أحمد مظهر سعدو
تتواصل الحرب التي بدأها الرئيس الروسي بوتين على أوكرانيا وشعبها، وتستمر آلة الحرب الروسية بتنفيذ مقتلتها الجديدة في أراضي أوكرانيا، كما تلج روسيا أكثر وأكثر عبر الغرق اليومي في وحل أوكراني، لايبدو أن الخروج منه بات سهلًا، كما لا يبدو أن الغوص فيه كان الخيار الأفضل لبوتين وسياساته الإقليمية التي أرادها تمددًا إمبراطوريًا، وتوسعًا إقليميًا، وتحقيقًا لحلم طالما راوده طويلًا، لإعادة قيام الاتحاد الروسي على أنقاض الاتحاد السوفييتي المنفرط عقده منذ أكثر من ثلاثة عقود خلت.
لقد بدأ بوتين في الشيشان مسبقًا ثم في جورجيا وبعدها في بيلاروسيا، ثم سوريا، وشبه جزيرة القرم، وصمتَ العالم الغربي دون التحرك ضمن أي مسارات جدية تؤدي إلى لجمه وإنهاء تمدده الخطر في نظام عالمي جديد أراده بوتين على حافة الانتهاء من حرب باردة طويلة الأمد. حيث لا يمكن الحديث عن تلك الفسحة التي وجد بوتين ونظامه الأمني العسكري نفسه فيها أمام الباب الموارب الذي ما كان ينظر (من خلاله) إليه حلف الناتو إلا بمثابة الرخصة الغربية أو العجز الذي أمكن نظاماً روسياً ناشئاً من أن يستمر فيه عبر توسعه على حساب الآخرين.
وإذا كان انشغال الغرب الذي كأنه أكثر اهتماماً بما تفعله اقتصادات الصين الوالغة في عمق التجارة والاقتصاد الغربي والأميركي على وجه الخصوص، إذا كان ذلك مهمًا بالنسبة للغرب فإنَّ تلك الانشغالات قد أعطت المجال من دون قصد لطموحات بوتين من أن تتحقق وهو يتحرك إلى الدول الإقليمية في محاولة حقيقية لإعادة أمجاد دولة كبرى سادت ثم بادت، وكانت تشكل قطبية ثنائية أعطت للعالم بعض التوازن، وأفسحت المجال إلى عملية نشوء كتلة ثالثة كانت تسمى دول عدم الانحياز، لكن اليوم ومع تفرد أميركا في قطبية منفردة منذ عام 1991 وحتى الآن، يحاول بوتين اليوم إعادة رسم ملامح عالم جديد بالحديد والنار، ضمن ىسياقات الحرب الأوكرانية، وضمن هذه التفاعلات الدراماتيكة للمسألة الأوكرانية ينظر المتابعون إليها من منظار غربي يريد لبوتين (هذه المرة) المزيد من الغرق في الوحل الأوكراني، والمزيد من الضياع الجيوسياسي، والكثير من التذرر الداخلي، وهم في ذلك ينطلقون ويتكئون على معطيات مهمة يبدو أنها موضوعية ومنها:
-استمرار تدفق شحنات الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا التي لم يسبق لها أي مثيل خلال السنوات الثلاثين المنفرطة، وهو ما سيؤدي إلى إطالة أمد الصراع بكلفة عالية على الروس والأوكرانيين على حد سواء، ما سيسهم في غرق الإمبراطور الروسي الحالم، ويجعل منه طالبًا النجدة، أو يحرض على فعل عسكري انقلابي روسي عليه قد لا يكون بعيدًا بحسب النظرة الغربية.
– صحيح أن بوتين في البدء قد نجح في حشد الشعب الروسي لدعم حربه في أوكرانيا، حيث تقول مراكز استطلاع روسية إنها أجرت استطلاعًا حديثًا أظهر أن ما بين 70% و74% من الروس يدعمون بوتين، وأن الأمر لا يتعلق بإنهاء الحرب، بل بإدارتها بقوة أكبر. لكن ذلك ومع استمرار تصاعد العقوبات اضطرادًا، والاستمرار في خنق الاقتصاد الروسي الذي لم يكن بالأصل في حالة صحية، والمزيد من وصول جثامين الجنود الروس، هل سيسمح لهذا الاستطلاع أن يبقى على ماهو عليه إذا افترضنا صحته بالأساس.
