عبد الباسط سيدا
كانت وعود الإصلاح والتغيير، وما زالت، الوسيلة المفضّلة التي يلجأ إليها الحكام لطمأنة الناس وإعطائهم انطباعاً مفاده أنّ لدى الحاكم الجديد خطة للتخفيف عنهم، وفتح الآفاق أمامهم، وذلك بالحدّ من الفساد والتسلط المسنودين عادة من مسؤولي السلطة وأجهزتها. ولكن هذه الوعود ما لم تترجم واقعاً فعلياً على الأرض منذ الأشهر الأولى من استلام الحاكم الجديد مقاليد السلطة، وإذا كان التحجّج بالظروف والإمكانات أداة للتسويف والمماطلة، فإنّ هذا فحواه أنّ الوعود الإصلاحية المعسولة لم تكن، ولن تكون، سوى وسيلة للتمكّن والتحكّم ليس إلّا؛ وذلك بعد أن تكون قد أدّت مهمتها التضليلية التخديرية في ميدان تهدئة الناس، وتمكين الحاكم الجديد من السيطرة، وترتيب الأمور ليبقى في الحكم أطول فترة ممكنة، وذلك بعد إبعاد المنافسين، وتشتيت صفوف الخصوم الواقعيين والمحتملين، وإخراجهم من دائرة التأثير بمختلف الأساليب، سواء بالاعتقال أم التغييب، وحتى الاعتقال والتصفية الجسدية.
ومن باب المثال لا الحصر، سنتناول هنا تجربتين من تجارب الوعود الإصلاحية التي يبشّر بها الحكام العرب الجدد عادة، وهما التجربة السورية التي بدأت صيف عام 2000، والتجربة التونسية المستمرة منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2019. ففي سورية كان حافظ الأسد قد ألزم الحرس القديم، قبل وفاته في صيف عام 2000، بفتح بوابة الحكم أمام “وارث الجمهورية”، وتذليل كل العقبات التي قد تحول بينه وبين الوصول إلى موقع الرئاسة الذي كان الوالد أصلاً قد سيطر عليه بانقلاب عسكري عام 1970، وسيطر عليه الابن من خلال انقلابٍ على الدستور الذي كان الأسد الأب نفسه قد فصّله على مقاسات حكمه. ولكن الحاكم الابن لم يكن يمتلك خبرة سلفه الأب، وتجاهل أنّه أصلاً قد جاء إلى الحكم ليكون محصّلةً صفريةً لتوازنات إرادات أصحاب مراكز القوى ضمن السلطة الحاكمة، فبدأت عمليات الإبعاد والاغتيال والنفي في سورية ولبنان، وكان ذلك بتوجيه ودعم مباشريْن من نظام ولي الفقيه، وبمشاركةٍ فعليةٍ من ذراعه اللبناني المتمثل في حزب الله.
وهكذا حتى وصلنا إلى اليوم الذي تمكّن فيه ذاك “الشاب الإصلاحي”، المفروض أنّه درس في الغرب بموجب الرواية الرسمية، من تدمير البلد، وتهجير ملايين السوريين وقتلهم وتغييبهم واعتقالهم، وذلك بعدما فتح البلاد أمام المليشيات والجيوش الأجنبية، وسائر شذّاذ الآفاق؛ وهو اليوم يتحدّث عن سيادة الدولة ورموزها وهيبتها، بعدما حوّل البلاد إلى ساحة للانتهاكات التي تستهدف السوريين ومدارسهم ومشافيهم وأسواقهم ومجمعاتهم السكنية ودور عباداتهم.
ومن الواضح المكشوف أن لعبة الرموز السيادية الجديدة التي يحاول بشار الأسد إضفاء صيغة قانونية دستورية عليها، ما هي إلا وسيلة لسحب البساط من تحت أقدام المعارضين الرسميين الذين يدور حول مشروعية تمثيلهم السوريين المناهضين لسلطة بشار ألف تساؤل وتساؤل؛ وذلك على أثر تمكّنه من ترتيب أوراقه مع بعض الدول العربية بعد قطيعةٍ دامت أكثر من عقد. وهو اليوم ينتظر ترتيب الأمور من جديد وفق صيغ جديدة، تتناسب مع المتغيرات والمستجدات التي كانت، على المستوى الإقليمي مع إسرائيل، وهو أمر لم يعد من الأسرار بعد الدخول الروسي إلى سورية في خريف 2015 بدعوة من بشار الأسد ومباركة من راعيه الإيراني؛ وبالتنسيق والتفاهم مع الأميركان في عهد الرئيس الأسبق، أوباما، وإسرائيل في الوقت ذاته.
ولعلّ من اللافت أنّ الاتصالات مع بشار الأسد، ودعوات تسويقه عربياً، تأتي بالتزامن مع ارتفاع وتيرة لقاءاتٍ عربيةٍ إسرائيلية أميركية، وهي لقاءاتٌ ربما لا تأخذ الاهتمام الإعلامي المطلوب في أجواء حرب بوتين على أوكرانيا؛ لكنّها، ومن دون شك، تمثل نقلة نوعية في التأسيس لمعادلاتٍ جديدة، يبدو أن الإيرانيين وأذرعهم سيكونون جزءاً منها، وذلك بعد إتمام الطقوس الخاصة بالإعلان عن صفقة النووي المنتظرة.
أما الوعود الإصلاحية التي أتحف الرئيس التونسي قيس سعيّد شعبه بها منذ مناظرته التلفزيونية الأولى مرشّحا رئاسيا مع بقية المرشّحين، وأكدها في بداية عهده (خريف عام 2019)، ثم أرفقها بجملة إجراءات غير معهودة، واتهامات بالمؤامرة والفساد وحتى الخيانة، تفتقر إلى الأدلة الملموسة، ولا تسمّي الأشياء بمسمّياتها، ولا تقدّم القرائن والمعطيات التي تدين المسؤولين عن الفساد، والمشاركين في المؤامرة المزعومة بأسمائهم، ومن دون تقديم أي توصيفٍ دقيقٍ يشرح ويؤكّد ما أقدموا عليه.
بدأ الرئيس التونسي حملته الكبرى على شركائه وخصومه في الحكم في 25 يوليو/ تموز 2021 بتعطيل أعمال البرلمان، ورفع الحصانة عن أعضائه، وإعفاء رئيس الحكومة من مهامه. ومنذ ذلك التاريخ، يمارس التسويف، والتهديد والوعيد، ويخلط الحابل بالنابل، متجاهلاً أن الشعب التونسي يعاني من الفقر والمرض واضطراب الأوضاع، ويتوجّس كثيراً من انسداد الآفاق.
وبعد طول انتظار، قرّر البرلمانيون التوانسة، بغض النظر عما قيل ويقال عن سلبيات بعضهم وأخطائهم وفسادهم، وبصرف النظر عن الاتهامات التي وجهت، وتوجّه، إلى حركة النهضة، واجتمعوا افتراضياً تيمناً بالاستشارت الوطنية الافتراضية التي فرضها الرئيس على التوانسة من دون أي مردود فعلي. وقامت قيامة الرئيس، وأفتى بحلّ البرلمان، معتمداً على دستورٍ لم يبقَ منه سوى الاسم؛ ومن دون أن يشغل نفسه بأيّ اعتراضاتٍ أو احتجاجاتٍ تؤكّد التناقضات الدستورية التي أوقع نفسه بنفسه فيها. وقد أدّت هذه الخطوة الجديدة، وغيرها من الخطوات والتصريحات والتهديدات والتسويفات، إلى تحرّك القوى التونسية الأخرى، فتونس ليست حزب النهضة أو غيره؛ ولا يمكن لشخص الرئيس، مهما كان اعتداده بنفسه، أن يختزل تونس في شخصه.
لقد أثارت إجراءات الرئيس التونسي الجديدة كثيراً من الانتباه والانتقاد والاستهجان على المستويين التونسي والعربي، وحتى على المستوى الدولي، بالرغم من انشغال العالم بالتطورات والتبعات الخاصة بالحرب الروسية على أوكرانيا، فالرئيس، بدلا من البحث عن الحلول للمشكلات الموجودة، يدفع بها نحو مزيد من التعقيد، الأمر الذي يستشفّ منه أنه هو الآخر يتصرّف بوحي، أو بتوجيهات وتعليمات جهة أو جهات يستمد منها القوة. فأن يتمكّن شخصٌ مستقلٌّ من الوصول إلى الحكم عبر الانتخابات في بلدٍ عُرف بنظامه الأمني المتحكّم عقودا، حتى بات مضرب المثل، وكان المقرّ الدائم لاجتماعات وزراء الداخلية العرب، أمر يثير التساؤلات والشكوك.
هل سيتمكّن قيس سعيّد من فرض إرادته على الأجهزة والمؤسسات، ويجابه الجميع بروايات واتهامات عامة مبهمة؟ نستغرب حدوث هذا الأمر، بناء على معرفتنا بحدود الهوامش المحدودة التي تسمح بها أنظمةُ كهذه، ولعلّ هذا ما يفسّر ظاهرة انتظار الجميع للخطوات اللاحقة. هل سيتمكّن الرئيس التونسي من الإيفاء بوعوده الإصلاحية، ويُبعد البلد عن مخاطر كارثةٍ تلوح بوادرها في الأفق؟ أم أنه سيغدو واجهة للتغطية على استمرارية تحكّم الأجهزة بمصير الدولة والمجتمع التونسيين، بل ربما تصبح فترة حكمه مجرّد مرحلة انتقالية لسلطةٍ تكون أكثر وزناً وإقناعاً، بعد أن يكون قد أدّى دوره الوظيفي عن وعي أو من دونه؟ قد تحمل لنا الأيام المقبلة بعض الإجابات.
وفي جميع الأحوال، لا نتمنّى أن تتكرّر المأساة السورية في تونس، وهي المأساة التي بدأت بوعودٍ إصلاحية مضلِّلة، صدّقها سوريون كثيرون بكلّ أسف، وإنْ بحسن نية، في البدايات؛ حتى تبيّنت لهم لاحقاً حقيقة الخديعة الكبرى التي تسبّبت في تحويل البلد وأهله إلى مجرّد حطام.
المصدر: العربي الجديد