العقيد عبد الجبار العكيدي
أعلنت قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، نهاية العمليات العسكرية التي دارت مع خلايا تنظيم داعش التي هاجمت سجن الصناعة في حي غويران في مدينة الحسكة، والقضاء على حالة التمرد والاستعصاء في السجن الذي يضم ما يقارب الخمسة آلاف معتقل من كافة الجنسيات، والانتهاء من حملة التمشيط فيه وإنهاء الجيوب الأخيرة التي كان يتحصن بها عناصر التنظيم، بعد مواجهات عنيفة دامت حوالي عشرة أيام شاركت فيها قوات التحالف الدولي.
ويقع سجن الصناعة في حي غويران الذي يعتبر المدخل الجنوبي لمدينة الحسكة في منطقة سهلية، ضمن المثلث الذي يصل دير الزور بالحسكة بالحدود العراقية وصولاً الى مدينة الموصل، هذا المثلث الذي يعتبر البيئة الملائمة لانتشار وتحركات خلايا التنظيم خاصة في المناطق الخالية من السكن –البادية- ومناطق أوتوستراد الخرافي ومنطقة ال47 وغيرها من المناطق التي تشهد هجمات متكررة للتنظيم على ميليشيا قسد والمتعاونين معها وخاصة ليلاً حيث السيطرة كاملة للتنظيم.
لم تأخذ قيادة حزب الاتحاد الديمقراطي تهديدات التنظيم باقتحام السجن على محمل الجد، هذا إن افترضنا حسن النوايا وعدم وجود تنسيق بين الطرفين مشابه لوصول داعش إلى عين العرب عام 2014، رغم وقوع السجن في المنطقة الرخوة المفتوحة على البادية التي تمنح التنظيم فرصة أكبر للوصول اليه، ومحاولات الاستعصاء المتكررة فيه، ومعرفة قسد المسبقة بأن عين التنظيم على هذا السجن، واعترافات القيادي الخطير في التنظيم محمد عبد العواد الملقب ب”رشيد”، قبل حوالي الشهر عبر فيديو مصور نشرته قوات سوريا الديمقراطية أقر فيها بالتخطيط لعملية اقتحام سجن الصناعة، وتحدث عن تفاصيل مخطط هجوم يحاكي تماماً بتفاصيله الهجوم الذي حصل في 20 كانون الثاني/يناير 2022.
مع كل هذه المعطيات بقيت إجراءات الحماية متدنية، في غياب واضح لأي عناصر حماية محترفة أو على درجة عالية من التدريب والتأهيل، والاعتماد فقط على عناصر ممن جرتهم قسد للتجنيد الإلزامي بالقوة. وأظهرت وجوه القتلى والأسرى أن أغلبهم شبان صغار من السكان المحليين، وبالتالي وصول عناصر داعش ومفخخاتها إليه بهذه السهولة، وعدم اتخاذ الإدارة الذاتية الاحتياطات الأمنية اللازمة، من خطوط دفاعية أمنية وعسكرية ونقاط وأبراج مراقبة على محيط السجن يجعلنا أمام فرضيات أهمها:
أولاً، أن اغلب الموجودين في هذا السجن هم من القيادات المحلية غير المهمة، وكثيرون منهم متهمون من دون محاكمات ولا ينتمون للتنظيم.
ثانياً، القيادات الكبرى لتنظيم داعش والمؤثرة (الأجنبية) موجودة في أماكن أخرى، يعتقد أنها في سجن الشدادي أو سجون سرية واقعة تحت تصرف قوات التحالف، وهذا مؤشر هام على انعدام ثقة التحالف بقسد بما يخص ملف معتقلي داعش، الذين لطالما اتخذت منهم ورقة ضغط وابتزاز للأوربيين طوال الفترة الماضية، والتهديد بإطلاق سراح من يحملون الجنسية الأوروبية.
ثالثاً، من الناحية العملياتية ليس من السهل اقتحام السجن دون تسهيلات أو على الأقل تواطؤ جزئي من قبل قيادات في قسد أو اختراق التنظيم لها من خلال عناصره السابقين الذين جندتهم قسد ضمن صفوفها بعد سقوط التنظيم ربيع 2019، وهذا يدل على ضعف قسد من الناحية الأمنية والاستخباراتية.
رابعاً، تأتي أحداث سجن غويران في ظل أزمة اقتصادية ومعيشية خانقة قديمة ومتجددة بسبب إغلاق معبر سيمالكا، الذي يعتبر الشريان الوحيد لمنطقة الجزيرة السورية، ومؤشرات تواصل أميركي مع شخصيات اعتبارية وشيوخ عشائر عربية، وحديث يدور حول تشكيل قوة عشائرية لمواجهة الميليشيات الإيرانية في سوريا والعراق، وتعثر المفاوضات بين المجلس الوطني الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي، الذي اتخذ من هذه الأحداث الذريعة لإعادة شرعنة السلاح وتأجيل المطالب المعيشية والخدمية، وامتصاص النقمة الكبيرة عليه من جميع المكونات، والتهديد باتساع رقعة المواجهات مع التنظيم إلى القامشلي والشدادي للحصول على دعم مالي وعسكري من الولايات المتحدة.