– علاوة على أن السلاح الروسي الذي يعلوه الكثير من الصدأ حيث ورثه من تكدس السلاح خلال الحقبة السوفييتية، لم يعد بإمكانه الدخول في حروب طويلة الأمد، وقد ظهرت علامات تقهقره الكثيرة على الأرض الأوكرانية في كثير من عمليات التراجع التي حصلت، وهو بذلك ينكشف أمام الآلة العسكرية الغربية والأميركية منها، الأكثر حداثة وتطورًا. وهو ماسينعكس على طموحات بوتين العسكرية والتمددية، إذ لم تعد روسيا تلك الدولة العظمى كما كانت أيام الاتحاد السوفييتي.
– كما أن التلويح بحرب نووية لا تبقي ولا تذر، هو ضرب من الجنون لا يعتقد أحد أن بوتين قد يقدم عليه مهما تعرض لانتكاسات وتراجعات وخسائرـ لأن مثل هذه الحرب فيما لو حصلت فإن الجميع سيكون خاسرًا، والجميع سوف يتلاشى، وستكون حربًا لم يتخيلها أحد.
– وإذا كان الرئيس الأميركي “جو بايدن” قد قال في خطاب (وارسو) أن العالم يجب أن يستعد لـ “معركة طويلة في المستقبل” فهو بذلك يؤكد لبوتين أن نَفَسَ الغرب طويل، وأن الغرب لن يستسلم أمام عسكريتارية بوتين الطامحة، ومن ثم فإن التصميم الغربي أكثر جدية لإغراق بوتين في الوحل والطمي الأوكراني، وملامح السلاح الذي يتدفق لدعم الأوكرانيين تشير إلى ذلك. وهذا يبين أيضًا أن الأميركان من الممكن أن يكونوا أكثر سرورًا مما فعله بوتين، حتى لو كان على حساب تدمير البنية التحتية للأوكرانيين، أو تراكم وازدياد أعداد القتلى من الأوكرانيين أو الروس. ومعروف أن الأميركان لا يلقون بالاً إلى عمليات القتل أو التدمير لا في أوكرانيا ولا في سوريا قبل ذلك، وهم من صوروا من الجو كل مجازر الأسد الأب والابن منذ جريمة (حماة) وحتى كيماوي خان شيخون، ولم يحركوا ساكنًا بل ظلوا يلعبون في السياسة التي تؤدي إلى أمان إسرائيل ومصالح أميركا في شمال شرقي سوريا وما يزالون.
قد يقول قائل (إنها نهاية حقبة مابعد الحرب الباردة) وقد يثني آخر أنها ارهاصات عالم جديد متعدد القطبية، أو ثنائي القطبية، لكن واقع الأمر يشير إلى أن الدولة العظمى الأميركية صاحبة القطبية الوحيدة لم تصل بعد إلى حافة انفراط عقدها، أو تشتت قوتها، أو انهيارها العسكري، وهي ما تزال حتى اليوم صاحبة اليد الطولى في كل شيء عالميًا، وهي اليوم باتت في وضع صحي وانبساطي، مع إعادة انشداد عصب حلف الناتو الذي شابه الكثير من الترهل خلال السنوات المنصرمة، وهي تجد أن مافعله بوتين قد أفادها كثيرًا في حالة يقظة الأوروبيين الذين استفاقوا على قوة عسكرية كبرى باتت تقرع أبوابهم مما دعا الكثير منهم إلى إعادة ضخ الأموال باتجاه قيام بنيان عسكري قوي يواجه الخطر القادم من الشرق، وهو الذي فيما لو ترك فإنه يصبح على الأبواب، أي على حدود حلف الناتو.
وتبقى الأسئلة الجدية والموضوعية قائمة وهي: هل سيستمر بوتين في حربه على أوكرانيا دون تحقيق ماجاء من أجله؟ وهل يمكن أن يتفجر في وجهه انقلاب عسكري يوقف توغله الامبراطوري يقضي على أحلام اليقظة التي تنتابه بين الحين والآخر؟ وهل يمكن أن يقوم الحلف الجديد بين روسيا والصين ومعهم بعض الدول مثل كوريا الشمالية وغيرها؟ وهل تتطلع الصين بالأصل إلى مثل ذلك على حساب نهوضها الصناعي والتجاري العالمي؟ أسئلة كثير ما زالت برسم المتغيرات الآنية والمستقبليىة، والكثير من المتغيرات التي من الممكن أن تتمظهر وتخرج إلى السطح فتودي بأحلام الرئيس الروسي بوتين إلى الحضيض.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا