د- عبد الناصر سكرية
قديمة هي الطروحات الانعزالية الانفصالية التي حاولت سلخ لبنان عن إنتمائه العربي بإدعاء إنتمائه إلى هويات أجنبية خارج نطاق الوجود العربي جغرافيا وتاريخيا وثقافيا..كانت البدايات مع التدخلات الأوروبية منذ أواسط القرن السابع عشر حين وقعت الدولة العثمانية- التي كانت كل البلاد العربية ضمن نطاقها الجغرافي والسياسي والقانوني – إتفاقية رسمية مع الدول الأوروبية الست الكبرى آنذاك وهي بريطانيا وفرنسا (أكبر دولتين في النظام العالمي السائد حينها ) وإيطاليا وإسبانيا وروسيا والنمسا..أعطت تلك الإتفاقية للدول الأوروبية الستة حق رعاية شؤون ألأقليات الدينية العربية في نطاق الدولة العثمانية..ومع أنها كانت في أوج قوتها فليس من الواضح تماما لماذا أعطت الدولة العثمانية ذلك الحق للدول الأوروبية التي كانت تعاديها وتواجه تمددها بإتجاه قلب أوروبا..
المهم أن تدخلات تلك الدول في شؤون البلاد والمجتمعات العربية قد إتخذت طابعا رسميا منذ تلك المعاهدة..فراحت تزرع فكرة إستعمارية مؤداها ان تلك الاقليات الدينية والمذهبية لا تنتمي إلى محيطها العربي بل هي أشبه بجاليات تابعة لتلك الدول إستنادا الى مذاهبها الدينية المتوافقة ..إستخدم المذهب الديني غطاء لفرض وصاية أجنبية على أجزاء من ابناء المجتمعات العربية وربطهم بالغايات الإستعمارية المعادية لهوية المنطقة والطامعة فيها بمواقعها ومواردها والخائفة من تحررها ووحدتها..وكانت سورية الكبرى في قلب تلك التدخلات نظرا لوجود تنوع ديني وطائفي ومذهبي فيها ..ولما كان لبنان كله أنذاك جزءا من سورية فقد خضع لتلك التدخلات التي إتخذت من الوجود المسيحي الأصيل فيه ذريعة لتشكيل راس جسر يعبرون عليه بمصالحهم وأطماعهم ومخاوفهم الى قلب المنطقة العربية..
وحينما فتح القائد العربي المسلم ابو عبيدة بن الجراح لبنان وبلاد الشام بعد هزيمة الروم البيزنطيين على يد خالد بن الوليد في معركة اليرموك ، دخل الإسلام إلى لبنان ومحيطه الشامي..كان الوجود المسيحي سابقا في تلك المنطقة على دخول الإسلام..وكانت المسيحية العربية أبرز مكونات المجتمع الشامي المشرقي إضافة إلى المكونات الحضارية الأخرى التي تعاقبت عليه منذ عدة آلاف من السنين كانت غنية بتعاقب الحضارات المحلية التي أنتجت ثقافات وقيما ونظما وتقدما في مجالات كثيرة ..وعلى الرغم من أن جميع تلك الحضارات ولغاتها والشعوب التي انتجتها سواء في سورية – ولبنان ضمنا – وبلاد ما بين النهرين ؛ ذات أصول وإنتماءات قريبة من بعضها وتعود جميعا إلى الجزيرة العربية واليمن ؛ إلا أنها بعد دخول الاسلام وتحررها من الاحتلالين الفارسي والبيزنطي تعربت فأصبحت مجتمعا واحدا له لغته الواحدة هي اللغة العربية التي كانت تطويرا مذهلا لجميع اللغات السابقة عليها..فكانت منطلقا لبناء الحضارة العربية – الإسلامية التي سادت العالم ما لا يقل عن سبعة قرون أو ثمانية..
كانت تلك الحضارة أحد أهم أسباب الحقد الغربي والفارسي على العرب..وحينما إنطلقت تدخلات الأوروبيين في عهد السلطنة العثمانية إتخذت لها هدفا تمثل في سلخ من تستطيع عن هويتهم العربية ليكونوا مطية لها لتفكيك المجتعات العربية وإضعافها وإنهاكها وإبقائها تحت السيطرة..وهكذا راحت فرنسا تتغلغل في الأوساط المسيحية السورية – اللبنانية ( وخصوصا المارونية والكاثوليكية ) وتحديدا عبر المدارس والإرساليات التي تتخذ الغطاء التبشيري الديني لتمرير المطامع السياسية..فكان أن نشرت مقولة أن العرب المسلمين إحتلوا لبنان كما إحتله غيره كالرومان والبيزنطيين …وسوف يتحرر منهم كما تحرر ممن سبقهم ؛ ليعود إلى جذوره الفينيقية ملتحقا بالثقافة الفرنسية الغربية الذي هو جزء منها وصارت فرنسا بمثابة الأم الحنون ..وقد بلغت ذروة هذا التفكير التغريبي المنفصل عن الواقع وحقائق التاريخ والجغرافيا مع بدايات سبعينات القرن العشرين وإندلاع الحرب اللبنانية..وقد سقطت تلك المقولات في مواجهة الوقائع الحياتية وفي خضم الحقائق العلمية والدراسات والأبحاث التاريخية التي تثبت الاصول العربية لكل شعوب ولغات سورية ولبنان وما بين النهرين وحتى الجزائر والمغرب ومصر..
وبعد إغتصاب فلسطين وتأسيس كيان عنصري فيها معاد للوجود العربي برمته ملسميه ومسيحييه وكل ما أطلقوا عليه أقليات وما هي بأقليات بل ابناء أصيلين في المجتمع العربي أيا كانت مذاهبهم الدينية ؛ تفرغ الغرب لرعاية الصهيونية كحركة عدوانية متقدمة يراها أكثر فعالية في تمكينه من السيطرة على البلاد العربية..فتخلى عن إعتماد الدولة المسيحية في مواجهة العرب سيما بعد ان برز نهج مسيحي وطني عروبي يرى أن بقاء المسيحيين مرهون بإستقرار المنطقة وتحررها من كل نفوذ أجنبي ..كما أن مصالحهم الحياتية مرتبطة بالمنطقة العربية ونهضتها وليس بالوجود الأجنبي أيا كان..
وحينما قام الحكم الديني في إيران كان الغرب قد إعتمد فكرة التقسيم المذهبي بين السنة والشيعة بإعتبارهم يشكلون الغالبية العظمى من أبناء البلاد العربية..الأمر الذي جعله يسهل قيام نظام ديني يعتمد العصبية المذهبية كعنصر أساسي في نهج السلطة تتخذه هوية لها وانتماء وغطاء أيضا..وكان هذا يحقق للغرب الاستعماري هدفين أساسيين في غاية الأهمية بالنسبة إليه :
-الأول الاشتغال على تفتيت المجتمعات العربية مذهبيا وتحضيرها لحرب مذهبية سنية – شيعية تدمر الجميع.
– الثاني تشكيل مبرر تكاملي مع حلم ” إسرائيل ” كدولة دينية يهودية..
وحينما توغل التدخل الإيراني في بنية مجتمعات المشرق العربية ؛ بعث من جديد خلاصة تلك الأفكار الإستعمارية الإنعزالية المعادية للوجود العربي والمستندة إلى الهوية المذهبية ؛ فتوجه بخطاب تحريض تقسيمي مباشر الى الشيعة العرب محاولا سلخهم عن محيطهم الوطني وإنتمائهم العربي وإلحاقهم بنظام ولاية الفقيه سياسيا وثقافيا وأمنيا بما يفوق بكثير مجرد التوافق المذهبي .. فكان هذا تماما ما تبناه حزب الله مثلا في لبنان بالإعلان رسميا أنه جزء من جمهورية ولاية الفقيه الإسلامية..فكان خطابه هذا تجديدا للنهج الغربي الإستعماري القديم المتعكز على فكرة الأقليات ..لكنه يستند على قطاع أكبر عددا وأوسع انتشارا وإلتحاما بالبنية الإجتماعية..مما جعله يتناغم مع المنهج الصهيوني الحديث المستند إلى المقولات التفكيكية التي تحدث عنها بإسهاب المستشرق الصهيوني برنار لويس..ولعل هذا هو أحد أسباب التبني الغربي للنهج التفتيتي لنظام إيران الديني المنغلق ..
ومثلما إصطدم المنهج الغربي القديم بحقائق التاريخ والجغرافيا ففشل وإنكفأ ؛ ومثلما عجز النهج الصهيوني عن فرض وجوده كحقيقة تاريخية تنتمي الى مجتمع فلسطين والمشرق العربي ، فإن المنهج الفارسي لنظام الملالي سوف ينهار بعد ان بلغ ذروته قبل عدة سنوات ثم بدأ التراجع والتدهور أمام الإنتماء العربي الأصيل للشيعة العرب ..وهو ما ترجمته إنتفاضة الشباب العراقي وفي طليعته شيعة العراق ضد نظامه وادواته ؛ فها هو يخسر كثيرا من مواقعه في لبنان وتنكشف عوراته بدءا من دوره العسكري – الأمني التخريبي في سورية وتناغمه مع الميليشيات المشبوهة التي إدعى مواجهته لها ؛ وتصديه السافر لانتفاضة ١٧ تشرين اللبنانية الوطنية مدافعا عن سلطة الفساد التي يستند إليها ويحميها ثم دور الثنائي الشيعي في الإعتراف بالكيان الصهيوني عبر محادثات ترسيم الحدود وبعد ذلك فضائح المتاجرة والتهريب والصفقات وصناعة المخدرات التي يجيدها وسخط الراي العام الشيعي الوطني والمتنور والبائس ؛ على سلوكياته ونهجه ودوره في الإنهيار اللبناني الشامل وخصوصا بعد كارثة تفجير مرفأ بيروت.
المصدر: كل العرب