راغدة درغام
لربما نجح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في زج دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بالذات الولايات المتحدة، في الزاوية، ودفعها الى ترطيب لغة التهديد والوعيد. ولربما كان الرجل يَبلُف عندما قلب الطاولة في وزارة الدفاع الروسية وتوجّه الى الناتو بلغة الإنذار النهائي ultimatum والتوعّد بإجراءات عسكرية، ليس في أوكرانيا فحسب، بل في إطار المصالح الجيوسياسية الأميركية والأوروبية. لربما كان يغامر انطلاقاً من ثقته بضعف إدارة بايدن وتشتّت الحكومات الأوروبية، والوهن في ركب القيادات الغربية بمجرّد تلويحه لها بالخيارات العسكرية.
النتيجة هي أن فلاديمير بوتين وضع كامل ثقله في مواجهته مع الناتو بسبب أزمة أوكرانيا، ليجبر الدول الأعضاء في الحلف على مراجعة سياساتها، الآنية وتلك البعيدة المدى التي تصبّ في مشاريع توسيع العضوية في الناتو، وفي معادلة العلاقات الغربية مع روسيا. ما حدث هذا الأسبوع هو مجرّد جولة واحدة من معارك مصيرية، كما يبدو للرئيس الروسي. اللافت أن فلاديمير بوتين بدا جاهزاً للمغامرة الخطيرة بإجراءات عسكرية استباقيّة تقوم بها روسيا، حتى وإن كانت لتؤدّي الى عزل تام لروسيا وعودة الستار الحديدي Ironcurtain لزمن الحرب الباردة. فهل هذا ما تريده روسيا لروسيا، أو أنه ما أراده فلاديمير بوتين والمؤسسة العسكرية للاستفادة من تردّد الغرب وخوفه من الانجرار الى الأزمات عسكرياً؟ والسؤال الأكبر والأهم هو: من سيربح هذه “الحرب” الباردة – الساخنة بعدما زج فلاديمير بوتين الغرب في شبكة شروطه المستحيلة وزج نفسه في الوقت ذاته في زاوية التصعيد من دون مخرج؟ فالمواجهة في عزّها – بالرغم من الاتفاق على إجراء محادثات مطلع السنة المقبلة – بأدوات عسكرية روسية، وبأدوات العقوبات الغربية الخانقة. ولهذه المواجهة تداعيات عالمية.
ارتفعت وتيرة المواجهة يوم الثلثاء الماضي، عندما تعهّد الرئيس الروسي الردّ “عسكرياً تقنياً” إذا لم تضع دول الناتو حداً لما تعتبره موسكو سياسات عدوانية حول أوكرانيا وكامل سياسات حلف شمال الأطلسي. اختار فلاديمير بوتين بعث الرسائل التصعيدية خلال مداخلة له أمام كوادر الجيش الروسي ووزارة الدفاع وقال: “في حال استمرار الموقف العدواني الواضح من جانب زملائنا الغربيين، سنتخذ تدابير عسكرية – تقنية انتقامية مناسبة”. هذا فيما حشدت روسيا عشرات الآلاف من جنودها على حدودها مع أوكرانيا وصعّدت معارضتها القاطعة لجهود إدخال أوكرانيا عضواً في الناتو كما لنشر أسلحة الناتو هناك، وسط حديث أميركي عن إمكان نشر قوات في دول أوروبا الشرقية الحليفة في إطار الناتو، إذا ما قامت روسيا فعلاً بالتصعيد ضد أوكرانيا.
بعض الانفراج أتى عبر تصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يوم الأربعاء، بأنه يتوقع إجراء مباحثات بين روسيا والولايات المتحدة، وبين روسيا والناتو بشأن “الضمانات الأمنية” التي طالبت بها موسكو. مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون أوروبا، كارين دولفريد، توقعت بدورها بدء الحوار حول أوكرانيا والأمن في أوروبا الشهر المقبل، لكنها أكدت أن بعض مطالب موسكو “غير مقبولة”. موقف روسيا هو رفض إغراق المفاوضات “في مستنقع”، بحسب تعبير لافروف الذي أكّد أيضاً أن العملية التفاوضية لا يمكن أن “تكون أبدية، لأن التهديدات تنشأ باستمرار حولنا والبنى التحتية للناتو تقترب من حدودنا”.
روسيا قدّمت الأسبوع الماضي مشروعين يلخصان مطالبها لوقف التصعيد، أحدهما موجّه للولايات المتحدة، والآخر لحلف الناتو. موسكو تصرّ على أن تكون هاتان المسودتان أساس المفاوضات بينها وبين الناتو والولايات المتحدة. وهذا مرفوض من طرف واشنطن وبروكسل، لأن المقترحات الروسية تطالب الحلف بعدم التوسّع ليشمل أوكرانيا خصوصاً، وتطالب أيضاً بالحد من التعاون العسكري الغربي في أوروبا الشرقية وبلدان الاتحاد السوفياتي السابق. وهذه شروط لها رائحة الاستحالة.
