويةٍ يصعب الخروج منها. وهذا ما يخيف الغرب، ويضعه أمام تحدّياتٍ لا سابق لها، فهو يدرك أن عبء هذا الانفجار للدول المشرقية سوف يقع عليه، بالدرجة الأولى، سواء تعلق ذلك بموجات الهجرة المتصاعدة، أو بتنامي نشاطات شبكات المافيا المحلية والإقليمية وحركات التطرّف والإرهاب التي لا تزال لها قواعد قوية في المنطقة. وفي وقتٍ تفرّغت أقطارٌ عديدة تحوّلت إلى خرائب غير قابلة للعيش من طبقاتها الوسطى، يعيش في مخيمات اللاجئين ملايين من الأطفال والمراهقين الذين لم يعرفوا سوى مرارة البؤس والإهمال، وحرموا من أي تعليم أو تأهيل، ولا يفكرون بشيءٍ سوى البحث بجميع الوسائل عن مخرج من حياة الذل والفراغ والعدم.
قد لا تعني هذه المخاطر كثيرا الولايات المتحدة بسبب بعدها الجغرافي، وهي التي أغلقت، في عهد دونالد ترامب، أبوابها أمام معظم مواطني الدول الإسلامية من دون تردّد ولا مراعاة لأي مشاعر إنسانية أو مواثيق دولية. ولا يضير الأميركيين كثيرا الانتظار حتى يقتنع الأسد، ومن ورائه موسكو وطهران، بأنه لا مهرب من التفاوض على تسويةٍ تحفظ على الأقل ماء وجه الذين صوّتوا على القرارات الدولية، وتستجيب للحد الأدنى من المطالب الإنسانية، من قبيل إخراج المعتقلين من السجون، والسماح بعودة اللاجئين أو بعضهم، فسياسة النفس الطويل التي تتبعها واشنطن لا توفر عليها المبادرات المكلفة فحسب، وإنما تضمن لها أيضا تأكيد دورها الرئيس في صوغ أجندة السياسة الدولية وضبط إيقاعها.
وبالمثل، لا يخيف انهيار المشرق روسيا، وإنما يمكن أن يصبّ في مصلحتها، ويزيد من نفوذها وقدرتها على تحدّي الغرب الذي همّشها عقودا طويلة وابتزازه. وبدل أن تخشى طوابير المهاجرين واللاجئين، يمكن لموسكو بالعكس أن تستخدمهم ورقة تكتيكية في مواجهة خصومها الأوروبيين الذين لا يزالون يرفضون الاعتراف بها ندّا أو شريكا في الحوكمة العالمية. وهذا ما لا تزال تسعى إليه منذ انهيار إمبراطوريتها السوفييتية. وما حصل على الحدود البيلاروسية البولندية كان تدشينا لهذه “اللعبة” التي لن تتردّد موسكو في العودة إليها، وبأشكال مختلفة في المستقبل، للضغط على أوروبا، وعبرها على التكتل الغربي بأكمله. وبالمثل، لن يأتي هذا الانهيار إلا بالمنّ والسلوى للصين التي تنتظر بهدوء فتح سوق إعادة الإعمار للمنطقة بأكملها.
ولكن ليس هذا هو الحال بالنسبة لأوروبا التي تقع في الجوار المباشر، على الضفة المقابلة من المتوسط، فهي التي يقع، وسوف يقع عليها أكثر في المستقبل عبء هذا الانهيار بجميع أشكاله. لكن للأسف، تكاد أوروبا المعنية أكثر بمصير المشرق أن تكون قد فقدت أي دور في التأثير على أزماته المستفحلة، ولم تعد تفكّر في أي مبادرة تسمح لها بالخروج من الهامشية، وتمكّنها من المشاركة الفعالة في الوصول إلى حلولٍ تقيها مخاطر تدهور لا رجعة عنه، في شروط حياة شعوب المنطقة المحيطة بها أو تخفف منها. وبدل ذلك، يميل كثير من قادتها أكثر فأكثر إلى التسليم بالأمر الواقع، والاستعداد للتعامل مع الديكتاتوريات العربية، بذريعة الحيلولة دون انتصار الفوضى الإسلاموية أو الشعبوية.
