رياض قهوجي
يعتبر الباحثون في الأمن الدولي أن أشرس أنواع الحروب الأهلية هي الحروب الإثنية – الدينية، والمعروفة أيضاً باسم الحروب الطائفية أو المذهبية. وتشير دراسات أجريت على مجتمعات شهدت حروباً أهلية طائفية أو مذهبية الى أن هذه المجتمعات تطغى فيها الهوية الفئوية الدينية على الهوية الوطنية، ويصبح أعضاء كل مجموعة طائفية أو مذهبية أتباعاً مخلصين لقادتهم السياسيين والدينيين. والمثير في الموضوع، بحسب الباحثين، أن كل ديانة لها تبريرها للحرب والسلم، ما يسهل عمل قادة هذه المجموعات في استخدام مقتطفات وأحاديث دينية لتجييش مشاعر أتباعهم ودفعهم لارتكاب أبشع الجرائم ضد جيرانهم وأبناء بلدهم من الطوائف أو المذاهب الأخرى. وقادة هذه الطوائف أنفسهم، ولأسباب ومصالح شخصية وسياسية، هم من يستطيع خفض حدة النزاع متى شاؤوا واستخدام شعارات دينية لتشجيع التصالح مع أبناء الطوائف والمذاهب الأخرى وإحلال الاستقرار.
ليس هناك لبناني لا يستطيع أن يقارب هذا الواقع لبلده اليوم، إذ تمكن القادة السياسيون، عبر استخدام الرموز والشعارات الدينية، من تقسيم أبناء البلد الواحد، مجدداً، الى مجموعات طائفية ومذهبية، بعد أن تمكنوا من العيش بسلام لفترة من الزمن بعد انتهاء الحرب الأهلية عام 1990، وأقدموا في 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019 على الانتفاضة ضد الزعامات السياسية تحت شعار “كلن يعني كلن”، ما دفع بهذه الزعامات للعودة الى الخطاب الطائفي بقوة.
وتشير الدراسات في الأمن الدولي الى أن الشعوب التي تشهد حروباً أهلية دينية معرضة دائماً للعودة الى هذه الحروب، إن لم تتمكن المنظومة السياسية فيها من التحول الى كيان تشعر فيه مكوّناتها جميعها، الكبيرة والصغيرة منها، بأنها تتمتع بحقوق متساوية مع الجميع وغير مهددة من أي طرف داخلي آخر. وبما أن زعماء الطوائف في لبنان متمسكون بالمنظومة المذهبية – المناطقية الحالية والتي تلبس قناع الدولة الديموقراطية، فإن شبح الحرب الأهلية سيبقى دائماً مخيماً فوق رؤوس أهل البلد.
وإذا ما أردنا أن نستعير التعابير التي يستخدمها البحاثون في الأمن الدولي ونطبقها على لبنان، فإن البلد اليوم مقسوم بين السنة والشيعة انقساماً أفقياً حاداً، في حين أن الساسة المسيحيين والدروز منقسمون بين حليف للسنة وآخر للشيعة، بينما القيادة الدينية المسيحية تدعو الى الحياد. وبحسب موازين القوى على الأرض، فإن الشيعة اليوم هم الطرف الأكثر قوة وتنظيماً وجاهزية لحرب أهلية، في حين أن الأطراف الأخرى منقسمة وفي حالة ضياع، لكن في حالة خوف شديد، ما يجعلها قنبلة موقوته ستنفجر بوجه من يعتقد أنه يسيطر على الموقف. لماذا وكيف وصل لبنان الى هذه الحالة، هذا موضوع جدال، لكن يمكن اختصاره بلجوء القيادات الداخلية الى قوى إقليمية لتستمد منها القوة ضد نظرائها في الداخل لتحسين موقعها السياسي والشخصي.
وهناك فارق أساسي في واقع النزاع الطائفي اللبناني اليوم مع ما شهده في الماضي، أو أقله منذ استقلاله عام 1943. ففي النزاعات الداخلية الطائفية السابقة، كان الخلاف غالباً على الحصص في السلطة وانتماء لبنان وهويته، أي هل هو عربي أم غربي الهوى أم يساري. لكن لم يكن هناك رفض وطمس لهوية لبنان وثقافته التعددية كما يحدث اليوم. فقيادة “حزب الله” وتناغماً مع أيديولوجيا الثورة الإسلامية الإيرانية، تركز على تجييش الهوية الشيعية للفرد الى أقصى الحدود، وفصلها كلياً عن الهوية الوطنية التي ينتمي اليها. فهي تدرك أن تنامي الروح الوطنية للفرد سيكون على حساب أيديولوجيته الدينية، وبالتالي فليس من مصلحتها السماح بتعزيز هذه المشاعر والسماح لحكومة مركزية لبنانية بأن تكون قوية وفاعلة، بحيث يستغني المواطن الشيعي عن خدمات الحزب.
فخطابات الأمين العام لـ”حزب الله” تبدأ بكلمات تهدف لشد العصب الشيعي، والشعارات والصور التي تظهر في الخلفية تحمل رمزية لقيادة الثورة الإيرانية والعقيدة الشيعية، وجمهور الحزب لا يحمل أي أعلام لبنانية، وصرخاته في المواجهات في الشوارع والتظاهرات باتت مشهورة “شيعة شيعة”. وبالرغم من وجود حركة “أمل” كتنظيم شيعي آخر يشكل شريكاً في ما يعرف بـ”الثنائي الشيعي”، إلا أن مركز الثقل والطرف الأقوى باعتراف الجميع هو “حزب الله”.
