د- معتز محمد زين
يتحدث الكثير من المثقفين عن ضرورة فصل الدين عن السياسة وإبعاده عن زواريبها باعتبار أن السياسة لا دين لها، وأن تدخل الدين بالسياسة يقيدها وتدخل السياسة بالدين يفسده. والحال أن مثل هذا الطرح يزيد حالة الغليان وحدة الانقسامات في المجتمعات ذات الأغلبية الإسلامية ويطيل أمد الصراع والنزاع بين السياسة والمجتمع كونه لا يقرأ الواقع بشكل صحيح ومنطقي، ويحاول أن يفرض واقعًا جديدًا يقوم على اعتبار السياسة لا دين لها نظريًا وغالبًا مناهضة للدين من الناحية العملية في بلد وجدانه الشعبي إسلامي.
الإسلام والسياسة مرتبطين بشكل عضوي، فالسياسة جزء بنيوي من الدين الإسلامي ويخطئ من يعتقد أنه قادر على إبعاد الإسلام عن السياسة، ذلك أن الدين الإسلامي هو منهج حياة كامل يهتم بكل القضايا اللازمة لبناء الدولة واستقرار المجتمع وتحقيق العدالة، والسياسة ( كما الاقتصاد والأخلاق والقانون والقضاء) مكون أساسي من مكونات بناء الدولة واستقرار المجتمع. النصوص التي تؤصل القيم السياسية وتشكل منهج سياسي إسلامي كثيرة، ويمكن للمهتم أن يقرأ كتاب الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية للدكتور محمد المختار الشنقيطي حيث يقدم فيه الرؤية السياسية الإسلامية بشكل مرتب ومؤصل وموضوعي. لكنني أريد أن أشير إلى النموذج الأول كمؤشر مهم للارتباط العضوي بين الإسلام والسياسة، فبعد 13 سنة فقط من بداية الدعوة وضعت اللبنة الأولى للدولة الإسلامية في المدينة المنورة. نواة دولة متكاملة الأركان( سياسة وجيش وقضاء وقوانين) تملأ الفراغ السياسي والقانوني في الجزيرة العربية. إن مجرد قيام الدولة بهذه السرعة القياسية وعلى رأسها نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم هو دليل كاف ومؤشر واضح على الارتباط العضوي بين الإسلام والسياسة.
السياسة في جانب منها تنظم العلاقات الداخلية والخارجية للدولة بما يحقق استقرار مواطنيها وتأمين حقوقهم لكنها في جانب آخر تشكل ضمانة ورعاية وحماية لهوية المجتمع والتي تشكل بدورها عامل مهم من عوامل استقراره وارتباطه بإرثه الحضاري. لذلك فإن تجاهل هوية المجتمع في السياسة والدستور والقانون فضلاً عن تهميشها وتشويهها هو بمثابة صناعة بركان بين الطبقة الحاكمة والشعب يحتاج فقط إلى شرارة لتفجيره في أي لحظة في وجه كليهما. والإسلام شئنا أم أبينا هو المكون الأهم للهوية الاجتماعية والثقافية والحاضر الأقوى في وجدان شعوب المنطقة عمومًا والشعب السوري خصوصًا. والحال أن الكثير من دول العالم الأكثر تقدمًا يتصدر دستورها فقرة تحدد دين الدولة ويتولى حكمها أحزاب ذات طابع ديني وتحمل أعلامها رموز دينية( الدانمارك – السويد – ألمانيا) دون أن يؤثر ذلك على استقرار الدولة أو المجتمع.
يقول نجم الدين أربكان:( تريدون مني أن أقعد في المسجد وتعلمون ولدي كراهية الإسلام في المدرسة ليعود ولدي ويهدم المسجد فوق رأسي). للأسف الشديد أثبتت التجارب العملية صحة هذه المقولة في الكثير من الدول. عندما تصل النخب العَلمانية للحكم تسفر عن حالة من الديكتاتورية والاستبداد تفوق بكثير الديكتاتوريات القومية والايديولوجية. السياسة لا تتركنا وإن تركناها. هي تلاحقنا وتضيق علينا وتطالبنا بتغيير هويتنا بما يتناسب مع مخططاتها، ربما لأن القرار السياسي مستلب وغير مستقل، وربما لأن الإسلام السياسي يهدد أركان الدول الاستبدادية ومصالح الدول الاستعمارية.
