دلال البزري
السوريون معنيون مباشرة بالغزو الروسي لأوكرانيا أكثر من أيّ شعب عربي آخر. أكثر من أي شعب غير أوروبي آخر. الصور تؤكد على ذلك. أوكرانيون هاربون من لهيب المقْتَلة الروسية في بلادهم إلى جوارها، وأكثر الصور لأمهاتٍ دامعاتٍ حاملاتٍ يحملن الرّضع من أطفالهن، ويجررن الأكبر منهم كيفما اتفق، عجائز ملطّخة وجوههم بالدماء، وآخرون يمسكهم متطوّعون من هنا وهناك. وجموعٌ تجرّ شُنَطاً، تركت بيوتها المهدّمة خلفها، وتبحث عن عنوان، أو ملجأ، أو ربما قنينة ماء… وقطارات الرحيل، والعيون الدامعة الضائعة، غير الفاهمة ما يحصل، والدمار الشامل في المدن والبلدات، وأحياء صارت أشلاء، وأحجار فوق بعضها، متناثرة، موزّعة على وسع الطرقات، ومنقذون بالقبّعات الملوّنة، وخيم ومخيمات وملاجئ، وأب يرفع ابنه عالياً، لا يريد الاستسلام لليأس … أمام هذه الصور تذكّر كثيرون سورية، وكانت صرختهم مدوّية: “تذَكَّروا حلب … تذكَّروا حلب”.
والتشابه لا يتوقف عند الصورة. بديهي أنّ الغازي واحد في كلا البلدين. إنّها روسيا بوتين. وكلّ تجربته السورية التي أعطته تلك الوثبة الجبارة. نكّلَ بسورية المعارضة. واستولى على سورية الموالاة، بالقواعد العسكرية، وحقوق الاستثمار في موانئها. والآن يتجَوْهر في أوكرانيا. وفي سورية، صارت وزارة الدفاع الروسية تقصف المدن والبلدات بأسلحتها الجديدة. تسجّلها ثم تخرجها في شريطٍ مصوّر، أشبه بالإعلان التجاري، يروّج “دقة” الصناعة العسكرية الروسية. والمؤكد أنّ السلاح المجرَّب على سورية نفسه، ينزل الآن على رؤوس الأوكرانيين، كما سبق أن فعل برؤوس السوريين.
هذا لكي لا نتكلم عن طبيعة هذه “العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا” التي لا تملك من التكتيك العسكري سوى القصف والتدمير، وبإصرار ووحشية لا يختلفان عن تلك التي امتازت بها في سورية. النَيْل من المدنيين في الأوقات، أو الأماكن الأكثر “إنتاجية” لصواريخ هذه “العملية” وطائراتها. مسارح، مدارس، مستشفيات، مؤسّسات حكومية، ملاجئ، محطات المترو، نُصب تذكارية، منحوتات عامة، مخابز، منتزّهات، أسوار، قرى، مبانٍ خاصة وحكومية، بيوت، بيوت لا تنتهي، سقطت على أهلها، وأخرجهم الأحياء منهم من ديارهم… ومئات الحكايات التي تستحضر معها مئات أخرى من الحكايات السورية.
ومواقف سياسية، تفاجئك، مع أنّها منتظَرة. الذين خاضوا المعارك من أجل تثبيت عرش بشّار، بمليشياتهم، أو بقلوبهم… هؤلاء لم يتبدّلوا، لم يتساءلوا، لم يندهشوا. الغزو الروسي لأوكرانيا جاء ليثبت لهم، للمرّة الألف، أنّ أميركا هي الشرّ المطلق، هي والغرب كله. لكنّ الأثر في سورية نفسها كان نافراً، في قلب بشّار الأسد نفسه. تظاهرات قسرية أراد لها هذا الأخير أنّ تكون مليونية دعماً للمحتل الروسي في مغامرة احتلاله دولة أخرى. وأقوال خالدة لبشّار الأسد عن الغزو، لا يحسُن تكرارها، أمعن بحبّه لمحتله، تماهى معه. وأراد أن يظهر وكأنّه هو الذي منحه الإذن بالهجوم على دولةٍ أخرى، بصفته رئيساً لدولةٍ محتلة.