2 – لماذا لا يمكن التطبيع مع الأسد أن يكون حلا؟
هكذا يدفع الخوف من المستقبل مسؤولين أوروبيين عديدين إلى الاعتقاد بأن البحث في نوع من التطبيع مع الأسد ربما يكون أفضل خيار لتثبيت السكان في مناطقهم الأصلية ومكافحة الإرهاب على أراضيه، وتجنّب الانخراط في مغامراتٍ جديدةٍ فاشلة، لتغيير النظم السياسية. وبالفعل، لم تعرف المنطقة في العقود الماضية نظاما نجح في وضع شعبه في صندوق، وأقفل عليه، وشلّ حركته وإرادته في العقود الماضية، مثلما فعل نظام الأسد في عهد الأب والابن معا.
ينسجم هذا الطرح في الواقع مع خيارات أوروبا السياسية التقليدية تجاه مشكلات الشرق الأوسط، فقد درجت حكومات أكبر بلدانها على الاعتقاد دائما أن الخطر الحقيقي على مصالحها، بما فيها الاستقرار والأمن والسلام، كامنٌ في هيجان شعوب المنطقة المتخلفة وشغبها، وأن قيمة الزعماء المحليين الذين يحسُن تأييدهم وتعزيز سلطانهم تنبع مما يمكن أن يظهروه من قدراتٍ على احتواء “شر” هذه الشعوب وإخضاعها، حتى يضمنوا استمرار نفوذهم وحفظ مصالحهم الحيوية. هكذا كان الوضع منذ قرنين على الأقل ولا يزال.
ويبدو الأسد في هذا المنظار، من بين جميع الزعماء العرب أو الشرقيين، الأجدر بهذا الدعم والأقرب إلى أوروبا من دون نقاش، فبالإضافة إلى نجاحه خلال نصف قرن مضى في قمع الحركات الشعبية، وخنق تطلعاتها إلى الانعتاق الذي لا يمكن إلا أن يُخرج، في نظرها، الأشباح الإسلامية من القبور الدارسة، فهو، بعكس رجال “طالبان”، رئيس حداثي، متزوّج من بريطانية، ويلبس البدلة الرسمية وربطة العنق، ويتحدث باللغة الإنكليزية، لم يطلق رصاصة واحدة على إسرائيل، ولم يكف عن إعلان استعداده للتصالح معها. صحيحٌ أنه قام بأعمال وحشية لا تغتفر تجاه شعبه، لكن رحيله قد يحمل من المخاطر أكثر مما يجلب من المنافع أو يحفظ من المصالح.
هكذا يمكن في نظر أوروبيين عديدين الالتفاف على عقبة استعصاء الحل السياسي والانتقال الديمقراطي، الذي تجاوزه، في نظرهم، الزمن، ولم يعد هناك جدوى من التفكير فيه، والعمل على تخفيف عبء الأزمة الإنسانية، والحيلولة دون تفاقم أزمة اللاجئين التي سمّمت الحياة السياسية الأوروبية. وفي هذا السياق، ينبغي أيضا تفسير استعادة الفاشية والعنصرية ضد المسلمين شبابها، كما أظهرت ذلك خطابات المرشّح للرئاسة الفرنسية، إريك زيمور، في الأسابيع الماضية، وكما كانت قد دلت عليه من قبل تحالفات اليمين الفاشي الأوروبي مع الأسد ووقوفه إلى صفه خلال جميع مراحل حكمه.
ولا يختلف عن هذا المنحى تفكير العديد من قادة العالم العربي في طريق الخروج من الأزمة الراهنة السورية والاقليمية. فبعد أن خرجوا هم أيضا من دائرة التأثير، وفقدوا دورهم، يميل أكثرهم إلى الاعتقاد بأن إعادة سورية إلى جامعة الدول العربية يمكن أن تعيدهم إلى دائرة اللعب والتأثير في تقرير مصير سورية، بؤرة الصراع على المشرق. ويشكل، في الوقت نفسه، مناسبة لا تفوت لإنهاء هذه الحقبة “السوداء” من تاريخ المنطقة، ووضع نقطة الختام على ثورات شعبية لم ينجم عنها سوى الخراب وتهديد مواقعهم وسلطاتهم، قبل أن تستعيد النار التي تعسر تحت الرماد اشتعالها وتفجير أزمات جديدة قادمة.
