منذ أن استولى الغرب على المسيحية أضفى عليها من ماديته وطمعه الدنيوي ما جعله يستولد منها مؤسسة دينية اتخذها غطاء لتبرير مصالحه الدنيوية على حساب البشر. ولما عجز عن استيعاب إنسانيتها السمحاء وقيمها الأخلاقية الرفيعة، أبعدها عن حياته حتى يمنع تأثيراتها الأخلاقية على سلوكياته النفعية وأطماعه الغرائزية البعيدة عن الإيمان الحقيقي من جهة والبعيدة عن غالبية البشر من الفقراء والبؤساء.
ليحولها بذلك إلى واجهة يخبىء أطماعه الاستعمارية في بلدان العالم بالتبشير الديني فيما هو يسخره لتمرير مصالحه المادية سياسية واقتصادية والسيطرة على المجتمعات البشرية.
أما في الداخل فقد إستطاع أن يحاصرها في إطار الكنيسة والشعائر التعبدية الذاتية والخاصة؛ بما حال بينها وبين التأثير في مسار الحياة المجتمعية والفردية فيه.
ولما كانت المسيحية ذات نشأة مشرقية عربية فقد عمل الغرب على محاصرتها حتى لا تكون سببًا في محاصرته دينيًا وأخلاقيًا.
في ذات الوقت الذي راح يتحدث عن خطر يتهدد المسيحية في الشرق من المحيط الذي نشأت وتعيش فيه؛ محاولًا بذلك وضعها في مواجهة هويتها المشرقية وقيمها الإنسانية بزرع وهم الإضطهاد في نفوس أبنائها ليصل إلى ادعاء حمايته لها. وقد عملت مدارسه التبشيرية ومؤسساته التعليمية والثقافية على خلق وتعميق فكرة الفصل بين المسيحيين ومجتمعاتهم المشرقية والمقصود المستهدف المسيحيون العرب تحديدًا. كان يهدف إلى فصلهم عن انتمائهم العربي وتغييب هويتهم العربية وسلخهم عنها ثم تحويلهم نفسيًا وثقافيًا ومصلحيًا إلى جاليات أجنبية تتبعه دينيًا وسياسيًا وثقافيًا ثم راح يعمق فكرة الأقلية المنعزلة والمضطهدة في عقول نخبها المثقفة.
وفي الوقت الذي يزرع فيها عقد الخوف من محيطها وهويتها، يصطنع لها تاريخًا يوحي به بإنتمائها إليه ليقول أنه هو المنقذ الحنون الحامي. وكان ذلك غطاء لتدخلاته المباشرة في شؤون مجتمعات البلاد العربية والعبث الفتنوي التحريضي بين أبنائها.
وقد استمر التغطي الغربي الاستعماري بالمسألة الدينية المسيحية عدة قرون ولا سيما طيلة عصر الدولة العثمانية التي مكنته من التدخل في شؤون وحياة أبنائها من المسيحيين وذلك عبر اتفاقية رسمية وقعتها الدولة العثمانية مع الدول الأوروبية الاستعمارية الستة آنذاك وأباحت لها بموجبها حق التدخل في رعاية شؤون الأقليات الدينية فيها.
وقد أفلح التدخل الغربي في تحويل قسم غير قليل من أبناء ومعتنقي المسيحية العربية إلى جاليات أسماها أقليات وتبنى لذاته حق رعايتها وحمايتها.
استمر هذا التدخل ما لا يقل عن أربعة قرون منذ القرن السادس عشر وحتى أواسط القرن العشرين حينما أقام الكيان الصهيوني المصطنع مكلفا إياه بمهمة التخريب الداخلي والعبث في بنية المجتمعات العربية. وهو الكيان الذي راح يحضر لإقامته منذ أواخر القرن التاسع عشر بعد أن استنفذت قواه كل أساليب الخبث والمكر والخداع. لا سيما منذ أن تصدى المسيحيون العرب لكل محاولات طمس الهوية العربية لمجتمعاتهم المشرقية؛ فتصدروا الدعوة القومية التحررية والاستقلال العربي والدفاع عن اللغة العربية. فقد أدرك الغرب آنذاك عدم جدوى الإستمرار في هذا الأسلوب التقسيمي التخريبي المباشر.
