وليد شقير
التصعيد يحل مكان إشارات الانفتاح على دمشق والانسحاب الإيراني وتسهيل اللجنة الدستورية. تقفل السنة على مزيد من الغموض والتشاؤم في شأن الأزمة المتمادية في سوريا، سواء على الصعد السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية والإنسانية، وسط تصاعد التعقيدات الإقليمية والدولية المحيطة ببلاد الشام، بحيث تفرض الصراعات الإقليمية مزيداً من التوترات بين الدول التي تتقاسم النفوذ على المسرح السوري، وتجهض بعض الإشارات عن توجه إلى خفض مستوى التدخلات الخارجية، فتتأخر الحلول الممكنة لإحدى أسوأ الأزمات العالمية بسبب انعكاساتها على المستويات كافة.
ولا بد من رصد مدى انعكاس التوتر في العلاقة الروسية – الأميركية الناجم عن احتمالات عملية عسكرية روسية في أوكرانيا، ورد الفعل الأميركي الأوروبي وحلف الناتو على تصاعد هذا التوتر في شرق أوروبا، على الساحة السورية، إذ عادت موسكو إلى إطلاق إشارات التشدد في الدفاع عن نظام الرئيس بشار الأسد، بعدما كان الاتجاه يميل إلى تفاهمات متدرجة روسية – أميركية حول تطورات الأوضاع المتقلبة في بلاد الشام.
آمال خفض التوتر
شهد الشهران الأخيران بعض الإشارات التي أمل منها المراقبون تمهيداً لخفض التوتر في الأزمة السورية، منها زيارة وزير خارجية دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان لدمشق في 9 نوفمبر (تشرين الثاني)، وتكهنات عن عودة سوريا للجامعة العربية، وتسريبات عن انسحاب ميليشيات موالية لإيران من بعض المناطق، لا سيما الجنوبية، بحيث تحول هذه الخطوة دون استمرار الغارات الإسرائيلية على مواقع هذه الميليشيات، إضافة إلى الحديث عن ضغوط تمارسها موسكو من أجل دفع نظام الرئيس بشار الأسد إلى ولوج الحل السياسي عبر الجولة السادسة لاجتماعات اللجنة الدستورية برعاية الموفد الدولي غير بيدرسون، وعبر اتصالات قامت بها موسكو مع قيادة الأكراد في شمال شرقي سوريا، وقيادة “قسد” للتوفيق بينهم وبين النظام، ومن أجل تسليم الجيش النظامي بعض المواقع، لا سيما تلك التي تقع فيها آبار نفط.
فرملة الانفتاح العربي على دمشق
انعكست الآية، وسرعان ما تبين ألا دعوة لدمشق كي تستعيد مقعدها عبر حضورها القمة العربية في الجزائر في مارس (آذار) المقبل، وأن الانفتاح العربي على النظام يواجه معارضة أميركية شديدة في الإدارة والكونغرس، وكذلك تشدداً سعودياً عالي النبرة، بدليل الخطاب الذي ألقاه سفير الرياض في الأمم المتحدة عبدالله المعلمي الذي قال، “لا تصدقوهم إن قالوا إن الحرب انتهت في سوريا، وألا حاجة إلى قرارات الأمم المتحدة. لا تصدقوهم إن وقف زعيمهم فوق هرم من جماجم الأبرياء مدعياً النصر العظيم، وأي نصر هذا الذي يكون لقائد على رفات شعبه؟ لا تصدقوهم إن قالوا بإعادة الإعمار، فإعادة إعمار المباني لا يمكن أن تتقدم على إعادة إعمار النفوس”.
وقطع الموقف الأميركي العربي غير القابل للانفتاح على النظام الطريق آمالاً روسية بإمكان تمويل الدول الغربية والعربية إعادة بناء البنية التحتية السورية التي دمرتها الحرب، في شكل يؤدي إلى تنشيط الاقتصاد الراكد والمتدهور، مع ما يعنيه ذلك من ترد في الأوضاع المعيشية والخدمات الحياتية البديهية، حيث تفتقد سوريا الكهرباء والمحروقات وتنقصها المواد الغذائية، مع تزايد صعوبة الاستيراد إثر الأزمة الاقتصادية الخانقة في لبنان الذي كان متنفساً اقتصادياً مهماً لدمشق.
الانسحابات الإيرانية مجرد تسريبات مقصودة
أما على صعيد الانسحابات الإيرانية من بعض المناطق، فتقول أوساط في العاصمة السورية إنه لا صحة لتسريبات مقصودة في هذا الشأن، لأن انكفاء هذه الميليشيات من بعض المناطق في درعا جرى باتفاق من الجانب الروسي مع النظام، الذي سحب بدوره بعض وحداته التي كانت تحاصر درعا، وهذا لا يشمل مناطق واسعة في الجنوب السوري، خصوصاً أنه لم يعلن رسمياً عن خطوات كهذه لا من دمشق ولا من طهران أو “حزب الله” اللبناني أو بعض تشكيلات الحشد الشعبي العراقي الموجودة على الأراضي السورية.