خامساً، إذا اعتبرنا أن الموضوع ليس مسرحية وإنما فشل الإدارة الذاتية في إدارة المنطقة بكل ملفاتها السياسية والاقتصادية والإدارية والاجتماعية والأمنية، فهذا لا يعني انتفاء نظرية المؤامرة على المكون العربي، والاستمرار في سياسة التهجير والتغيير الديموغرافي التي انتهجتها قوات “بي واي دي”، وإرسال رسائل لواشنطن والتحالف الدولي بأن الاحياء المجاورة للسجن تمثل حواضن لداعش ولا يمكن الوثوق بالعشائر العربية، وتسويق أنفسهم على أنهم الحليف الرئيسي في محاربة الإرهاب، وما يؤكد هذه النظرية التقارير الإعلامية المشبوهة لبعض القنوات التي اتهمت سكان حيي غويران والزهور العربيين، بأنهما يمثلان الحاضنة الشعبية لتنظيم داعش.
سادساً، أخطر ما في هذا الاستعصاء، هو تمكن المقتحمين من الخارج من التواصل مع المتمردين داخل السجن وإيصال السلاح لهم، وتزامن العملية في وقت واحد في سوريا والعراق، ما يدل على أن هناك قراراً مركزياً على مستوى قيادة التنظيم، وهذا يعطي انطباعاً بأن التنظيم ما زال متماسكا بعد مقتل زعيمه أبو بكر البغدادي وتولي أبو عبد الله الهاشمي الخلافة.
من الصعوبة بمكان وضع سلم المستفيدين من هذه العملية، فجميع الأطراف مستفيدة عدا جمهور الثورة والمدنيين الذين دائماً ما يدفعون الثمن قتلاً وتهجيراً واعتقالاً.
ففي ميزان الربح والخسارة تُعتبر قسد الرابح الأكبر فقد استطاعت توظيف الحدث سياسياً، والترويج إعلامياً لنشاطات التنظيم الذي يُعتبر العدو الضرورة، وربحت التعاطف والدعم الدولي، والتأكيد على استمرار اعتمادها كشريك أساسي أو ربما وحيد في محاربة الإرهاب، وهذا ما بدا جلياً في تصريحات المسؤولين الأميركيين والغربيين.
إيران ترغب من خلال فزاعة داعش بلعب أوراق في مواجهة أميركا، التي تعد العدة لها في سوريا وتعمل على تحييد حلفائها في العراق عبر الدفع باتجاه أغلبية سياسية وطنية بعيدة عن الأحزاب والتنظيمات الطائفية الموالية لها، وتحجيم دور حلفائها المحليين. تريد إيران استثمار هذه العملية لإعادة فتح قنوات التعاون والتنسيق الأمني مع قوات التحالف وواشنطن خاصة، وترسيخ نفسها كشريك في محاربة الإرهاب في العراق وسوريا، وتسويق ميليشيا الحشد الشعبي على أنه الذراع الأقوى في محاربة داعش في العراق.
تأخر التحالف الدولي بالتدخل السريع في الأيام الأولى لاقتحام السجن، ربما يُفسر على أنه رضى أميركي عن هروب بعض القيادات والعناصر غير الخطرة إلى مناطق تواجد النظام وحلفائه الروس والإيرانيين في البادية السورية.
نظام الأسد ومن ورائه روسيا استثمرا ايضاً الحدث لاتهام الإدارة الذاتية بالضعف والفشل، وعدم قدرتها على حماية السكان الرافضين أصلاً لقسد وداعش، واللعب على وتر الخطاب القومي المتطرف لقيادات قسد، مستغلين تردي الخدمات وانسداد الأفق لدى الشباب والحالة المعيشية السيئة التي تعد بيئة ملائمة يمكنه استخدامها لخلق فتنة عربية كردية، في محاولة يائسة لإعادة نفسه كشريك فاعل في إدارة المنطقة.
الصراع في سوريا لم يكن يوماً صراعاً بين المكونات المجتمعية، بل هو صراع بين فاعلين سياسيين لديهم أذرع عسكرية لكل منها حلفاء إقليميون ودوليون يستخدمونهم لتحقيق مصالحهم على الأراضي السورية، وبالتالي التحليل الذي يقرأ المشهد على أنه صراع بين قوميات وإثنيات هو تحليل مشوه بعيد عن حقيقة الصراع الذي يستخدم أطرافه الخطاب القومي والديني والإثني لحشد الشارع خلفه.
المصدر: المدن.