وحينما لجأ إلى سياسة التقسيم وتسييد الوكلاء ثم إقامة الكيان الصهيوني ظنًا منه أن ذراعه الصهيونية تلك ستنجح في استكمال مهماته التخريبية التفتيتية للمجتمعات العربية؛ لم يتحقق له ما أراد.
ولما كان قيام دولة العدو الصهيوني سببًا في تعميق مشاعر الانتماء القومي العربي وانطلاق حركة تحرر عربية وحدوية قومية، فإنه راح يبحث في إيجاد وسائل أخرى تمكنه من تحقيق أهدافه بفعالية أكبر تستطيع اختراق المجتمعات العربية والنفاذ فيها عميقًا بما يضمن تثبيت الفتن والانقسامات والتشاحن والتباغض. خاصة مع بروز ظاهرة الرفض الشعبي العربي لأي شكل من أشكال التفاعل مع مجتمع الكيان الصهيوني رغم المحاولات الكثيرة والامكانيات الضخمة التي سخرت لتحقيق تقبل نفسي شعبي عربي للوجود الصهيوني في وسطه أو إلى جانبه أو حتى على هامشه. تلك الجهود والامكانيات التي بذلت من الكيان المصطنع ومن يحميه ويرعاه أو من الإقليمية العربية المتسلطة.
منذ خمسينات القرن العشرين راح التفكير الصهيوني – الغربي يتجه إلى منحنيات أخرى تضمن الفتك بوحدة المجتمعات العربية فكان الاهتداء إلى المسألة الدينية المذهبية في صفوف المسلمين وهم الأغلبية السكانية في بلاد العرب.
على أساس من هذا فقد انتبهت تلك القوى معًا إلى أهمية الإستعانة بالجوار العربي المسلم ( إيران وتركيا ) لتلعبا هذا الدور المطلوب.
فكان الإتجاه الى رعاية فصائل وحركات سياسية حزبية أو ميليشيوية تحمل شعارات دينية إسلامية عامة أو مذهبية خاصة.
ولهذا انطلق العبث بالوضع الديني في بلاد العرب مبكرًا منذ أوائل القرن العشرين ثم تصاعد وتعمق منذ أول سبعينات ذلك القرن ذاته. وفي هذا السياق لعبت إيران الشاهنشاهية دورًا ملفتًا بمد جسور مع بعض الرموز الشيعية العربية لزرع فكرة الانفصال عن الهوية العربية كما لعبت تركيا دورًا مشابهًا في الوسط السني وإن كان أقل وضوحًا وأقل أهمية.
وإذا كانت إيران قد انطلقت بأقصى قوتها وإمكانياتها لترسيخ مشروعها الشعوبي المذهبي التقسيمي التفتيتي للمجتمعات العربية، وصولًا إلى احتلال أجزاء مهمة من أرض العرب المشرقية والعبث بأمنها وإستقرارها التاريخي؛ إلا أن تدخلات تركيا ما تزال تتأرجح بين أخذ ورد وسط حروب متنوعة تشن لإضعافها ومنعها من الإمتداد حيث يوجد فراغ عربي.
وسط هذه الأجواء ما يزال الغرب يردد مقولات تدعي حرصه على الوجود المسيحي في الشرق وخوفه على مستقبله فيه بحجة الإرهاب الإسلامي والتعصب الديني. فيما الوقائع تثبت أن ذلك الإرهاب المسمى إسلاميًا إنما هو صناعة الغرب ذاته لتحقيق أهداف كثيرة له ومنها تخويف المسيحيين لتهجير أكبر عدد منهم واستيعاب من يبقى في إطار أدواته المحلية العاملة ضمن سياسة تحالف الأقليات المصطنع. وهي السياسة التي يستخدمها لاحتواء الجميع ضمن مناطق وصايته ونفوذه.