وفي تقدير هذه الأوساط أن النظام يأمل بالإفادة من هذه التسريبات في العلاقة مع الدول العربية التي تطالبه بالابتعاد من إيران، فيما يوظفها الجانب الروسي في علاقته مع الدول الغربية بأنه يسعى إلى خفض تأثير طهران على الساحة السورية، فيما تستفيد الأخيرة منها، لأنها تحجب الأنظار عن خطوات تقوم بها على صعيد التغيير الديموغرافي الذي يعمل عليه باستقدام ميليشيات شيعية من أفغانستان وباكستان، كي تتموضع في بعض المناطق.
خروق أمنية لنقل الأسلحة إلى اللاذقية
وتشير بعض المعطيات إلى أن الدليل على استمرار الوجود الإيراني عبر الميليشيات الموالية في سوريا، هو استمرار القصف الإسرائيلي لمواقع ومخازن أسلحة تستقدمها طهران إلى سوريا، وآخرها قصف مرفأ اللاذقية للمرة الثانية خلال ديسمبر (كانون الأول) والثالثة في شهرين، بعد أن استهدفت من الجولان مركز رادار في منطقة من محافظة القنيطرة تقع على حدود محافظة السويداء، وهو مركز توجد فيه عناصر من “حزب الله” وميليشيات موالية لإيران.
أما قصف ساحة الحاويات في مرفأ اللاذقية في 28 ديسمبر فقد استهدف موقعاً نقلت إليه أسلحة شحنت بحراً من إيران إلى المرفأ، ترجح معطيات ميدانية أنها تتضمن قطع صواريخ لإعادة تركيبها في سوريا أو لبنان، وطائرات مسيّرة تقوم طهران بنشرها على الأراضي السورية، لا سيما الجنوبية.
وكان قصف المرفأ قد حدث في 7 ديسمبر أيضاً. وتفيد معطيات جهات سورية مراقبة أن قصف مرفأ اللاذقية يظهر حجم الاختراق الإسرائيلي الأمني الكبير لعملية نقل أسلحة أو طائرات مسيّرة، بحيث إن الاستهداف محصور بالمواقع التي يجري تفريغها فيه، من دون إصابة مواقع أخرى، لا سيما أن المرفأ يقع في قلب المدينة.
ووتيرة القصف الإسرائيلي لهذه المواقع تسببت بغضب من أوساط سكان الساحل السوري الذي بقي نسبياً بعيداً من المعارك العسكرية خلال السنوات الماضية، وأطلقت موجة من الانتقادات على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل مواليّ النظام تجاه الجيش الروسي لامتناعه عن الرد على قصف إسرائيل، إذ إن قاعدة حميميم لا تبعد أكثر من 30 كيلومتراً عن اللاذقية.
فشل اللجنة الدستورية وموقف صيغة أستانا
أما اجتماع اللجنة الدستورية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي فكرس المراوحة بين وفدي النظام والمعارضة، فيما يخيم الغموض على موعد الجولة السابعة لاجتماعات اللجنة، فبيدرسون الذي خاب أمله من فشل جولات اللجنة سعى عبر مشاورات أجراها في جنيف مع القوى السورية المتقابلة ومع الدول المعنية بالأزمة إلى استكشاف أسلوب جديد يقضي باعتماد مبدأ الخطوة في مقابل خطوة من جميع الأطراف، بينما ركز وفد النظام إلى اللجنة على محاربة الإرهاب وأولوية الانسحاب التركي من الشمال السوري والأميركي من شرق الفرات، ولم يناقش مسألة التعديلات على الدستور.
كذلك فعل الوفد السوري خلال الاجتماع الـ 17 في أستانا الذي يضم مندوبي روسيا وإيران وتركيا، الدول الثلاث الضامنة اتفاقات وقف النار وخفض التوتر في عدد من ميادين القتال السابقة، في 21 و22 ديسمبر، وهو اجتماع لم يتوصل إلى نتائج جديدة في شأن الحلول السياسية، فالبيان الصادر عنه كرر مواقف تقليدية من دون أن يقترح حلولاً إيجابية وعملية، سوى تأكيد مواصلة محاربة “داعش” ووحدة وسيادة سوريا.
واعتبر البيان أن صيغة أستانا هي “الآلية الوحيدة التي أثبتت فعاليتها وضرورتها في إجراءات بناء الثقة بين الفرقاء السوريين”، مما يعني التقليل من أهمية اجتماعات اللجنة الدستورية التي كان يُفترض أن تشهد اتفاقات على هذه الإجراءات، على الرغم من دعوة الدول الثلاث إلى عقد الجولة السابعة من اجتماعات اللجنة “في أقرب وقت”.
ورأى بيان أستانا أن عمليات تبادل الأسرى والمعتقلين يجب أن تتعزز عبر هذه الآلية الثلاثية.
وعلى الرغم من طموح موسكو إلى التوسط بين مناطق سيطرة الأكراد وقوات “قسد” في شمال شرقي سوريا (فشلت الوساطة)، أكد البيان وقوف الدول الثلاث ضد “الأجندات الانفصالية” في تلك المنطقة.