في المقابل، تزايدت، أخيراً، التظاهرات المعادية للأسد، في مناطق “التسوية” أو في أخرى أقلّ تحصّناً منها. وكلّها تبدو وكأنّها مستقوية بصمود الشعب الاوكراني بوجه آلة الحرب الروسية. و”أمل” كما يقول أحد الكتّاب السوريين، بأن تنهض سورية، بعد الذي حصل في أوكرانيا. وترجمة لهذا الأمل بالرايات السورية الخضراء المعارِضة، المرفوعة في التظاهرات في أوروبا وأميركا، والمناهضة للغزو الروسي…
واللفْتة اللماحة لأحد الكتاب السوريين: أنّ بوتين هجمَ على سورية بداعي محاربة “الإرهاب”. أي أنّه تسلّل من شباك الحرب الدولية على الإرهاب في أواسط العشرية الماضية، فبعدما انتهت هذه الحرب، سرق شعار “محاربة الإرهاب” وأدخله في خزينة احتلاله سورية. أما الهجوم على أوكرانيا، فقد سخّر له بوتين شعاراً آخر، هو “محاربة النازية”. لماذا؟ لأنّ “النازية” هي النظير الأوكراني لـ”الإرهاب” في سورية. ذريعة خطيرة، بمكوّنات واقعية، لكنّها غير أساسية. هي متفرّعة عن القضية الأولى. مثل الإرهاب، للنازية وجود، والأرجح أنّها تغذّت من المصدر نفسه، البوتينية وحلفائها. اسم أولئك النازيين “فوج أزوف” يحملون السلاح، لكنّ تأثيرهم محدود، كذلك وطاقتهم العسكرية. وعلى كلّ حال، كيف يستوي أن تتّهم أوكرانيا بـ”النازية”، وبـ”الصهيونية” في آن؟
ثم، تدفُق الأقلام السورية تحليلاً ومراقبة للحرب على أوكرانيا، أكثر من أيّ أقلام عربية أخرى. ومراجعات بدأت للتجربة السورية مع الدعم الخارجي أيام الثورة. والأمل، هنا أيضاً، بأنّ الرافعة الأوكرانية يمكن أن تساعد على الاستفاضة بهذا النقد، بما قد يوصل إلى اتفاقٍ وطنيٍّ للمعارضة السورية، لها وجهة نظر بعد أوكرانيا، ربما تكون جديدة، عن التنسيق، عن الوحدة، عن كيفية مخاطبة الداعم، عن الحفاظ على الاستقلالية… إلخ.
وتلك المقارنة التي تفرض نفسها: كيف أنّ بوتين يلبّي دعوة نظام دموي استبدادي ليسانده ضد شعبه المُطالب بحقوقه، حالة الأسد. وكيف يعتدي بوتين نفسه على نظامٍ انتُخب قادته ديمقراطياً، على رئيسه فولوديمير زيلنسكي، وعلى الشعب الذي انتخبه، فكان عقابه تلك الهجمة الشرسة، والسلاح الثقيل في الأجساد السائغة. الأول وريث الاستبداد المخابراتي، والثاني، زيلنسكي وريث الديمقراطية والانتخابات. تلك الانتخابات التي قتل بشّار السوريين المطالبين بها ..
ومقارنة متفرِّعة عن الأولى: كرامة الرئيس الأوكراني، وعزّة نفسه أمام الاستكبار الروسي، وإصراره على خلاص بلاده من عسكره، مقابل ابتلاع بشار كلّ الأفاعي والإهانات البروتوكولية الروسية، معتقداً أنّه بذلك يمارس لعبته إياها، المتذاكية، الرديئة، مع المحتلين بلاده. والقراران بأمر من بوتين: الأخير، بشّار، مجرم الحرب، فاستحق الحياة، والثاني، زيلنسكي، رئيس منتخب، فيستحقّ الموت.