والحال ما يبدو وكأنه خلاف بين خيارين: فكما أن الاستمرار في العقوبات لن يقود إلى المفاوضات المنتظرة للتغيير السياسي على أي نحو كان، لن يؤدي التطبيع مع النظام إلى تجنيب أوروبا والغرب أي مخاطر قائمة أو إضافية. وكلا الخيارين يعكس العجز والتخبّط اللذين يسمان الدبلوماسية الدولية تجاه الأزمة السورية بشكل خاص، والأزمات الدولية الأخرى في هذه الحقبة المضطربة للعلاقات الدولية، فلن تثني العقوبات على النظام السوري طهران وموسكو عن الاستمرار في موقفهما من دعم الأسد والمحافظة على حكمه، بالرغم من تباين مصالحهما في بعض الميادين. بل إن انهيار دول المشرق وانفراط عقد مجتمعاتها هو ما تنتظره طهران لتعزيز نفوذها واختراقها مجتمعات المنطقة واستخدامها ساحة مواجهة وورقة ضغط في معركتها لانتزاع اعتراف الغرب بدورها وطموحاتها.
كما أن التطبيع مع الأسد لن يغير خياراته السياسية الداخلية ولا الاستراتيجية، ولن يوقف عجلة الخراب والانهيار. ومهما كانت الحوافز التي يُراهن عليها أنصار التطبيع والانتعاش المبكّر، فلن يتخلى الأسد عن طهران وعن تمسّكه بما يسمونه محور المقاومة الذي يشكل ضمانته الوحيدة لمواجهة الضغوط الداخلية والخارجية من أجل التغيير. وهو أقلّ استعدادا اليوم للتفاوض على أي عنصر من عناصر قوته وسيطرته مما كان عليه من قبل. فهو يدرك أكثر من أي طرف آخر أن إعادة تأهيله أصبحت بعيدة المنال. وككل قاتلٍ، لا تزال رائحة دم ضحاياه تزكم أنفه وأصوات استغاثتهم وهو يبيدهم بالأسلحة الفتاكة تصم أذنيه، يعرف الأسد تماما فظاعة ما ارتكبه، ويدرك أنه حرق مراكبه. وهو بالأصل لم يضرم نار الحرب والحقد والطائفية، إلا كي يقطع الطريق على أي حوار أو تفاوض أو تنازل أمام شعبٍ نظر إليه دائما على أنه من أشباه بشر وتعامل معه بمنطق الحيوان. وهو يرى في البؤس والتشرّد والإذلال الذي يعيشه السوريون اليوم الجزاء العادل على تمرّدهم عليه. وبقاؤه هو في نظره الدليل القاطع أيضا على نجاح اختياراته السياسية، أي العنف الأقصى، وهو كذلك البرهان على انتصاره. ولن يتخلّى بأي ثمنٍ عن هذا الخيار، ولا عن هذا الانتصار الذي يمثل أيضا حق الانتقام. ولن يزيده سعي خصومه السابقين إلى التطبيع معه إلا ثقة بصحة خيار العنف الأقصى، والرهان على مزيدٍ من التشدّد والتصلّب ورفض أي حوار.
3- كيف يمكن لأوروبا أن تقود بنفسها الحل؟
في المقابل، تستطيع أوروبا أن تلعب دورا كبيرا في إنقاذ المشرق من مخاطر الانهيار، وفي الوقت نفسه، ضمان تقدّمها واستقرارها، على شرط أن تجدّد في طريقة تفكيرها، وأن تتجاوز أحكامها المسبقة ومخاوفها وذاكرتها القديمة، فما يعيشه المشرق اليوم هو ثمرة قرنين من فشل مساعي التقدّم أو التنمية الاقتصادية والإنسانية التي أجهضتها نظم سياسية وطغم مفترسة، جنبا إلى جنب مع استراتيجيات حكومات استعمارية وما بعد استعمارية عملت خلال قرنين، بعد أن قسّمت العالم إلى دول وبلدان صغيرة لا حكمة من إنشائها سوى الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية أو الاقتصادية، المستحيل في سبيل حرمانها من إعادة تركيبها وترميم نسيجها وفتح قنوات التواصل والتفاعل والنمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي لشعوبها.
