مضر رياض الدبس
الرَوْتَنة جعل الأشياء روتينية (Routinisation)، العمل المُمنهج لتحويل الأفعال الحية والرشيقة إلى أفعالٍ روتينية اعتيادية تتم بصورة متكررة من دون تغيير وتفكير، مثل القسم الأكبر من البيانات والاجتماعات والندوات والحوارات والنقاشات التي تحيط بنا هذه الأيام من كل اتجاه، ومثل معظم الأفعال السياسية والتصريحات والتحرّكات والزيارات التي تخصّ المسألة السورية، والتي صارت تبدو كأنها عمل روتيني يتكرّر، وخزانُ كلماتٍ وأفكارٍ يُعاد تدويرها باستمرار. ولا ينطبق ذلك على مستوى خطابي المعارضة والنظام فحسب، لكن أيضًا على مستوى خطاب المبعوث الأممي ومسار الوهم الذي يقوم بتيسيره، هو وكل الذين يشاركونه. تصل بنا هذه المقاربة إلى أسئلة مهمة وغير اعتيادية عن الذي حوّل الفعل السياسي السوري إلى روتينٍ لا يتقدّم، وعن الذي له مصلحة بذلك، وعن الطرائق المتاحة لإيقاف هذا الابتذال والمُضي في الحل النهائي. وقبل البدء بالإجابة عن أيٍ من هذه الأسئلة، لا بد من تثبيت صرخةٍ أخلاقيةٍ، يقولها لسان حال السوري العادي في وجه هؤلاء جميعًا: ليست الثورة فعلًا روتينيًا، بل هي، منذ ولادتها، مشروعٌ مضادٌ للروتين والسكون، وموتنا وآلامنا وجوعنا ونضالاتنا وأحلامنا وبكاء أطفالنا وحسرات آبائنا ليست روتينا، ولا يمكن الاستمرار في روتنة المأساة أكثر.
هذه الصرخة الأخلاقية موجهةٌ إلى المعارضة السورية الرسمية بالدرجة الأولى، ليس لأنها وقعت في فخّ روتنة حياتنا السياسية، ومن ثم مأساتنا، فحسب، بل لأنها نظريًا الوحيدة في المعادلة السياسية الرسمية المفترض أن يعني لها إيقاف هذه المأساة شيئًا ما. ومع أن تصرّفها غير المسؤول، وأفعالها غير المدروسة، وطريقة تكرارها الأشياء بالصورة ذاتها، لا توحي إلا بأنها جزءٌ غير قابلٍ للإصلاح من منظومة الروتنة هذه، إلا أن لها دورًا يمكن أن تلعبه في دعم السوري العادي، إذا احتكمت إلى البعد الأخلاقي في هذه اللحظة المفصلية من التاريخ، وحلَّت نفسها في صورتها الحالية، وساعدت في بناء هيئة تحرير وطنية، يدير دفتها قائد الثورة وصاحبها ومفجرها: السوري العادي غير المؤدلج الذي أخفق النظام في الاستحواذ على منهجية تفكيره، في حين نجح في الاستحواذ على منهجية تفكير المعارضة الرسمية (نفصّل في الآتي).
قد يبدو هذا الكلام وهمًا، أو تفكيرًا رغبويًا، ولكنَّه يبقى، على أي حال، كلامًا منطقيًا. بهذا المعنى، كان مقترح بيان تأميم سورية (المنشور في “العربي الجديد” في 22/11/2021) فعلًا مضادًا لروتنة السياسة في سورية، وبقدر ما كان له صدى جيد، وبقدر ما تفاعل معه كثيرُ السوريين إيجابًا، بقدر ما كان عليه مواجهة الروتين والروتنة، ومواجهة تحويله هو نفسه إلى صورةٍ من صور الروتين أيضًا، عبر أخذه إلى أحد المسارات الروتينية المألوفة، تمهيدًا لوضعه في السياق الدارج. وعلى ذلك، نثبت مجموعةً أساسية من النقاط:
الأولى، مفادها بأن جوهر مقترح بيان تأميم سورية يتناقض مع الاعتيادي الموجود، ويلتقي مع الثورة. يعني ذلك أنه في الجوهر يطرح ثلاثة أنواعٍ من التغييرات: في نوعية علاقتنا بأنفسنا، في نوعية علاقتنا بالحقيقة، في نوعية علاقة كل منا بالآخر. الأمر الذي يحيل، بمجمله، على رحابة حكاية الثورة السورية التعدّدية والمنفتحة التي تتغير باستمرار، مقابل سرديات المعارضة الأيديولوجية وسرديات النظام التافهة. يطرح جوهر البيان، وما سبقه من مقاربات مهدت له، (منشورة في سلسلة مقالات قبله في “العربي الجديد” أيضًا) أن الثورة في العمق هي تعبيرُ السوري العادي الجميل عن نفاد صبره إزاء السرديات الجامدة والخالدة التي كانت عنوان الحياة ومركز التفكير في سورية، وأن الثورة، بهذا المعنى، هي أزمة السرديات الجامدة والخالدة وأزمة المسلمات والحقائق النهائية والأيديولوجيات السائدة التي لم تعد تسمح للفرد السوري أن يحجز له مكانًا لائقًا في التاريخ المعاصر.