للمرتزقة السوريين سوق في أوكرانيا. المؤكّد حتى الآن أنّ بوتين يحتاجهم لينفذوا أقذر المهمات وأخطرها على حياتهم. شرط أن يكونوا أصحاب خبرة، في سورية، أو في ليبيا، حيث لبّوا نداءه لدعمه ضد خصمه في الغرب الليبي. والغرب هذا جاءته هو أيضا “المؤازرة” من مرتزقة سوريين بإمرة تركيا. والتساؤل، من الجهة الأوكرانية المقابلة، إن كانت صحيحةً الأصوات السورية التي أعلنت عن استعدادها لمحاربة الجيش الروسي، بالانضمام إلى “الألوية الأممية”. وتناول هذه المسألة بالأقلام السورية، وتنبّهها إلى أخطار “الكفاح المسلح الخارجي” سواء كان مع الجهة المعادية أو الموالية لروسيا. ووصفٌ للبؤس السوري الذي أوصل شبابه إلى بيع قوة زِناده مقابل فُتات من الرواتب، غير المدفوعة غالباً. والمرتزقة اللبنانية على عتَبَة الإعلام. كما حصل في سورية، قبل بضع سنوات، يؤخّر حزب الله الإعلان الصريح عن تجنيد شبابه لمحاربة الشعب السوري المنتفض ضد بشّار الأسد.
وإسرائيل، الواقعة بين مؤيد لبوتين ومعارِض له. وحكومة تحاول أن تقف على الحياد حفاظاً على موقعها واقتصادها، والأهم من ذلك “حرية حركتها”… وأين؟ في الداخل السوري نفسه. سورية هنا أيضاً نقطة الإستراتيجيا الإسرائيلية. الصحافة الإسرائيلية كشفت عن مجموعةٍ من ضباط الاحتياط في الجيش الإسرائيلي تدرّب أوكرانيين على القتال ضد الغزاة الروس. ونقلت الصحيفة عن أحد هؤلاء: “الحقيقة أنّنا سئمنا جداً من القصة الروسية في سورية… صحيحٌ أنّه يوجد تنسيق دائم معهم لكنّنا لم نرتبك للحظة (…) الجنرالات الروس ينفّذون الأوامر التي يتلقّونها من الكرملين، لكنّهم ليسوا في جانبنا، فهم يتحدّثون معنا بعد أن كانوا قد نسّقوا عسكرياً بشكل مكثّف مع السوريين والإيرانيين وحزب الله في سورية”.
ردود الفعل الأولى العربية على مشاهد الغزو الروسي، والتصرّفات والتعليقات العنصرية، ومقارنة بين التضامنَين، الغربي والشرقي… كانت تنطق بالمرارة والحسْرة. على ما تحظى به أوكرانيا بأكثر ما حظيت به سورية. وهذه ردود فعل محقّة. لكن نسبيّتها تفرض نفسها أيضاً. ليس فقط لأنّ أوكرانيا على أبواب أوروبا شرقاً، ولها لغة ودين وتاريخ واحد… إلخ… لكن أيضاً لأنّ أوكرانيا مثل سورية هي نتاج تقاعس غربي عن ارتكابات بوتين وغيره، في الشرق الأوسط، ومن بعدها، أو قبلها، في أوروبا نفسها.
وهذه مرحلة جديدة في الوعي الغربي، بعد اعترافه بأخطاء استصغار نوايا بوتين التوسّعية، ستكون لها تغيرات وموازين واتجاهات تفكير مختلفة. وسورية هي الدولة غير الأوروبية الوحيدة الواقعة على تماسّ مباشر مع هذه التغيرات. فيكون السؤال: كيف سيتعدّى السوريون مرحلة الدهشة، لينتقلوا إلى الاشتغال على هذين الواقع والوعي الجديدَين؟
المصدر: العربي الجديد