قسمت العواصم الغربية المسيطرة على أجندة السياسة الدولية، في صراعاتها الدائمة لتقاسم الموارد والتنازع على مناطق النفوذ، وفتّتت، مناطق كانت متواصلة ومتكاملة، وشتّتت شمل شعوب، وحاصرت هذه وبسطت سيطرتها على تلك، ودعمت حكوماتٍ فاسدةً وعزّزت نظما استبدادية ومارقة، حرصا على مواقعها أو اتقاء صعود حركات اجتماعية خارجة عن سيطرتها. ومن بين هذه النظم وأشدّها فتكا بشعوبها وتقويض مستقبل بلدانها نظام الأسد الذي لم يعرف أي نظام سياسي من نظم المنطقة دلالا وغفرانا لجرائمه واغتيالاته سياسيين كبارا ودبلوماسيين أوروبيين، كما عرفه في الخمسين سنة الماضية.
وليست مفاجأة أن تجد أوروبا نفسها اليوم في مواجهة نتائج أفعالها، غارقة في المستنقع الذي صنعته بأيديها. وأن تدفع ثمن قصر نظر سياستها المشرقية ودعمها الذي لم يفتر لنظم ديكتاتورية بذرائع شتى، من مثل أن العرب أو المسلمين متخلفون ومنقسمون، أو غير جاهزين ولا مستعدين للديمقراطية، أو جامدين متمسكين بعماء بالتراث والدين، او عاطفيين ولا عقلانيين، وغير ذلك من الترهات التي عزّزت القطيعة بين أقرب منطقتين لبعضهما بعضا، ثقافيا وحضاريا وجغرافيا لا يفصل بينهما سوى البحر الأبيض المتوسط الذي تحوّل، بمقاييس العصر الذي نعيش، إلى بحيرة صغيرة تتوسّط المجتمعات أكثر مما تفصل بينها. كان ذلك بالتأكيد بداعي الحفاظ على النفوذ أو المصالح القومية الضيقة لا غير. وليست الكارثة السورية اليوم سوى إحدى الثمار المرّة لهذه السياسة الفاسدة أخلاقيا وسياسيا.
لكن المخاطر والتهديدات أصبحت اليوم أكبر بكثير من تلك المصالح الصغيرة ومن حسابات الماضي الاستعماري والعنصري، فانفجار المشرق وانهياره، وهو جزء من عالم العرب الأكبر، لا يهدّد بجرف هذه المصالح والمواقع ومناطق النفوذ فحسب، وإنما بتصدير موجةٍ لا يمكن مقاومتها أو ردّها من ملايين المهاجرين الهاربين من الموت جوعا أو بؤسا، والساعين، بأي ثمن ومهما كانت المخاطر، إلى الهرب بأنفسهم من الجحيم، وعبور الحدود نحو أوروبا جنة الله على الأرض. وأمام هذه الموجات القادمة لا يوجد أي حاجز مانع أو وسيلة للردع. وأمامها ستبدو مشكلة بضعة آلاف من اللاجئين أو المهاجرين الحاليين لا تستحق الذكر. ولا أعتقد أن لدى أوروبا حلا آخر لوضع حدّ لها، ومن ورائها وقف انهيار المشرق بأكمله ورميه لملايين البشر على طريق الجوع والتشرّد والبحث عن ملجأ آمن، إلا خيار واحد هو تبنّي سياسة جديدة لدفع الأمور إلى الأمام وإخراج المجتمعات التي دينت بالتخلف والاستبداد والفساد خارج دائرة الموت والدمار الذي أصبح الآن برنامج العمل الوحيد لنظمٍ لم يعد لديها ما تخسره.
وبالنسبة لسورية، لا يمكن أن يكون القبول باستمرار الوضع القائم خيارا صالحا. ولم تمنع العقوبات أي نظام سابق من البقاء، خصوصا عندما لا تكون هناك إرادة عالمية موحدة وحاسمة في الالتزام بالقيم والأعراف الإنسانية وحقوق الناس. ولن يكون نتيجته إلا إعطاء مزيد من الوقت لمشعلي الحرائق ومثيري الفتن واختصاصيي الإرهاب. أما التطبيع وتقديم التنازلات تحت مسمّى حوافز لتشجيع المجرمين على التعاون والتساهل، فلن تفيد إلا في تعزيز عنجهيتهم وغطرستهم، عدا عن أنها سوف تذهب مباشرة إلى جيوب المافيات الحاكمة، بينما تزداد المشكلة مع مرور الوقت تعقيدا واستحالة على الحل.
وفي المقابل، هناك خيار أكثر جدية هو تغيير الأسد ونظامه، وهما شيء واحد، وإعادة ترميم البناء المشرقي، بحيث تستطيع الشعوب أن تستعيد الأمل، وتبقى في بلدانها وتعمل لتحسين شروط معيشتها وحياتها. وأكاد أقول إن أوروبا هي المعنية الأولى بهذا التغيير، لأنها ستكون المتضرّرة الرئيسية، وهي حتى الآن المتضرّرة الرئيسية من تعفّن الأوضاع المشرقية. أما كيف يكون ذلك في مواجهة روسيا وإيران وتردّد واشنطن، فأوروبا وحدها تعرف كيف يمكنها تحقيق ذلك، وهذا هو الامتحان الحقيقي لانبعاثها السياسي وإرادتها وقدرتها على الفعل على الساحة الدولية قوّة سياسية واستراتيجية وطرفا فاعلا في بلورة أجندة السياسة الدولية، لا ماردا اقتصاديا بقدمين سياسيين من عجين.
لا يعني ذلك ولا يستدعي الابتعاد عن واشنطن أو مواجهة روسيا أو القطيعة مع طهران. يكفي أن تؤكّد أوروبا أولوية مصالحها في منطقة جوارها القريب، وأن تتحرّك بإرادة واحدة وتبلغ الأطراف المعنية جميعا، بصورة واضحة لا تردّد فيها، أن على الأسد أن يرحل، وأن بقاءه في حكم سورية ليس عقيدة مقدّسة، وأن على القوى الدولية الأخرى أن تقبل بهذه الحقيقة، وتدرك أنه هو السبب الرئيس في استمرار المحنة السورية، والعمل على تعميم الخراب في الشرق الأوسط، وتكفّ عن الصمت عما يحصل، أو التغطية على حقيقة الصراع بالحديث عن حربٍ أهلية وانقسامات طائفية ومخاطر إسلاموية، وأن تعمل بما يستدعي تحقيق هذا الهدف من دعم قوي وعلني للمعارضة السورية الديمقراطية لقطع الطريق على أي أملٍ لدى الأسد في البقاء في السلطة وتوريثها من بعده لابنه كما ورثها عن والده. ولا يمكن لهذا أن يتحقق إلا بتغيير الخيارات الاستراتيجية وإعادة صوغ سياسة جديدة، تجاه أقطار المشرق ومعها، من أجل بناء شراكة حقيقية لتحقيق التنمية الإنسانية، والاستفادة من الموارد البشرية والطبيعية الكبيرة التي تزخر بها المنطقة، والتي يمكن أن تحول المشرق إلى الحليف الرئيس لأوروبا، يعزّز مواقعها تجاه الولايات المتحدة وروسيا والصين الصاعدة. من دون ذلك، لن يكون للمشرق أمل كبير في استعادة السلام والأمن والاستقرار والتقدّم على طريق التنمية الحضارية. ولن تستطيع أوروبا، مهما أقامت من جدران حديدية وحواجز عنصرية أو قانونية، أن تنأى بنفسها عن عواقب انهيار منطقةٍ تضم على حدودها الجنوبية قرابة نصف مليار من البشر المحرومين أو المهدّدين بالحرمان من الحد الأدنى من شروط الحياة الحرّة والكريمة.
المصدر: العربي الجديد