د- عبدالله تركماني
بعد أكثر من ستة عقود على الاستقلال الوطني لم تستطع الدول المغاربية أن تصبح فريقاً متجانساً، وهو الأساس الذي قامت عليه غالبية التجمعات الإقليمية، بل يبدو أنها تتعايش مع أزماتها. مما يطرح أسئلة جديدة، تتطلب تشخيصاً للأزمة، وذلك لبلورة اقتراحات مناسبة للمعطيات الراهنة. ففي المنطقة المغاربية متغيّرات جديدة وأسئلة جديدة، تتطلب تشخيصاً معمّقاً للتحديات ولكيفيات التعاطي المجدي معها، إذ نواجه مجموعة من التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية تدعو إلى تجنّب المآزق والأزمات المعطِّلة لمشاريعنا في الإصلاح والتنمية. وهو الأمر الذي يستدعي الدفع بمشروع الاتحاد المغاربي خطوات إلى الأمام، من أجل تعزيز آليات التعاون لما يخدم مصالح الشعوب المغاربية. كما يتطلب الكثير من المساعي القادرة على تجاوز تركة الماضي، للتمكّن من بناء الروافع المساعدة على تأسيس حقبة جديدة في تاريخنا المعاصر.
أولاً – أهم التحديات التي تواجه المنطقة المغاربية
في محاولتنا معرفة أهم التحديات التي تواجه الدول المغاربية وجدنا أنها تتركز على الخصوص في: البطالة، والفقر، والهجرة، والإرهاب، وضعف الأداء الاقتصادي، ومحدودية التنمية الإنسانية، وإشكاليات الصحراء الغربية، وتعثّر الاتحاد المغاربي. ويمكن الحديث عن التحديات التالية:
(1) – ضعف الأداء الاقتصادي، إذ أظهرت إحصاءات اقتصادية أنّ دول الاتحاد المغاربي تخسر ما يزيد عن عشرة مليارات دولار سنوياً، أي ما يعادل نحو 2 في المائة من ناتجها القومي الإجمالي، بسبب تعثّر قيام سوق مغاربية مشتركة، واستمرار الاعتماد على الأسواق الأوروبية في تسويق الصادرات واستيراد المواد الضرورية. وبحسب المعطيات التقديرية لا تتجاوز التجارة البينية بين دول المغرب العربي نسبة 5 في المائة من مجموع تجارتها مع الاتحاد الأوروبي.
ومن الواضح أنّ كثافة الحواجز الجمركية وثقل أعباء الإجراءات الإدارية، فضلاً عن غياب خطوط النقل الحديدية والبرية الحديثة، شكلت كلها عناصر أثنت المستثمرين الأوروبيين عن التوجه إلى الضفة الجنوبية للمتوسط، فيما هم يتجهون بكثافة إلى أميركا اللاتينية وآسيا وأوروبا الشرقية.
والأخطر من ذلك، أنّ علاقات الأقطار المغاربية مع أوروبا وأميركا تطغى عليها ذهنية المنافسة بحثاً عن امتيازات خاصة، ما أضعف موقعها التفاوضي فردياً وجماعياً، ومنح الأطراف الأخرى هامشاً كبيراً للمناورة وابتزاز تنازلات ما كانت لتحصل عليها لو كانوا متضامنين.
(2) – تفاقم حالة استنزاف الموارد المالية والبشرية المغاربية، فأموالنا مستمرة في التدفق نحو المراكز العالمية الكبرى، إما ردّاً لديون متراكمة وإما تسديداً لثمن سلاح.
(3) – أزمة المشاركة، وهنا لا نريد أن نثير الجانب السياسي من المسألة بشكل مباشر، بل جانب إشراك كل الناس، وكل فئات المجتمع في أية عملية تنموية فعلية وصحيحة، لأنه من أول شروط تحقيق التنمية واستدامتها، مشاركة أبناء المجتمع كافة فيها، مشاركة الناس في نقاش الخيارات المتاحة، وشعورهم بأنّ لهم دوراً ورأياً وحضوراً في هذه المسألة، بل شعورهم بأنّ هذه العملية تمثل تطلعاتهم ومصالحهم في الحاضر والمستقبل.
(4) – هيمنة المركزية وضعف الحياة البلدية أو المجالس المحلية، إذ تتميز الأنظمة الإدارية المغاربية – بشكل عام – بهيمنة أجهزة الدولة المركزية على حياة الهيئات المحلية من بلديات ومجالس أو إدارات مستقلة، وبضعف اللامركزية الإدارية.
(5) – ضعف حضور دولة الحق والقانون، فمسألة تعادل الفرص والمساواة أمام القانون مسألة حيوية جداً، وهي تشعر المستثمرين والمواطنين بالطمأنينة والاستمرار في عملية التنمية، وبدونها يسيطر جو من انعدام الثقة بين المواطنين وأجهزة الدولة، وهو ما يولّد قلقاً اجتماعياً عميقاً يعيق أية عملية تنموية فعلية.
(6) – تعثّر الاتحاد المغاربي، فقد ترتب على تأسيس الاتحاد المغاربي في العام 1989 إبرام حوالي 37 معاهدة تتعلق بمجالات مختلفة، كان من المفترض أن تُكرِّس توحيد السوق المغاربية وإنشاء اتحاد جمركي وإلغاء الحواجز بين بلدان الاتحاد وتكريس بطاقة هوية موحدة. لكنّ الاتفاقات لم تُنفَّذ، بل جُمِّدت هياكل الاتحاد.
(7) – إشكاليات الصحراء الغربية، إذ عانى المشروع المغاربي، الذي انبثق من ديناميكية حركة التحرر الوطني في خمسينيات القرن الماضي، منذ بداية حقبة الاستقلال من صراع المحاور الداخلية، الذي تركز في التنافس المغربي – الجزائري داخل الدائرة الإقليمية وامتداداتها عربياً وأفريقياً. ولم يكن اختلاف نماذج الحكم والخيارات الأيديولوجية والتوجهات الاقتصادية هو العائق الأساسي الذي حال دون نجاح الاندماج المغاربي، بل إنّ المشكل المحوري الذي اعترض هذا المشروع هو التضارب القائم بين الطرفين المركزيين في الاتحاد، من حيث العلاقة الثنائية والملفات الإقليمية، مما تمتد جذوره إلى ما هو أبعد من موضوع الصحراء، مع الإقرار بأنّ هذا الموضوع هو بدون شك العقدة المستعصية اليوم في الرهان المغاربي.
ومن المفارقات الملفتة أنّ الجزائر والمغرب ملتزمان علناً بالإبقاء على الاتحاد المغاربي وتطويره وتفعيله كفضاء للحوار والتكامل الاقتصادي والاندماج الإقليمي، غير أنه لا يمكن الحديث عن فضاء بهذه الأهمية الاستراتيجية مع استمرار الحدود المغلقة بين دولتين جارتين تشكلان مركز الثقل في البناء المغاربي، والحال أنّ تأثير هذا الوضع غير الطبيعي ينسحب سلباً على المنطقة المغاربية برمتها، ولم يعد مقبولاً من الطرفين انتهاج سياسات سلبية يتضرر منها شركاؤهما في الاتحاد المغاربي.
(8) – ضعف التنمية الإنسانية، إذ ثمة مؤشرات كثيرة تدل على ضعف عملية التنمية الإنسانية المغاربية، والجزء الظاهر من هذه المشكلة يتمثل في الفقر واللامساواة، فإلى جانبه هناك مؤشرات كثيرة: ضعف مستوى الرعاية الصحية، وتراجع واضح في فرص التعليم الجيد، وضعف في سياسات الأمان الاجتماعي.
ثانياً – كيفيات التعاطي المجدي مع التحديات
إنّ المنطقة المغاربية لا تحتاج إلى مغامرات، وإنما إلى قناعات تشدها إلى واقع أنّ المعركة من أجل الديمقراطية والتنمية والتكيّف مع تحولات العالم المعاصر لا ينبغي أن يعلو صوت فوقها.
إنّ الأكثر أهمية في استيعاب دروس الإخفاقات المغاربية أن يُنظَر إلى الفرص، التي كان يتيحها الاتحاد المغاربي، على صعيد النهوض بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لشعوب المنطقة، كي لا يظل الحديث عن اتحاد كهذا مجرد ترف فكري وسياسي.
- – من المؤكد أنه لا حلول سحرية، ولا بدائل معلّبة، لكنّ الانطلاق الحقيقي والشجاع في التعاطي المجدي مع التحديات المغاربية، يبدأ بإقامة نظام تعددي ديمقراطي سليم، يؤسس لدولة الحق والقانون، ويضعها تحت الرقابة والمحاسبة والمساءلة، ويقرُّ استقلال القضاء وتداول السلطة واحترام الآراء المتعددة والمختلفة، ويطلق حرية الصحافة والرأي والتعبير.