لافرنتييف وتعديل اللهجة
لكن الجديد بعد اجتماع أستانا عودة الجانب الروسي للانحياز إلى النظام السوري بشدة، كما عكسه مبعوث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف، الإثنين الماضي، من أن إعداد دستور جديد لسوريا يجب ألا يهدف إلى تغيير السلطة في البلاد، خصوصاً أن “حكومة النظام راضية عن الدستور الحالي، وفي رأيها لا داعي لتعديله”.
وبينما كانت الدبلوماسية الروسية تنتقد رفض النظام الحلول السياسية للقرار الدولي رقم (2254) وإعاقته لأعمال اللجنة الدستورية، لفت هجوم لافرنتييف على المعارضة ودفاعه عن النظام في تصريحات أدلى بها في 28 ديسمبر بقوله، “إذا رأت المعارضة إجراء تغييرات فيجب النظر في القضايا التي تهمها وطرحها على التصويت في استفتاء أو للموافقة عليها بطريقة أخرى”. وأضاف لافرنتييف أنه “إذا سعى شخص ما إلى هدف وضع دستور جديد من أجل تغيير صلاحيات الرئيس، وبالتالي محاولة تغيير السلطة في دمشق، فإن هذا الطريق لا يؤدي إلى شيء”.
وحمل المبعوث الروسي المعارضة السورية مسؤولية التأخير في الحلول، مشيراً إلى أن ليس النظام وحده من يتحمل مسؤولية ذلك، ودعا المعارضة إلى طرح “بعض المقترحات الملموسة، وألا تنغمس في التكهنات بأنه لا يمكن أن تكون هناك تغييرات طالما أن بشار الأسد في السلطة”.
اهتمام عربي وأميركي بإعادة هيكلة المعارضة
وترافق ذلك مع تطورين على مستوى المعارضة والدول التي تحتضنها، إذ سرت أنباء عن أن دولة قطر ستنظم اجتماعاً لقياداتها في الدوحة في 20 يناير (كانون الثاني) 2022 بحضور ممثلين عن السعودية وتركيا والولايات المتحدة الأميركية.
وقالت مصادر سورية مطلعة على خلفية هذه الدعوة إنها تهدف إلى إعادة تجميع فصائل المعارضة بهدف إعادة هيكلتها، فالدعوة تشمل ضباطاً منشقين عن النظام كانت نشاطاتهم تراجعت خلال السنتين الأخيرتين، فأُعيد التواصل معهم من الجانبين العربي والأميركي، وقد ينتج من هذا الاجتماع المنتظر تغيير في هيئة التفاوض المنبثقة عن المعارضين.
وتسببت تصريحات المسؤول الروسي باستقالة متحدث هيئة التفاوض باسم المعارضة في اللجنة الدستورية إبراهيم جباوي، معتبراً أنه “نسف العملية السياسية برمتها”، فيما رأى “الائتلاف الوطني السوري” في بيان أن تصريحات لافرنتييف “لا مسؤولة، وتمثل انقلاباً على العملية السياسية وعلى مسار اللجنة الدستورية، وتدخل مرفوض في خيارات السوريين”، مشدداً على أن القرار (2254) يتضمن مسار هيئة الحكم الانتقالي كاملة الصلاحيات التنفيذية لا الدستور فقط.
استقالة نصر الحريري وملاحظاته
أما التطور الثاني الذي سبق فهو إعلان رئيس الائتلاف السوري ورئيس هيئة التفاوض الممثلة للمعارضة في الاجتماعات التي رعتها الأمم المتحدة مع النظام نصر الحريري استقالته من الهيئة. فالأخير ذكّر، في بيان مطول، بثوابت الثورة السورية، مشيراً إلى “بيان جنيف (عام 2012) وقرارات مجلس الأمن وإطلاق المعتقلين وتوضيح مصير المخفيين وإدخال المساعدات الإنسانية وتشكيل هيئة الحكم الانتقالي، لا وجود فيها لمجرم الكيماوي ومعاونيه، ووضع دستور جديد لسوريا بيد أبنائها وانتخابات بإشراف الأمم المتحدة يشارك فيها السوريون في المهجر، وإخراج القوات الأجنبية وعلى رأسها إيران وروسيا وميليشياتهما”.
واعتبر الحريري أن اللجنة الدستورية “لم تكن خيارنا الأول، بل هيئة الحكم الانتقالي”، وانتقد بيدرسون لابتعاده من تفويض قرار مجلس الأمن لأنه “يتحدث بأوليات النظام”، مطالباً إياه “بمصارحة الأمين العام للأمم المتحدة ومجلس الأمن حول من عطل العملية السياسية لسنوات”. ووصف الآلية التشاورية التي يقوم بها المبعوث الدولي بأنها “خروج عن قرارات مجلس الأمن”، ودعا الحريري، بعد أن شكر السعودية والدول الداعمة للمعارضة، إلى الحفاظ على استقلالية القرار السوري وإلى عملية استبدال واسعة للقيادات في مؤسسات المعارضة.
المصدر: اندبندنت عربية