مصعب عيسى
بعيدا عن دمشق وبغداد وصنعاء والقدس وطرابلس تلك العواصم التي تلونت بالدم والخراب وتوشحت بالسواد لعقود مضت ولا تزال.
وقريبا من حدود ( العالم المتحضر ) ذو البشرة البيضاء والعيون الزرق
يعيدا عنا وقريبا منهم اندلعت الحرب أخيرا وراحت أدوات القتل تجوب الشوارع والسماوات لتغطي الاسفلت بركام وشظايا وجثث ودمار.
مشهد أصاب العالم كله بدهشة وصدمة وكنت انا ممن وقف حائرا امام ماجرى ويجري وربما سيجري لوقت أطول.
حيرة فتحت للاحتمال والسؤال مصراعيه امام تجاربنا العربية والوطنية ( فنحن السابقون وهم اللاحقون )
سرعان ما اكتظت وسائل الاعلام ومواقع التواصل بنقل ما يحدث عند حدود القارة الأوروبية وكنا كعادتنا كعرب تستهوينا فوبيا الخندقة والاصطفاف وهي فوبيا لم تغادرنا منذ الزمن العربي الأول حين كنا قبائل متصارعة امام الفرس والروم واليوم يعيد المشهد والتاريخ نفسه .
هذه الفوبيا الاستعراضية اوجبت علينا طرح سؤال صغير وكبير بنفس الوقت اين نحن مما يجري وما محلنا كعرب من الاعراب ؟
لست بصدد سرد تاريخ وسياسات الدول المتصارعة في أوكرانيا فلكل مقام مقال لكني بصدد طرح نقطتين ربما تعيدنا الى دائرة قضايانا الوطنية وتخفف عنا موروث الاستنزاف الذي حرفنا عن هدفنا الجلل وغاياتنا السامية في التحرر والعدالة الاجتماعية نحن الموبوؤون والموصفون بدول العالم الثالث كما أرادوا لنا ان نكون …
يقول فلاديمير لينين ( اذا خيرت بين اليمين واليمين …ساختار معركتي )
بين روسيا اليمينة المتطرفة اجراما وخرابا شهدت عليه الشيشان والبوسنة واخرها سوريا في تلك البلاد كانت روسيا تعيث خرابا ودمارا وموتا متعدد الوصفات
وأوكرانيا والعالم المتحضر الذين سبقوا روسيا بالقتل والاجرام في فلسطين وفيتنام والعراق وأفغانستان وليبيا وسوريا .
بين أولئك وهؤلاء اندلعت الحرب أخيرا بين يمين بربري ويمين متحضر راحت نيران المدافع والصواريخ تحصد روح الحياة وتنجب مزيدا من الخراب واللجوء وراحت الة الكتابة العربية تتخندق مجددا وتصطف بانتظام خلف احد اليمينين تارة بالتصريح وتارة بالتلميح وتارة بالتلويح استعدادا للالتحاق بجبهات القتال الروسية او الأوكرانية وهنا لا اتحدث عن التضامن مع ضحايا الحروب واللاجئين فانا وريث تغريبتين فلسطينية سورية ووريث نكبيتين واكثر وابن لثورتين .
التضامن هو واجب انساني مع كل مظلوم لكن حين يكون المظلوم ظالما بنفس الوقت فهذا انفصام فكري اعيد تنصيبه على نقسي قبل الاخر وعلى كثبر من أبناء فلسطين الذين رفضوا او انشقوا عن احزابهم السياسية لازدواجية المعايير السياسية لدى تلك الأحزاب.
وهذا ما يحدث حقيقة في هذه الازمة الحالية فاذا كانت روسيا قاتلة ومجرمة في سوريا والشيشان وغيرها فقد سبقتها عدوتها أوكرانيا في القتل حين كانت ضمن القوات الدولية التي عاثت خرابا ودمارا في العراق.
ناهيك عن الازدواجية التي يعانيها كثير من الاوكران في مشهد مثير للسخرية والظلم بنفس الوقت حين تظاهر مئات المستوطنين الاوكران في تل ابيب ضد بوتين واجرامه واحتلاله لارضهم ناسين او متناسين انهم يتظاهرون فوق ارض ليست ارضهم وانهم مستعمرين ومحتلين كما الروسي فوق ارضهم حتى الرئيس الاوكراني نفسه كان من مؤيدين الاحتلال وممن اعترف بالقدس عاصمة للاحتلال ..ناهيك عن مواقف أوكرانيا المبهمة إزاء التغريبة السورية وخاصة في موضوع اللاجئين الذين قوبلوا بالرفض والتهديد بالترحيل ولم يمنحوهم حتى حق العبور نحو منفى جديد علهم يستشعرون بشيء من الأمان.
حرب من وجهة نظري لا ناقة لنا فيها ولا جمل حرب بين قوى الشر العالمية ستعيد رسم الخارطة الاستعمارية للعالم وستعيد بلورة نظام عالمي جديد سيكبدنا فوق خسارتنا خسارات جديدة …
والنقطة الثانية تلك التي اوجعت ضمائرنا واحرقتها حد الرماد حين كشف هذا العالم المتحضر عن قناعه وعنصريته التي اكدت اننا لاشيء في حساباتهم سوى اننا متوحشون وهمجيون لا تليق بنا الحياة وان اللاجئين ليسوا سواسية كما يروجون
فقبل اشهر مات عشرات اللاجئين السوريين والعراقيين والافغان على حدود بولندا التي رفضت فتح أبوابها امام اللاجئين الفارين من حروب انهكت بلادهم لكن المشهد اختلف اليوم ثلاثمائة وستون درجة فسرعان ما فتح الباب على مصراعيه امام اللاجئين الاوكران وراحت دموع العالم المتحضر تجهش على هؤلاء ذو البشرة البيضاء والعيون الملونة …اي قذارة يحمل هذا العالم المتحضر ذاك الذي يدعي الإنسانية وإذ به يريد إعادة تدوير البشرية حسب العرق والجينات …
وبعيدا عنا قريبا منهم ..كان الحياد واجبا والصمت سلاحا امام نكباتنا الممتدة وخيباتنا اللامنتهية …فعيني على دمشق وبغداد والقدس ..فنحن قضايا الكون المظلومة. ونحن عبيد هذا القرن الموبوء بالحضارة . نحن قلق الحضارة وريبها المستمر . نحن الذين خلقنا لنتلقى صفعات الظلم دونما أي رد.
ونحن دون هذا العالم …فلا صوت لنا ولا نظر سوى البقاء في طوابير الذل امام الحداثة … نحن البعيدون عن حساباتهم السياسية والأخلاقية والقريبون من حساباتهم المصرفية …نحن عالم ثالث …بيننا وبينهم عالم بأكمله .
وربما كان الراحل محمود درويش قد لخص هذا ذات يوم حين قال :” نحن الضحية التي جربت فيها كل أنواع القتل.. حتى أحدث الأسلحة.. لكننا الأعجوبة التي لا تموت ولا تستطيع أن تموت”.