(2) – عمق العلاقة بين التنمية والديمقراطية، إذ إنّ الإنسان المغاربي هو العامل الحاسم والمحرّك في عملية التنمية المستدامة، فبقدر ما تتاح له الفرص لتطوير القدرات الكامنة فيه، وبقدر ما تتوفر له الحوافز لتوظيف هذه الطاقات في الأوجه الصحيحة بقدر ما يتمكن من استخدام الموارد المتاحة لتحقيق تنمية حقيقية ذات أبعاد إنسانية. من هنا تأتي أهمية الديموقراطية، فهي بإفساحها في المجال أمام المواطنين للمشاركة في صنع القرار تمكّن من وضع الحاجات الإنسانية في مقدمة أولويات عملية التنمية.
- – إنّ المطلوب من الدول المغاربية لمواجهة التحديات التنموية أن تعيد صياغة توجهات ومسار التنمية المغاربية، بما يساعدها على الاستفادة المتبادلة من الإمكانيات والموارد المتوفرة لديها ككتلة إقليمية قادرة على الاستمرار والتواصل، وتطوير التعليم التكنولوجي وتضييق الهوة ما بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل وفقا للتطور العلمي والتكنولوجي، وهذا يتطلب توفير بيئة سياسية وأمنية مناسبة مستقرة، تحمي الطبقات الفقيرة وتحفظ حقوق الإنسان الأساسية وتلتزم بقيم العدل والمساواة وتحفظ استقلال الوطن وأمنه وتؤمّن مستقبله ومستقبل أجياله. كما يتطلب تنسيق التشريعات المالية والاقتصادية وفتح الحدود أمام التجارة البينية، وإنشاء سوق استهلاكية مشتركة تزيد جاذبية المنطقة في مجال استقطاب الاستثمارات الأجنبية، تؤدي على المدى المتوسط إلى تعزيز تكامل اقتصادي حقيقي بين دول المنطقة، تقلّص تبعيتها الخارجية وتوفّر لديها سيولة أكبر للإنفاق على التنمية. خاصة أنّ المنطقة تمتلك شروط التكامل بين الطاقة والزراعة والمعادن والسياحة والصناعة والخدمات، ما يجعلها مستفيدة من الوضع الدولي بسبب موقعها الجغرافي وانفتاحها الثقافي في الفضاء الأورو – متوسطي.
- – يمكن للدول المغاربية، إذا رغبت وصممت، أن تغيّر الوضع القائم وتقود المسيرة نحو تحقيق الأهداف المرجوة بتبنّي إدارة حكم جيدة، وسياسات إصلاح عادلة لصالح الفقراء والطبقات الوسطى، وإدارة موارد نشطة وفاعلة، وتحديد أولويات واضحة ودقيقة للتنمية، وتبنّي برامج الإصلاح الاقتصادي القادرة على خلق فرص عمل تمتص الداخلين إلى سوق العمل، وتستقطب نسباً متزايدة من صفوف العاطلين عن العمل، ومعالجة الفجوات بين المدن والأرياف.
(5) – في سياق كل ذلك فإنّ الاعتماد على الذات مغاربياً يحتاج إلى حرية انتقال عوامل الإنتاج المغاربية من رؤوس أموال وقوى عاملة ومنتجات، كما يحتاج إلى ترشيد العلاقات الاقتصادية مع العالم الخارجي ووضعها على أسس متكافئة نسبياً، بحيث يمكن تحقيق مزايا جماعية للأقطار المغاربية من خلال:
– نقل وتوطين التقنية والمعرفة العلمية بالشروط الملائمة.
– تنمية القدرات الذاتية وتوسيع إمكانات التصنيع المحلية.
– تنمية الصادرات المغاربية المتنوعة وتقليص الاستيراد من البلدان الأجنبية إلى حده الأدنى، وزيادة حجم التجارة المغاربية البينية والتبادل التجاري مع الدول النامية.
وهكذا، فإنّ التنسيق والتكامل المغاربيين يمكن أن يخلقا إمكانية تنمية حقيقية تلبي الحاجات الأساسية للشعوب المغاربية، وتضمن استقلال الإرادة المغاربية. إذ أنهما ينطويان: أولاً، على إمكانية تطبيق مبدأ الميزة النسبية بالنسبة إلى إنتاج كل من الأقطار المغاربية، وما يترتب على ذلك من زيادة في الكفاءة الإنتاجية، وذلك بأن يتخصص كل قطر في إنتاج السلع التي يتمتع فيها بالكفاءة الإنتاجية. وثانياً، زيادة فرص التوظيف الكامل، فبعض البلدان المغاربية تعاني من انتشار البطالة، بينما يعاني بعضها الآخر من نقص الأيدي العاملة.