إن الوجود المسيحي في المشرق العربي تاريخي قدر عمق تاريخ هذه المنطقة؛ فهو وجود أصيل فيها لا بل إنه أحد مكوناتها الرئيسية التي شكلت مع البنى الثقافية والاجتماعية المحلية والحضارات القديمة ثم مع الإسلام لاحقًا؛ شكلت معًا شخصية المجتمع العربي وهويته التاريخية الحضارية. ولذلك فإن الغرب الإستعماري عمل بوسائل متخفية متنوعة على تهجير المسيحيين لضرب أحد مكونات مجتمعاتنا المشرقية العربية.
والهدف الغربي الأهم من تهجير المسيحيين هو إعطاء الصبغة الدينية الواحدة لمجتمعات الطوق العربي المحيط بفلسطين المحتلة لتكون مبررًا مكملًا لمجتمع الكيان الصهيوني الذي يدعون يهوديته الخالصة. الهدف إلغاء التعددية الدينية في بلادنا انسجامًا مع وجود دولتهم الدينية المتجانسة في فلسطين.
إن حماية الوجود المسيحي في المشرق هو مسؤولية عربية مشتركة عامة أولًا وأخيرًا. وإذا ما افتقد المشرق العربي لهذا التعدد الديني الذي كان وسيبقى تعبيرًا عن عمق وأصالة الانتماء العربي لجميع المؤمنين فيه؛ فإن سمة أساسية خلاصتها السماحة ونتيجتها الإنصهار سوف تفتقد أو تفتقر. كما أن مكونًا أساسيًا من التكوين التاريخي الحضاري للمنطقة يكون قد تعثر وضعف وترجرج. وهو ما لا يخدم أي هدف عربي أو إنساني نبيل.
حينما نتحدث عن الوجود المسيحي العربي المشرقي لا نعني أية هويات مذهبية ولا نقصد مسألة عقائدية دينية خلافية. ما نقصده هو المضمون الحضاري الإنساني النبيل الذي نشأت عليه مسيحيتنا العربية قبل أن تمتد إليها يد الغرب المصلحي المادي.
إن المسيحية ديانة للإنسانية جمعاء وهي أول خطاب إلهي يتوجه للبشر جميعًا دونما أي إعتبار عرقي أو محلي بعد أن كانت جميع الرسالات السماوية السابقة توجه خطابها إلى القوم الذين ينتمي إليهم الرسول المكلف بالرسالة.
ولكن هذا لا يلغي أبدًا تلك الخصائص العربية المشرقية الأصيلة للدعوة المسيحية وهو ما ينبغي إستعادته. وهذه مسؤولية العرب الشرفاء جميعًا: المسلمين قبل المسيحيين.
تمامًا كما هو المطلوب وقف العبث في الفضاء الإسلامي بالعصبيات المذهبية سنية كانت أم شيعية. واستعادة الجميع إلى هويتهم القومية العربية التوحيدية الديمقراطية العادلة.
إن العروبة هي الهوية الجامعة المانعة وهي منقذ كل أبنائها وحاميتهم جميعًا ولا حماية لأحد إلا في إطارها الواحد.
من هنا تبدأ مسؤولية العرب الأحرار الشرفاء الحريصين على مستقبل حر مزدهر لهم ولبلادهم ولأبنائهم جميعًا.
ولطالما بقيت نخب كثيرة تأتمر بأمر هذا النظام أو ذاك فلن يكون بوسعنا النهوض مجددًا. استنهاض الخير والحق والعدل يحتاج إلى عزائم حرة وإرادات شريفة وهمم عالية. فليتقدم أصحاب هذه الهمم والساحات بانتظارهم. المصدر: موقع ملتقى العروبيين