ليس من المعقول أن يطالب أحد باكستان مثلاً بالتخلي عن الهوية الإسلامية( في السياسة والمجتمع) بوجود دولة مجاورة يحكمها هندوس متطرفون يحقدون على الإسلام وأهله ويهددون وجودهم علنًا. وليس من المعقول أن يطالب أحد السوريين بذات الطلب مع وجود دولة مجاورة تعلن أنها يهودية وتتخذ الدين أداة للسيطرة والتوسع والقتال. إن هذا الطلب يشبه إلقاء السلاح الأكثر فعالية في ساحة المعركة عند مواجهة عدوك. إنه يشبه الاستسلام. هذا مع وجود فارق كبير بين سماحة ومرونة وعدالة الإسلام في تعامله مع الآخر ( والتاريخ المقارن يثبت ذلك) وبين تطرف وتعصب ووحشية المذكورين في تعاملهم مع المخالف.
يميل غالبية المجتمع السوري نحو التدين والالتزام بالقيم والضوابط الدينية في العلاقات الاجتماعية والبيع والشراء والثقافة والسلوك، ولا بد من مراعاة ذلك في الهيكل السياسي والقانوني والإعلامي للدولة. إن دين الدولة والصبغة الإسلامية في الإعلام والقانون والخطاب السياسي يهدف إلى توفير غطاء قانوني لحماية ثقافة الأكثرية في الدولة والحفاظ على صلتها بالتاريخ والحضارة اللازمين لاستقرار ونهوض أي دولة.
نحن مع دولة ديمقراطية تتساوى فيها فرص الوصول إلى سدة الحكم بين جميع الفئات والأفراد، ويتساوى فيها جميع المواطنين على اختلاف أديانهم وتوجهاتهم ومذاهبهم ومناطقهم في الحقوق والواجبات والفرص، ولا يجوز منع أي جهة أو شخصية من ممارسة السياسة، لكن المطلوب وضع ضوابط وأدوات متابعة وجهة رقابية تمنع أي جهة تصل لسدة الحكم من ممارسة الاستبداد أو الاستفراد أو الديكتاتورية أو الاستئثار بالسلطة. المطلوب وجود صيغة قانونية ملزمة تحفظ للجميع خصوصياتهم الثقافية والاجتماعية وإمكانية وصولهم للحكم عبر صناديق الاقتراع. المطلوب صيغة تجعل من السلطة الحاكمة خادمة فعلية للشعب وموظفة بمدة محددة لتأمين احتياجاته وتحقيق رفاهيته.
لقد أثبت الإسلاميون – في النماذج القليلة التي وصلوا فيها للحكم – أنهم الأكثر قبولًا بنتائج صناديق الاقتراع، والأكثر خدمة لشعوبهم، والأكثر أمانة في التعاطي مع المال العام، والأقل عنفًا عند استلامهم للسلطة، والأكثر تعرضًا للعنف عند استلام خصومهم لها. لذلك يبدو لي أن الديمقراطية والوطنية والواقعية تقتضي عدم السعي لإقصائهم أو إقصاء غيرهم تحت أي مبرر وإنما وضع آليات تمنعهم وتمنع سواهم من الاستئثار بالحكم بعيدًا عن صناديق الاقتراع النزيهة. وإن أي محاولة لإقصائهم عن حقهم الطبيعي في ممارسة السياسة هو نوع من الاستبداد والتهميش لفئة مؤثرة في مجتمعاتنا سينتج عنه لا ريب حالة من الغليان الاجتماعي والصراع الداخلي بين السياسة والمجتمع والثقافة. الأمر الذي لا يخدم بحال استقرار وتقدم الدولة.
ورحم الله مي سكاف. كانت غاية في العفوية والعمق والفهم والموضوعية عندما قالت باللهجة العامية ردًا على سؤال ضابط الأمن: أي بدي الإسلاميين يحكمونا. سبع سنين يخدم بلده ويحمل حاله ويمشي. أي بدي الإسلاميين يحكمونا لأنه دورهم يحكمونا. هنن يلي عم يتقتلوا. هنن يلي عم يندكوا. حقهم يحكموا سبع سنين ويحملوا حالهم والله معهم.
المصدر:اشراق