وبالرغم من أن هناك صراعاً قديماً بين الطرفين على قيادة الشيعة في لبنان، فإن ارتفاع وتيرة الانقسام المذهبي والطائفي في البلد هو ما يعزز وحدة الطرفين. الخطاب الإعلامي للحزب في ما يخص الدولة اللبنانية هو أنها كيان عاجز ومسؤول عن مآسي المواطنين الشيعة، إذ لم تحمهم من الاعتداءات الإسرائيلية وحرمت مناطقهم من حقوقها، وعاجزة أو حتى متآمرة مع الغرب بفرض حصار عليهم. وفي الوقت نفسه يفرض “حزب الله” نفسه في كل قطاعات الدولة ليوفر لنفسه غطاءً سياسياً يعطيه شرعية دولية، ويسهل على إيران ممارسة نفوذها في لبنان وعبر لبنان الى دول أخرى في المنطقة.
الأحزاب الدينية الأخرى في لبنان تلعب لعبة شد العصب الطائفي، لكن لا تمحو الهوية اللبنانية، بل تحاول استمداد شرعيتها من أنها هي من يعكس ويجسد الثقافة اللبنانية الحقيقية ويحميها. فالأعلام اللبنانية تنتشر في مناسبات هذه الأحزاب، وتكون في خلفية خطابات زعمائها التي تسترجع تاريخ قياداتها في لبنان. حتى أن أحد أهم أسباب تراجع مكانة الرئيس سعد الحريري كزعيم للسنّة في لبنان وانسحابه أخيراً هو أنه لم يع لعبة زعماء الطوائف جيداً، ولم يمارس قواعدها في ساعات الذروة والتي تقتضي أن يقدم مصالح الطائفة على المصلحة الوطنية. وما زاد الطين بلّة بالنسبة إليه أن الصراع الطائفي الداخلي له بعد إقليمي، ما ضاعف من حجم خسائره داخلياً وخارجياً. فسعد الحريري حاول أن يمضي بإرث والده كزعيم وطني ولم يبن مؤسسات مذهبية، بل كانت مؤسسات “المستقبل” تضمّ سنّة وشيعة ومسيحيين، وهو ما ليس موجوداً في مؤسسات الأحزاب الطائفية والمذهبية الأخرى في لبنان. فلقد فات سعد حينها أن الواقع الداخلي والإقليمي زمن والده بات مختلفاً عن الحالي.
إلا أن تنامي الخطاب المذهبي من جانب “حزب الله” ومن أحزاب مسيحية ودرزية أخرى، لم تقابله محاولة جدية من الحريري لشد عصب الطائفة، بل كان كريماً جداً في تقديم التنازلات لتسهيل المبادرات التي استفاد منها “حزب الله” وحلفاؤه. كما أن القوة الاقتصادية التي كان والده يكرّسها لخدمة الطائفة والوطن اضمحلت وأقفلت المؤسسات الواحدة تلو الأخرى، حاجبة ثقة الجزء الأكبر من الطائفة وحتى الوطن. وفيما استثمر “حزب الله” بتأسيس شركات تديرها شخصيات شيعية تابعة له تدر عليه أموالاً طائلة، مكّنته من تأمين غطاء اقتصادي لأبناء بيئته خلال الأوضاع الاقتصادية الصعبة، استغلت شخصيات قريبة من الحريري مواقع النفوذ لتزداد ثراءً، حتى بات بعضها أغنى من الحريري شخصياً، ولم يستفد أبناء الطائفة السنية والوطن أي شيء من هذه الأموال.
وبعدما كان السنّة يمثلون القوة الاقتصادية الموازية للقوة العسكرية للشيعة أيام الرئيس الشهيد رفيق الحريري، باتت القوتان الاقتصادية والعسكرية اليوم بيد الشيعة.
أمّن سعد الحريري بسياساته توازناً مهماً لـ”حزب الله” أبقى السنّة في لبنان في حالة خمود. أما الآن وهو خارج اللعبة فإن الساحة السنّية التي يعاني جزء كبير منها من فقر وحرمان شديدين، مفتوحة لبروز أو دخول زعامات سنية ستستخدم خطاباً متشدداً لتقابل خطاب “حزب الله”. فالشخصية التي ستهاجم الحزب بشراسة، ستحظى بانتباه الناخب السني المستعد للانتخابات، بغض النظر إن كانت تملك أموالاً أو لا. طبعاً المال سيفعل فعله لكن فقط مع خطاب يشعر الناخب السني بأن هناك من سيحمي حقوقه ومستعد لمواجهة “حزب الله”.
وإذا لم تؤد العملية الديموقراطية في الانتخابات المقبلة الى تصحيح الوضع وإعادة التوازن الطائفي الداخلي، فإن الوضع مرشح لمزيد من التصعيد، حيث الشعور بالخوف والحرمان والمظلومية قد يؤدي الى عمليات تسلح وظهور ميليشيات داخل الطائفة السنية، وهو ما لم يكن موجوداً خلال الحروب الأهلية السابقة. أما المؤسسات الأمنية والجيش فهي اليوم تحت ضغوط شديدة لتحمي دولة فاسدة تحتمي خلفها الدويلة، وبالتالي لن تستطيع أن تبقى طرفاً محايداً متفرجاً الى الأبد. هذا في وقت تختفي بعض المحاور في المنطقة وتظهر تحالفات جديدة ستخلط الأوراق وتؤثر في تحركات القوى الداخلية في لبنان سنّة وشيعة. باختصار، الوضع غير مطمئن.
المصدر: النهار العربي