سميرة المسالمة
يمثّل الحكم الصادر عن محكمة ألمانية بالحبس المؤبد على أحد ضباط النظام السوري حتى عام 2012، تاريخ انشقاقه وانضوائه مع مجموعات المعارضة، مقولة “إنّ المحاسبة على المشاركة بارتكاب الجرائم لا تسقط مع تغير عناوين إقامة المرتكبين، ولا حتى مع تغيير ضفة اصطفافاتهم”، وهو ما يجب أن تدركه المعارضة السورية، عندما تحاول أن تمحو تاريخاً من فشلها بتغيير أسماء كياناتها أو ادّعاء إصلاحها، حيث محاكم ذاكرات الشعوب أكثر صرامة من محاكم القضاة تحت قوس المحكمة. وما يحمّله سوريون كثيرون لكيانات المعارضة من مسؤولية عن تدهور واقع المناصرة لثورتهم، وعدم تمثيلهم جوهر قضيتهم ومطالبها، يكاد يرقى إلى هدف شعبي، وهو محاسبة قادة في المعارضة، بل والمطالبة بمقاضاتهم.
من هنا، يمكن فهم عدم حماسة سوريين كثيرين لطرح هذه الكيانات في مبادرات مختلفة، بين فترة وأخرى. وهذا لأن الناس تعي حقيقة معنى كثرة المبادرات، فهو إن دلّ على شيء، فإنّما يدلّ على نقصها، أيضاً، إن لعدم نضجها، أو لعللٍ كثيرة فيها، حتى لم يعد السوريون يكترثون بأيّ مبادرة، أو لا يأخذونها على محمل الجد، فيطويها الزمن، إلى حين طرح مبادرة أخرى، وهكذا.
أخيراً، طرحت في الساحة السورية مبادرتان، إن صحّ التعبير، الأولى، على شكل ندوةٍ، تم الحشد لها، وتأمين الإمكانات المادية لإنجاحها، مع تغطية إعلامية، بالنظر إلى الجهات الدولية وراءها. والثانية، على شكل ادّعاء متجدد لمحاولة إصلاح الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وهو الجهة الرسمية التي تمثل المعارضة السائدة، أي التي منحتها الأطراف الخارجية الشرعية، بغضّ النظر عن أهليتها وشرعيتها الداخلية.
يمكن المرء أن يتمنّى النجاح لأية مبادرة، بيد أن المسؤولية تقتضي الحديث، بصراحةٍ، عن النواقص التي تعتور تلك المبادرات، أو عن المستلزمات أو الممهدات المفترضة لإنجاح أية خطوة من هذا النوع، لأن من شأن الفشل في كل مرة تزايد مشاعر الإحباط والغضب وفقدان الأمل عند السوريين في كل مكان، وتحقيق نصر مجاني للنظام الذي يراهن على تواضع إمكانات المعارضة وتمزّقها. وأختصر هنا رأيي في نقاط محددة:
أولاً، لا فرصة لنجاح أية مبادرة إذا صدرت من جهةٍ كانت مسؤولة عن الإخفاقات التي تعرّضت لها مسيرة المعارضة السورية، على أي صعيد كان، ولا سيما أنّ الأطراف المعنية لم تقدّم نقداً ذاتياً على مواقفها وأدائها. وفي هذا الصدد مثلاً، يمكن طرح سؤال جوهري: كيف للائتلاف أن يُصلح نفسه، وهو مبنيّ على أسسٍ خاطئة منذ بداياته؟
ولا أتحدّث هنا عن مجرد رأي، بل عن تجربة، أيضاً، وكنت قد أكدت ذلك إبّان وجودي في “الائتلاف” ذاته، في مقال نشرته في “العربي الجديد” في 16 يناير/ كانون ثاني 2016 بعنوان “اعتراف واعتذار إلى الشعب السوري” كما كتبت عنه في كتابي الصادر أخيراً “الانهيار السوري .. الصراع على السلطة والدولة والهوية”. أقصد أنّ المشكلة في الطريقة التي تشكّل فيها “الائتلاف”، وفي افتقاده ليس فقط كيانات سياسية حية وفاعلة، بل وافتقاده شخصيات سياسية وثقافية وفعاليات اقتصادية، نزيهة ومجرّبة ومناضلة، إذ إنّ الجماعات التي تصدّرت عمل “الائتلاف”، وحوّلته إلى صندوق مغلق تتناوب على تصدّر مراكزه المسؤولة، بل تنأى بنفسها عن الفاعلين السوريين المؤثرين، وهم كثر، وحين تفسح المجال لتوسعةٍ جديدةٍ تأتي بناءً على خياراتها الشللية والتصويتية.
ثانياً، من دون نقد كلّ طرف، وحتى كلّ شخص، تجربته ومواقفه، وتالياً، نقد التجربة السابقة للمعارضة السورية (فعلت هذا إبّان وجودي في “الائتلاف” وفي استقالتي منه)، أي من دون نقد مسارات الارتهان، والتبعية، لهذه الدولة أو تلك، على حساب مصالح السوريين، ومسارات تطييف الثورة السورية، وعسكرتها، وفقدانها خطاباً سورياً جامعاً، وكل الأسباب التي أودت بنا إلى كارثة، فإن أية مبادرة ستفقد معناها، أو صلاحيتها، وستكون مجرّد خطوة ترقيعية “ترفيهية” لإعادة إنتاج التجربة الكارثية نفسها التي أدّت إلى يأس السوريين من كيانات المعارضة، وعزوفهم عنها وسخريتهم منها، وغضبهم عليها.
ثالثاً، أية مبادرة ستكون موضع شبهات إذا صدرت بالاستناد إلى هذه الدولة أو تلك، بناءً على التجربة السابقة، إذ إنّ تشكيل الكيانات (المجلس الوطني، والائتلاف الوطني، وهيئة التفاوض 1 و2، واللجنة الدستورية، والفصائل العسكرية، وغير ذلك من هيئات ومنصّات وأحزاب وجمعيات) أكد أنّها جميعاً كانت مدينة للأطراف التي أسهمت في تشكيلها، ورعتها، وقدّمت الدعم لها بشقيه، المالي والسياسي، ولا سيما أنّ بعض تلك الدول باتت تتلاعب بالثورة السورية، وبمصير السوريين، فما الذي يجمع المعارضة السورية بأيٍّ من تشكيلاتها، مع مسار آستانة مثلاً، الذي أريدَ ترسيخه بدلاً من بيان جنيف؟ وكيف للمعارضة أن تنخرط في مؤتمر سوتشي؟ وكيف للمعارضة أن تغطي مواقف تركيا التي تأسّست على مسار ثلاثي آستانة، أي مع روسيا وإيران حليفي النظام السوري وشريكيه في قتل السوريين وتشريدهم؟
حاولت أن أقول، في هذا المجال، الشرط اللازم لنجاح أي مبادرة، لكن ثمّة شروط أو مستلزمات أخرى، منها: توليد أو تشكيل منبر سياسي يمكن السوريين على مختلف توجهاتهم، وأماكن وجودهم، أن يعبروا من خلاله عن آرائهم بكل صراحة. التوافق على قيم عليا تمهد لإيجاد إجماعات وطنية عند السوريين على مختلف مرجعياتهم القومية من عرب وكرد وآشوريين وأرمن وتركمان وشركس وغيرهم، وتكون بمثابة نقاط فوق دستورية، وتتأسّس على حقوق المواطنة في الحرية والمساواة والكرامة وإقامة نظام سياسي ديمقراطي وتداولي. بعد ذلك، الدعوة إلى عقد نوع من لقاء عام وطني يضم تكتلات أو أحزاباً سياسية مع شخصيات سورية فاعلة ومؤثرة في مجتمعات السوريين، على أن يُستبعد منهم كل مسؤول عن تجربة سابقة فاشلة.
باختصار، يمكن إجراء خطوات عديدة للتمهيد لطرح مبادرة، وتأمين مقومات نجاحها، وليس فقط إمكانات تمويلها، وذلك قبل ادّعاء امتلاك مبادرة، وبالتالي امتلاك الفاعلين فيها، أو امتلاك طريق للإصلاح، أو للخروج من المأزق. المهم أن تكون البداية مسؤولة وناضجة ومعنية بنجاح الفكرة وامتلاك أسباب استقلاليتها، وبعيدة عن الشللية وتجميع الأتباع تحت مبدأ “توجيه الدعوات لإسكات الانتقادات وكسب الأصوات” التي اعتادتها كيانات المعارضة خلال مسيرتها وتوسّعاتها وتشكيل لجانها، إذ لن ينتج من تجميع مسؤولين في كيانات فاشلة كياناً موثوقاً، وإن زُيِّن بشخصيات وازنة. وما لم تراجع الكيانات تجربتها وتحاسب المسؤولين عن فشلها، فهي إنّما تسنّ للنظام طريقة جديدة في التهرّب (على قياسها) من استحقاقات إنهاء عهده، بالدعوة إلى مؤتمر بأوراق إصلاحه، واعتبار ناتج المؤتمر نظاماً جديداً بريئاً من تبعات جرائم ما اقترفته قبل ذلك قواته وشخصياته وأزلامه .. فهل تقدم المعارضة للنظام السوري عبر مبادراتها سيناريوهات الهروب من تاريخه؟
المصدر: العربي الجديد