وتفيد النقطة الثانية بأن بيان تأميم سورية يقيم وزنًا كبيرًا للزمن في مسارات الوعي والتفكير والفهم، ويضعه بوصفه من عوامل التحليل السوري الاجتماعية والسياسية. وعلى ذلك، ينهل مقترح البيان أفكاره من واقع فكرٍ جديد ينتمي إلى ما بعد 2011، ويرى أن كل وعيٍ سوري لا يقيم وزنًا للزمن ليس إلا وعيًا زائفًا، ويشترك في امتلاك هذا الوعي الزائف النظام والمعارضة معًا، مع التأكيد على الفرق الأخلاقي بين الاثنين، فلا شيء مثل انحطاط النظام السوري أخلاقيًا. والمقارنة على المستوى الأخلاقي غير ممكنة دائمًا، حتى مع وجود ملاحظات أخلاقية كثيرة على المعارضة.
والنقطة الثالثة تحيل على منطقية أن يشترك النظام والمعارضة في رفض مقاربة تأميم سورية بموجب مقترح البيان، يرفضها النظام من منطلق الحفاظ على أحد أكثر ثوابت تفكيره وسلوكه رسوخًا، وهو ثابت دعم الرداءة والحرص على استمرارها. وينبع رفض المعارضة من حرص الرديء على استمرار وجوده. وهذا يعني أيضًا حرص النظام على استمرار وجود المعارضة الحالية كما هي من دون تغيير. وهذه المفارقة حقيقية ومنطقية، يمكن أن يصل إليها أي تفكيرٍ هادئ؛ فالنظام يعشق ميوعة هذه المعارضة، ومن ثم يحرص على وجودها، مثل عشقه سردية المقاومة وحرصه على حضورها، لأنه يبني عليهما شرعيةً من النوع الشعبوي، ويستثمر كليهما بوصفهما من أهم مسوّغات الضغط على حاضنته، وابتزازها، وسرقة مقدّراتها، وسرقة حياة أبنائها، وما إلى ذلك مثل تسويغ سلوكيات الـ “تعفيشٍ” والنهب والسلب والتضييق والتجويع، التي يراها ضرورةً لاستمراره ولتمويل أجهزته وداعميه، مثل إيران وروسيا.
