فراس علاوي
يواجه اهالي المنطقة صعوبة تحديد هوية اصحاب الجثث التي يكتشفونها، لانها تعود إلى جنسيات مختلفة من جميع دول العالم، دفنهم التنظيم بعد ان قتلوا في العمليات العسكرية التي استمرت ما يقارب ثلاثة أشهر بشكل متقطع قبيل انطلاق العملية الاخيرة.
“نهنئ الشعب السوري وخصوصاً قوات سوريا الديموقراطية على تدميرها الخلافة المزعومة لداعش”.
مرت نحو ثلاث سنوات على هذه التهنئة التي أعلنها المبعوث الأميركي الخاص لدى التحالف الدولي وليام روباك الذي حضر احتفالاً لـ”قوات سوريا الديموقراطية الكردية” (قسد) في شمال سوريا لمناسبة الإعلان عن دحر تنظيم “داعش”. حينها أعلن مظلوم عبدي القائد العسكري لـ”قسد” انتهاء العمليات العسكرية في آخر معاقل تنظيم الدولة في قرية الباغوز.
إلا أن ما حصل على الأرض قد يجعل من هذا الإعلان فاقداً لقيمته المعنوية والأخلاقية بعد نحو ثلاثة أعوام من إعلانه. خلايا التنظيم لا تزال تنشط بشكل كبير في المناطق التي تقع تحت سيطرة التحالف و”قسد”، وتنفّذ عملياتها بشكل شبه يومي. هذه العمليات تشمل السطو والاغتيال والضغط على الأهالي ليدفعوا زكاة أو غرامات يفرضها عليهم، وصولاً إلى السيطرة على مناطق جغرافية بل ومحاولات اقتحام المعتقلات التي تحوي متهمين بالإنتماء إلى التنظيم.
خبايا كثيرة لم تظهر بعد إلى العلن حول حقيقة العمليات العسكرية وآثارها التي تركتها على الأرض والأسلحة المستخدمة في تلك العمليات.
لماذا الباغوز؟
حتى منتصف عام 2018 لم يكن سوى عدد قليل من السوريين إضافة إلى أهل الباغوز، وعدد من أهالي محافظة ديرالزور التي تتبع لها القرية، قد سمعوا باسم قرية الباغوز التي تقع على الحدود العراقية- السورية شمال شرقي نهر الفرات أو “الجزيرة” وفق التسمية المحلية.
تقسم القرية إلى باغوز “فوقاني”، عدد سكانها ما يقارب 10700 نسمة، فيما يبلغ عدد سكان الباغوز “التحتاني” ما يقارب 35 الفاً، بحسب سكان محليين. هذه الأرقام ليست نهائية إذ لا يوجد إحصاء رسمي لعدد السكان بعد عام 2010، خصوصاً مع وصول عدد كبير من النازحين من مناطق مختلفة في محافظة دير الزور إليها بسبب بعدها من مناطق القصف، بعد خروج حوالى 95 في المئة من المحافظة عن سيطرة النظام نهاية العام 2012. وتتبع قرية الباغوز لناحية السوسة التي يفصلها عن مدينة البوكمال نهر الفرات فقط.
معركة الباغوز
في شباط/ فبراير 2019، أعلنت قوات سوريا الديموقراطية- “قسد”، بمساندة من قوات التحالف الدولي الذي تشكل عام 2014 لمحاربة تنظيم الدولة، هجومها الأخير على قرية الباغوز من أجل القضاء على آخر معاقل التنظيم في سوريا في عملية أطلق عليها اسم “العزم الصلب”.
وكان قد سبقت إعلان انطلاق العملية، غارات لطيران التحالف بدأت منذ عام 2015 بشكل متقطع يستهدف بشكل خاص الشاحنات التي تنقل الأسلحة والمواد اللوجستية للتنظيم عبر مناطق غرب العراق إلى شرق سوريا والتي تعتبر الباغوز أحد المعابر الاساسية فيها.
ولعل السؤال المهم هو لماذا كانت الباغوز آخر معاقل التنظيم في سوريا وربما في المنطقة؟
تعود اهمية الباغوز إلى طبيعتها الجغرافية واللوجستية المهمة بالنسبة إلى التنظيم الإرهابي، وكانت تشكل خياراً استراتيجياَ له لخوض آخر معاركه. طبيعة العمليات العسكرية التي بدأت بالتزامن بين قوات التحالف و”قسد” من جهة، في شمال شرق نهر الفرات، وروسيا وقوات النظام السوري وإيران من جهة ثانية، جنوب نهر الفرات، جعلت تراجع التنظيم باتجاه الشرق منطقياً، وانتهى الأمر إلى وجوده الأخير في منطقة الباغوز على الحدود العراقية- السورية، حيث ينشط التنظيم غرب العراق.
كما أن سهولة التنقل بين غرب العراق وشرق سوريا عبر الحدود بالنسبة لعناصر التنظيم، عززت هذا الواقع. كذلك الطبيعة الجغرافية الصعبة والمكونة من تلال باتجاه البادية ووجود كهوف مقابل نهر الفرات في الجهة الاخرى. هذه العوامل الطبيعية جعلت من القرية خياراً مفضلاَ لعناصر التنظيم الذين تراجعوا بشكل تكتيكي ريثما يتم تجهيز القرية للمعركة الأخيرة، فتم تجهيز الكهوف وبناء ما سمي بـ”مدينة الخيام” على شاطئ الفرات الشمالي المقابل لمدينة البوكمال حيث انجز بناء مخيم كامل لعناصر التنظيم وعائلاتهم مجهز بالخيم والحافلات ومزود بالأسلحة الثقيلة والمتوسطة ونقاط حراسة وتدخل ونقاط طبية. استفاد التنظيم من الموقع الجغرافي للقرية والحدود المفتوحة مع العراق لتجهيزها، وتم تقدير عدد الموجودين في المخيم بأكثر من 10 آلاف شخص معظمهم ينتمون إلى التنظيم.
بدأت العمليات العسكرية وكانت قد سبقتها عمليات تمهيد تمثلت بقصف مدفعي وغارات للطيران على المنطقة وخلال عشرة أيام من بداية القصف سيطر التحالف مع “قسد” على مساحة تزيد على ثلاثة أرباع القرية.
إلا أن وجود أهال غير منخرطين في العمليات العسكرية، فضلاً عن الخسائر التي لحقت بصفوف القوات المهاجمة، أعاق العمليات العسكرية مما أدى إلى توقّفها في 12 شباط/ فبراير حتى الأول من شهر آذار/ مارس، إذ استئنفت بقوة أكبر في الرابع من آذار، لكنها قوبلت بشراسة من قبل عناصر التنظيم المتحصنين جيداً فازدادت الخسائر بين جميع الاطراف الذين يحاربون التنظيم، بمن فيهم المدنيون الموجودون في المنطقة ولم يستطيعوا مغادرتها.
استئنفت العمليات في العاشر من آذار بعدما توقفت ليومين على حدود “مدينة الخيام”، بقصف عنيف ومركّز على المخيم، ما أدّى إلى وقوع عدد كبير من القتلى بين سكان المخيم بينهم عائلات كاملة لعناصر التنظيم. وانتهت المعارك باستسلام من تبقى من عناصر التنظيم بعد فرار كثير منهم بمن فيهم القيادات عبر نهر الفرات والحدود العراقية في 19 آذار 2019.
اعترفت قوات التحالف في بيان عملية “العزم الصلب” في 19 آذار بقتلها أكثر من 300 مقاتل وأسر ما يقارب 5000، وفق بيانات لقوات “قسد” بعد انتهاء العملية، فيما أعلنت عن مقتل 82 من عناصرها وجرح ما يقارب 61 مقاتلاً، فيما أعلن المرصد السوري لحقوق الإنسان حينها مقتل 216 مدنياً في العملية العسكرية.
ماذا بعد انتهاء العمليات العسكرية؟
مذ أعلنت قوات التحالف و”قسد” انتهاء العمليات العسكرية، أعلن التنظيم عن شن أكثر من 500 هجوم في دير الزور وحدها، بحسب معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، أي ان الادعاء بالقضاء على التنظيم لم يكن حقيقياً وإنما تسبب بدمار مايقارب من 85 في المئة من مساكن القرية التي تعاني أساساً من عدم غياب بنية تحتية حقيقية نتيجة تهميشها من قبل الحكومة السورية قبل عام 2011. إذاً كان نشاط التنظيم موجوداً وفاعلاً، ولا يزال، حتى تاريخ إجراء هذا التحقيق والذي تزامن مع الهجوم على سجن غويران انطلاقاً من مناطق في ريف ديرالزور الشرقي، إذ ينشط التنظيم ليلاً في تلك المنطقة ويهدّد العناصر المنتمية “قسد” وكذلك يقوم بجباية الزكاة في المنطقة ويفرض أتاوات على أغنيائها.
تسببت المعارك في مقتل المئات بحسب تصريحات منسوبة لـ”قسد”، لكن الأهالي يؤكدون مقتل الآلاف ودمار شبه كامل للمنطقة.
يعزز رواية الأهالي تحقيق نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية في 14 تشرين ثاني/ نوفمبر 2021 جاء فيه أن مجزرة ارتكبتها طائرات بدون طيار استخدمتها الولايات المتحدة لتعقب مقاتلي التنظيم عام 2019 أثناء معركة الباغوز، استهدفت رتلاً من نساء وأطفال كانوا هاربين من الموت، فقتلت بقنبلتين تزنان 2500 رطل، ما يقارب 70 امرأة وطفلاً، مضيفة ان التقرير تم تعطيله وتأخيره والتخفيف من مفاعيله.
وذكرت وكالة “الأناضول” غي تقرير لها بتاريخ 20/03/2019 أن الجثث مكدسة فرق بعضها بعضاً.
كما ذكر تقرير لقناة RT “روسيا اليوم” أن عدد المقاتلين المتحصنين في آخر جيب كان 150 مقاتلاً، فيما سلّم 400 مقاتل أنفسهم وتم أسر ما يقارب 5000 آخرين، كما تمكن 300 مقاتل من التسلل والهرب عبر نهر الفرات.
في تاريخ 20 كانون ثاني/ يناير 2019، نشر موقع “الشرق نيوز” المحلي تقريراً عن الطفل عمر أنيس الرميح، الناجي الوحيد من أسرته التي قتلت بقصف للتحالف وكان آنذاك في الرابعة.
الباغوز بعد 3 أعوام من المعركة
بدأت الحياة تعود إلى القرية الصغيرة بشكل جزئي، إذ عاد عدد من الأهالي إلى المنازل المدمّرة وقد فقدوا الكثير من أقربائهم وأهاليهم في العمليات العسكرية أو اعتقلوا في سجون “قسد”. وبدأوا، على رغم غياب أي خدمات أساسية كالماء والكهرباء، بترميم منازلهم متحدين المخاطر التي يتعرضون لها.
أبرز تلك المخاطر، مخلفات الحرب، إذ شهدت المنطقة استخدام الكثير من انواع الأسلحة، بعضها لم ينفجر خصوصاً مع الاستخدام المفرط للعبوات البدائية والاحزمة الناسفة والقذائف ذات التصنيع المحلي والالغام المدفونة بدون خرائط واضحة لها، ما تسبب بكثير من الوفيات والإصابات بخاصة بين الأطفال، أدّت إلى بتر أطراف تسببت بإعاقات دائمة.
يقول أبو فايز، وهو اسم مستعار لأحد أهالي قرية الباغوز، ثلاثيني متزوج ويسكن حالياً خارج سوريا، إن القرية أصبحت في أيام “داعش” الأخيرة مستودعاً كبيراً للقذائف والأحزمة الناسفة والعبوات، خصوصاً في المدارس التي كانت مقرات للتنظيم، “كما تم تلغيم الطرق والمعابر المؤدية إليها، ما تسبب في مقتل عدد كبير من الأهالي معظمهم من الاطفال في انفجارات مخلفات الحرب، خصوصاً مع غياب اي جهة تعمل على إزالة هذه المخلفات التي تشكل تهديداً كبيراً للأهالي”. ولعلّ الخطر الأكبر، بحسب أبو فايز، كان “تفخيخ التنظيم المنازل والمدارس والدوائر الحكومية كمحطة المياه ومركز الهاتف، ولا تزال عشرات بل ربما مئات الألغام موجودة من دون معرفة أماكن توزعها بسبب عدم وجود خرائط، ويمكن أن ينفجر أحدها في أي وقت خصوصاً مع استخدام الارض للزراعة وحرثها أو حفر أساسات الابنية او رفع الركام عنها، ومع عدم وجود منظمات دولية توثق ذلك فقد اعتمد الامر على الناشطين، الذين وثقوا بعض هذه التفجيرات التي خلّفت قتلى ومصابين.
أما الخطر الثاني الذي يتهدد ابناء المنطقة، فهو الأمراض الناتجة عن مخلفات الحرب. اذ ينتشر مرض اللشمانيا في قرية الباغوز بشكل واسع، إضافة إلى أمراض اخرى تنفسية وجلدية ويعزو ناشطون انتشار الأمراض والأوبئة خصوصاً الجلدية منها، إلى بقايا الجثث المتحللة تحت الأنقاض.
ابو خالد، وهو اسم حركي لشخص لانستطيع الكشف عن اسمه لضرورات تتعلق بأمنه الشخصي وامن اسرته ومكان عمله، يقول إن هناك مايقارب 400 حالة إصابة باللشمانيا، معظمها بين الأطفال، كذلك هناك أمراض جلدية وتنفسية بين الأهالي يعود سببها لوجود عدد كبير من الجثث المتحللة تحت الانقاض التي لم تتم إزالتها، وكذلك وجود عدد كبير من المقابر الجماعية، على مقربة من سطح الارض. كذلك تم تسجيل عدد من الولادات المصابة بتشوهات خلقية، بسبب غازات منبعثة قد تكون من أسلحة استخدمت حينها. كما يؤدي نقص منسوب نهر الفرات وتلوّث مائه، وانتشار القمامة في الطرق إلى تفشي الأمراض.
المقابر الجماعية
لعل التحدي الأبرز الذي يواجه الجميع اليوم في قرية الباغوز هو المقابر الجماعية المنتشرة بكثرة في القرية.
تحدث إلينا عدد من الأهالي يشكون من الروائح المنبعثة من الأنقاض والتي تحتوي على جثث في طور التحلل.
يعثر الأهالي كل فترة على مقبرة جماعية في المنطقة في محيط لا يتجاوز 10 كيلمترات مربعة، إذ يقدّر عدد الجثث، بحسب أحد الناشطين بأن عدد الجثث يقدر بالآلاف، لكن ليس هناك من عدد دقيق، ويتفاوت تقدير عدد الجثث بين من يتحدث عن مئات وبين من يتحدث عن آلاف، بحسب روايات الأهالي ومن كان موجوداً حينها. كما يتوقع كثيرون وجود مقابر لم يتم إكتشافها بعد، تنتشر بين الأماكن السكنية وبادية الباغوز على الحدود العراقية السورية.
ويواجه اهالي المنطقة صعوبة تحديد هوية اصحاب الجثث التي يكتشفونها، لانها تعود إلى جنسيات مختلفة من جميع دول العالم، دفنهم التنظيم بعد ان قتلوا في العمليات العسكرية التي استمرت ما يقارب ثلاثة أشهر بشكل متقطع قبيل انطلاق العملية الاخيرة.
وعلى الرغم من ضعف الامكانيات وصعوبة العمل والعدد الهائل للمنازل المدمرة والطرقات والمنشآت التي لحقها التدمير بنسب متفاوتة، وكذلك افتقار المنطقة لأي خدمات مساعدة وكذلك انتشار الأمراض والمقابر الجماعية والمخاطر الأمنية المتمثلة بمخلفات الحرب وكذلك الفوضى الأمنية ونشاط عناصر التنظيم، تقوم عدد من منظمات المجتمع المدني، أبرزها منظمة “أمل الباغوز” ومنظمات “نون” و”عطاء الباغوز” و”دورين”، بدور فعّال لإعادة تأهيل القرية من خلال محاولات ترميم المدارس وتقديم الدعم النفسي للأطفال ومحاولة دمجهم في عمليات التعليم وكذلك تنفيذ مشاريع خدمية ومشاريع الري من أجل تثبيت عودة الأهالي إلى المنطقة ودعم سبل عيش الأهالي، وكذلك محاولات رفع الأنقاض وإزالة الجثث وتوفير مياه الشرب النظيفة وتجفيف المستنقعات ودعم المراكز الصحية، خصوصاً أن المنطقة تشهد انتشار الأمراض كما ذكرنا سابقاً.
لكن معوقات كثيرة لا تزال تواجه الأهالي في سعيهم إلى إعادة الحياة إلى طبيعتها في قريتهم، أبرزها الفوضى الأمنية ونشاط عناصر التنظيم، الذي يثير مخاوف الأهالي، فضلاً عن مخلفات الحرب القابلة للانفجار، والبنية التحتية المدمّرة، وانتشار المقابر الجماعية ورائحة الموت، وعدم توفر مياه الري بعد جفاف نهر الفرات وتلوّثه.
ويتوجه الأهالي بالنداء إلى المنظمات الدولية وإلى قيادة التحالف الدولي والادارة الذاتية في “قسد” للاهتمام بالبلدة الصغيرة، التي هزمت “داعش” بحسب عناوين نشرات الأخبار، وشهدت إحدى أبرز معارك أميركا في الشرق الأوسط، في زمننا الراهن. لكن رائحة الموت لا تزال تفوح من المدينة: “جثة” تنظيم داعش لم تتحلل بالكامل. وهذا يبعث على الخوف والريبة.
المصدر: درج