وثالثاً، تقليل المخاطر الناجمة عن التنافس في التجارة الخارجية بين الأقطار المغاربية ذات الإنتاجية المتشابهة، وما يستتبع ذلك من زيادة في قدرة هذه البلدان على المساومة للحصول على أسعار أفضل وشروط أفضل في تسويق حاصلاتها.
إنّ المسألة ذات التأثير البالغ على مستقبل التنمية المغاربية تتمثل في عدم الفصل التعسفي بين السياسة والاقتصاد، فالكثير من أسباب فشل التنمية يعود إلى الوهم بإمكان تعجيل التنمية الاقتصادية في غياب تحرك واضح في اتجاه التحديث السياسي. وثمة قضية هامة أخرى تتمثل في الموقف من القطاع العمومي، إذ أننا نعتقد أنّ أية تنمية مغاربية ناجحة في المستقبل مرهونة بالمحافظة على دور هذا القطاع في الاقتصاد الوطني، خاصة في المشاريع الاستراتيجية. إذ أنه لابدَّ من تدخّل قوي لسلطة الدولة في وضع المعايير والقوانين والسياسات، وفي جمع الموارد المالية وتوزيعها، وفي إعداد البرامج الاجتماعية ومراقبتها من أجل ضمان الرفاهية للشعوب المغاربية.
- – تفعيل الاتحاد المغاربي، الذي حمل إعلانه لمختلف شعوب المنطقة الكثير من الأحلام والآمال بأنّ المنطقة المغاربية باتت على وشك تغيير جذري في واقعها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي، وهو مشروع طموح في ظل مختلف التكتلات الإقليمية والدولية ذات الصبغة الاقتصادية والسياسية والأمنية القائمة في العالم، قبل أن يتضح، على مدى مسيرة الاتحاد، أنّ كل تلك الآمال كانت مجرد سراب، بعد أن ظل الاتحاد عاجزاً عن تلبية الأهداف التي جاء من أجلها، وذلك في ظل استمرار تباين مصالح الدول المغاربية المعنية وتباعدها أمام توفر فضاءات إقليمية أوسع، قد تغري الدول المغاربية بالسعي لتحقيق مصالحها الاقتصادية والتجارية وغيرها مع القوى الأقدر على فرض موقعها على الساحة الدولية، سواء في علاقاتها الثنائية مع الدول الأوروبية، أو حتى ضمن الفضاء الأورو – متوسطي، أو كذلك الفضاء الأمريكي، أو حتى الفضاء الآسيوي.
إنّ بناء الاتحاد المغاربي هو طموح شعبي لسكان المنطقة، وأي تجاهل لهذا الطموح هو ازدراء بالرغبة الجماعية للتوحد. وهو يشكل فرصة نادرة لتنمية المنطقة وتحقيق الرفاهية لشعوبها. وبالمقابل، فإنّ غياب مغرب موحد هو فشل اجتماعي- اقتصادي بالنظر إلى الفرص التي يتم تضييعها وعدم استغلال عوامل التكامل.
كما أنّ بناء الاتحاد المغاربي هو كذلك حاجة أمنية ملحة، بالنظر إلى الأخطار المتعددة التي تحيط بالمنطقة وبأمنها الجماعي واستقرارها من قبيل الإرهاب والهجرة غير القانونية وتهريب البشر والمخدرات والأسلحة، وهي أخطار عابرة للحدود ولا يمكن لأية دولة بمفردها مواجهتها في غنى عن التنسيق والتعاون مع الدول الأخرى، إنه خطر واحد يستوجب استراتيجية موحدة وتنسيقاً وتشاوراً وتحركاً جماعياً. وهكذا، ما عجز عنه الاتحاد المغاربي سياسياً واقتصادياً قد يبدأ في إنجازه أمنياً، شرط أن يرتبط الأمن بالسياسة والاقتصاد، ومعاودة انبثاق الدور الغائب لمنطقة يقارب سكانها 100 مليون ساكن.
(*) – مقاربة تأليفية قُدمت في إطار ملتقى مغاربي ” أونلاين “، بدعوة كريمة من ” جمعية البحوث والدراسات من أجل اتحاد المغرب العربي “، خلال يومي 26 و27 شباط/فبراير 2022.