الاتفاق على إجراء المباحثات في شهر كانون الثاني (يناير) قد يلطّف الأجواء، لكنه لا يسحب فتيل التوتر والمواجهة، لأن المباحثات لا تلغي إمكان اندلاع الحرب، ولا تؤدّي الى تغيير في الخطط التي ينفّذها الناتو وروسيا. كل الأطراف تقول إنها تريد تجنّب النزاع والمواجهة العسكرية، لكن ليس هناك من ضمانات تُبعد شبح الحرب.
فلاديمير بوتين يريد الضمانات الأمنية فوراً، وعبر مفاوضات مباشرة مع واشنطن وبروكسل. الغرب يطرح معادلة مختلفة، قوامها إجراء الحديث عن الضمانات الأمنية عبر حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، ما يؤدي الى “تمييع” المفاوضات والضمانات التي تريدها روسيا من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.
ماذا لو فشلت المباحثات؟ خطة روسيا وضعها صراحة فلاديمير بوتين في خطابه أمام العسكريين وفي وزارة الدفاع، وعنوانها عسكري بامتياز، بجدّية، بعزم، بتأهّب، بضربات استباقية، بحرب بين الغرب وروسيا لا تستثني احتمال التطوّر الى حرب تُستَخدم فيها أسلحة نووية.
في المقابل، وضعت الولايات المتحدة ودول أوروبية خطط الخناق الاقتصادي لروسيا عبر عقوبات جديدة نوعياً، تشمل قطاع التكنولوجيا الرفيعة والجديدة، يُطلق عليها لقب العقوبات من جهنم. هذه العقوبات وغيرها ستؤذي روسيا كثيراً كما ستؤذيها أيّ حرب باردة تطوّقها وتمنع على سفنها العبور الى مواقع استراتيجية فائقة الأهمية لها، مثل قواعدها في سوريا. بل إن تطوّر الأمور الى حرب باردة أو ساخنة بسبب أوكرانيا سيسكب المياه الباردة على أدوار روسيا العالمية والإقليمية.
الصين ستكون محظوظة في حال تطور الأمور الى مواجهة بين روسيا والولايات المتحدة، وبين روسيا وحلف شمال الأطلسي. الرئيس الروسي سيزور الصين في شهر شباط (فبراير) للتحدّث عن المسائل الأمنية والعسكرية. وستتخذ تلك المباحثات بُعداً مهماً في ضوء التطورات في ملف العلاقات الروسية مع الدول الغربية.
الرئيس الروسي يلوم الغرب، ويعتبر أن أميركا باتت تقف على أبواب روسيا بصواريخها، بحسب تعبيره، وهو يريد ضمانات مكتوبة ملزِمة قانونياً لا شفوية من واشنطن، بعدم نشر قوات وأسلحة في أوكرانيا وعدم ضمّها للناتو. فلاديمير بوتين يعرف مسبقاً أن الولايات المتحدة لن تلبّيه، لكنه يصعّد.
في خطابه في وزارة الدفاع، تعمّد الرئيس الروسي إبراز القوة العسكرية لروسيا، ما ذكّر بالاتحاد السوفياتي وتباهيه بترسانته العسكرية المتفوقة قبل أن يسقط بسبب التهام الكلفة العسكرية الاقتصاد السوفياتي، الأمر الذي ساهم بانهياره. القصد ليس أبداً التلميح الى مصير مشابه لروسيا، بل هو الإشارة الى أولوية الموازنة العسكرية الروسية، وتطوير الترسانة العسكرية، والقفز الى التهديد بإجراءات عسكرية لم يكشف عنها بوتين، لكنها لا تقتصر على الجبهة الأوكرانية.
لعلّ ما قاله الرئيس بوتين في خطابه يلخّص الموقع الذي وضع نفسه فيه، فهو قال إن على الولايات المتحدة أن “تفهم أنه ليس أمامنا من مكان نتراجع اليه”. فلقد وضع فلاديمير بوتين نفسه وروسيا في قفص على سلّم عالٍ يصعب كثيراً النزول عنه. المؤسسة العسكرية بجانبه، وهي جاهزة لضرب مواقع لحلف ناتو وغواصات أميركية، إذا لزم.
المشكلة هي في إيجاد وسيلة للخروج من الزاوية لكل من روسيا والولايات المتحدة والدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي.
المشكلة هي أن الرئيس الروسي بالغ ورفع السقف العسكري علناً. والمشكلة هي أن فلاديمير بوتين رجل لا يتقن التراجع، ولا يرغب به. ولذلك فإن الجميع يشدّ الأحزمة.
المصدر: النهار العربي