نعود إلى السؤال: من الذي رَوْتَنَ الحياة السياسية السورية، ومن له مصلحة في ذلك، وكيف نجح، وكيف يستمر في النجاح في ذلك، وكيف تنتهي هذه المهزلة؟ يبدو أن ثلاثية النظام، والعقل المُسفْيَت (من الاتحاد السوفيتي، وفق مصطلح ياسين الحافظ)، والدين الذي تحول إلى أيديولوجيا، قد مهّدت لـ “روتنة” المنهج الأيديولوجي في مفهوم المعارضة في سورية منذ سبعينيات القرن الماضي. ويبدو أن هذه الروتنة مكَّنت النظام لاحقًا من الاستحواذ على منهجية تفكير المعارضة التي صارت تفكّر بأدواتٍ أيديولوجية فحسب، وبصورةٍ إيمانية أحادية. والذي حدث في 2011، في أحد أهم معانيه، ثورة على طريقة التفكير هذه، وتقديم طريقة تفكير واقعية تعدّدية لا تستند إلى حقائق نهائية، بل إلى الابتكار وصناعة الجديد المُلائم للزمان، والذي يخدم الإنسان السوري ويضعه في مركز التفكير ولا يقبل أن يستعلي عليه أحد، أيًا كان، ولكن السخرية الفاحشة أن هذه الذهنية الحديثة لم تحضر على المستوى السياسي بعد الثورة. ولم يكن ممكنًا أن ينجح النظام في روتنة السياسة في سورية، لو أنه لم يراكم على نجاحٍ سابق في روتنة طرائق التفكير الأيديولوجية والإيمانية في المعرفة السورية المشتركة، عبر جعل الأيديولوجيات أمرًا اعتياديًا وروتينيًا، ومن مسلّمات التفكير في السياسة (مثل أيديولوجيا القومية العربية والأيديولوجيات المتحولة من الدين الإسلامي والأيديولوجيات اليسارية والاشتراكية وإلى ما هنالك)، يعني ذلك أن روتنة الأيديولوجيا مهّدت لروتنة الرداءة في مفهوم المعارضة. ولنتأمل، ولو قليلًا، في كارثية أن تصبح الرداءة أمرًا روتينيًا واعتياديًا في تمثيل ثورة عظيمة مثل الثورة السورية، ومادّة أساسية في صناعة خطاب الخلاص لبشرٍ تموت وتتشرّد وتتألم وتجوع.
واليوم، ندعو المعارضة، بودٍ ومحبّة، إلى التفكير في المآلات الكارثية لاستمرار هذه الروتنة، وندعو أعضاءها إلى الحوار الصامت مع ذواتهم لنقاش فكرةٍ مهمةٍ، مفادها بأنهم لا يزالون يعيشون في ذاك الزمان ولم يعبروا إلى ما بعد 2011 على مستوى الذهنية وطريقة التفكير، وأنهم ضحايا روتنة السياسة، وأنهم يساهمون في مساعدة السفاح على جعل الثورة مجرد روتينٍ مُملٍ غير منتج لأن هذه هي استراتيجيته الناجحة لدرء خسارته الأكيدة لو أتيح للثورة التعبير عن ذاتها. هي دعوة المعارضة بودٍ ومحبة إلى إتاحة الفرصة للثورة لتتمثل ذاتها، وللمجتمع السوري ليتمثل ذاته، وللكفّ عن ادّعاء أي نوعٍ من الوصاية عليه. وهي دعوة إلى الاستفادة من دعم الدول التي تتعاطف مع السوريين وتدعم قضيتهم الأخلاقية، واستثمار هذا الدعم في تنصيب السوري العادي على رأس ثورته، بدلًا من استثماره في الابتذال المستمر والروتنة، وربما يكون المؤتمر المُقرر انعقاده في الدوحة في الشهر المقبل (فبراير/ شباط) فرصةً لهذا الحوار الصامت مع الذات، وإن كان ذلك على غير العادة.
أخيرًا، ظل أن نقول من متابعة التفاعلات والرسائل بشأن مقترح بيان تأميم سورية إن سوريين عاديين كثيرين رأوا في بيان تأميم سورية تعبيرًا عما يدور في أذهانهم، وتعبيرًا عما يدور في وجدانهم. وعليه، أراد كثيرُ السوريين العاديين المضي أبعد في هذا المشروع، وهذه إرادة نبيلة وضرورية، ولكن ربما من المفيد التفكير في أن الأمر قد يحتاج قبل ذلك إلى بناء قاعدةٍ وطنية واسعة من السوريين العاديين الذين لا يدَّعون النخبوية. ولذلك نجدّد الدعوة إلى الحوار في البيان على أوسع نطاق مُمكن، ونقاش أفكاره وتصويبها، وصولًا إلى بلورة صيغةٍ تنتمي إلى هذه النقاش العمومي، وتعبر عن تطلعاته؛ فالمشاريع العمومية الوطنية لا يبلورها إلا الفضاء العمومي الوطني. وهذه الدعوة، بطبيعة الحال، تتضمّن أيضًا الدعوة إلى تذليل الصعوبات التي تحيل على نقص الوسائل والأدوات المتاحة أمام السوري العادي، للعمل السياسي مقارنةً بـ “السوري النخبوي” المشغول بصرف الوقت والجهد والمال في اجتماعات روتينية صارت مُملة ومبتذلة تكرّر نفسها في كل حين.
المصدر: العربي الجديد