أحمد دغاغله
في الجغرافيا السياسية الإيرانية إقليم عربي بأرضه وناسه هو الأحواز الذي يشهد بين الحين والآخر أحداثاً ذات دلالات تتيح قراءة الوضع الإيراني بشكل أفضل. فعدا عن الظلم اللاحق بالإقليم والقمع الذي يتعرض له المعترضون من أهله والمطالبون بحقوقهم، هناك ظواهر أخرى تلفت الانتباه، فتارة تُجمَع مليارات الريالات في هبة شعبية لتخطئة حكم القضاء وإنقاذ شاب من المشنقة وتارة أخرى يستنفر الناس في الإقليم لبناء أكبر سد في العالم بأكياس الرمل لحماية المدن والأرياف من فيضانات تكاد تقضي على الحرث والنسل… حالات منقطعة النظير من التكاتف الشعبي لا يمكن معرفة الواقع الإيراني من دونها.
“غالباً ما تغيب عن المتابع للشأن الإيراني زوايا بالغة الأهمية، وذلك بعيداً مما يركز عليه الإعلام، فيشوب معرفة الشأن الإيراني الكثير من النقص، ومن الأسباب التي تبعد من المتابع امكان العثور على هذه الحقائق هي أنها تجري بعيداً من الصالات الرسمية وتصريحات المسؤولين والإعلام، حتى بات المتابع للشأن الإيراني لا يعرف ما يجري في هذا البلد إلا من خلال السياسة الخارجية والمفاوضات النووية أو الميليشيات وتدخلها هنا وهناك”. بهذا الكلام الى “النهار العربي” أراد عضو مؤسسة دراسات واشنطن انستيتيو رحيم حميد لفت انتباه متابعي الشأن الإيراني الى قضايا تجري خارج طهران العاصمة، بعيداً من تركيز الإعلام، وعند الملايين من أبناء الشعوب المضطهدة والأقليات الدينية المغيبة وهي شؤون لا یمکن أن تكتمل من دونها معرفة الواقع الإيراني.
ضرورة معرفة الزوايا المغيبة من الواقع الإيراني يؤكدها الكاتب والإعلامي يوسف عزيزي بني طرف بقوله لـ”النهار العربي” إن “ما يبرز بين الحين والآخر من تكاتف اجتماعي بين أبناء الشعوب المضطهدة في جغرافيا إيران، لا سيما في إقليم الأحواز يربك النظام إلى حد كبير ما يجعله يقوم باعتقالات عشوائية وممارسات تناقض حقوق الإنسان، لأنه يرى فيه مؤشرات خطيرة واحتمال انقلابه إلى موجات تكاتف سياسي لا يكون للنظام قبل بمواجهتها”.
وفي هذه الأيام يجود الناس في إقليم الأحواز بما يستطيعون لإنقاذ شاب عربي يدعى محمد نجم من المشنقة وذلك تحت هاشتاغ #محمد_نجم_لن_يعدم، وهو شاب عربي تورط في جريمة قتل خلال صدام مع مجموعة من الشباب الحاملين لأفكار متطرفة معادية للعرب. فبينما اعتبر الشارع العربي ما ارتكبه محمد نجم محاولة للدفاع عن النفس أصدر القضاء الإيراني الحكم عليه بالإعدام، وهو حكم تنازل عنه لاحقاً أهل القتيل مقابل طلب مبلغ مالي كبير جداً، فخرج والد الشاب محمد نجم طالباً العون من العرب لنصرة ابنه الذي سيعدم إن لم يُجمع مبلغ الديّة، وما إن صاح الشعراء والوجهاء في الشعب الأحوازي حتى انهالت التبرعات على حساب نجم الناصري والد الشاب محمد الذي بات يبتعد ساعة بعد ساعة من المشنقة التي توعده بها القضاء الإيراني.
أسباب ودلالات
يرى الأستاذ في جامعة “روتجرز” الأميركية عقيل دغاغلة أن “الخطأ في قراءة ما يحصل عند الشعوب في إيران، لا سيما عند الأحوازيين، هو حصر أصناف المقاومة بأشكالها المعهودة في العالم الحديث، والتي تختصر في الأغلب بالمسيرات الاحتجاجية والإضرابات و ما شاكل، غير أن هناك ضروباً أخرى من المقاومة ومنها ما يحصل هذه الأيام في الأحواز. فتخطئة حكم القضاء والإصرار على تعديله ولو كلف الأمر مليارات الريالات في مبادرة يساهم فيها مئات الآلاف من الناس هو ضرب من المقاومة الشعبية ضد ما يشعر به الأحوازيون من تمييز وعنصرية بحقهم، ولا شك في أن مبادرات كهذه تعتبر مؤشراً الى حقائق اجتماعية سيكون لها دور مفصلي في منعطفات مقبلة على إيران”.
وعلى رغم التعتيم التام على مثل هذه المبادرات الشعبية من وسائل الإعلام الرسمية، إلا أنها تسري قوة بين أفراد الشعب وتتكرر بين الحين والآخر بأشكال مختلفة من دون أن تجد السلطات الإيرانية سبيلاً للحد منها، فيما يرى فيها الأحوازيون سبيلاً لإثبات وجودهم وقدرتهم على التكاتف ويرفعون عبرها من قيمة الاعتزاز بالذات.
يقول أحد القائمين على هذه الحملات والذي طلب عدم كشف اسمه لـ”النهار العربي”: “في عام 2018 وعندما سمعنا بقرب موعد تنفيذ حكم الإعدام برجل أحوازي قررت أنا وبعض الأصدقاء إطلاق حملة لجمع مبلغ الديّة المطلوبة من ذوي المقتول، فبدأنا حملة على الفضاء الافتراضي لاختبار مدى التكاتف الاجتماعي بين الأحوازيين، وجاءت النتيجة تفوق كل التوقعات، إذ جمع مبلغ الديّة الذي كان يفوق الثمانية مليارات ريال خلال أربعة أيام فقط، وهي نتيجة أدت إلى بث نسبة كبيرة من روح التفاؤل بين الأحوازيين”.
ويرى الكاتب والإعلامي ناجي عبود أن حملات الأحوازيين لإنقاذ المحكومين بالإعدام من خلال حملات تبرع شعبي “تعزز مفهوم الأنا والآخر لمصلحة الأحوازيين وتزيد من ألفة الشارع وتكاتف الشعب وتعزيز روح الانتماء، لا سيما أن مثل هذه الحملات غالباً ما تتدخل لمصلحة المتورطين في قضايا القتل على خلفية مشاحنات عنصرية يعيش الإنسان الأحوازي تحت ثقل وطأتها في جغرافيا إيران”.
عمر مسيرة الإنقاذ
ناشط آخر في هذه الحملات، لم يكشف اسمه كذلك، شرح لـ”النهار العربي” كيفية اطلاقها، يقول: “كان شهر كانون الأول (ديسمبر) من عام 2018 عندما انتشر في الفضاء الافتراضي مقطع فيديو لامرأة عربية تستغيث لإنقاذ زوجها جبار عبود الكعبي الذي ما كان يفصله عن تنفيذ حكم الإعدام به سوى بضعة أيام، عندها خطر لي أن نستعين بكل الشعب لجمع مبلغ الديّة، لا سيما أن جبار اقترف القتل دفاعاً عن فتاة عربية تعرضت للتحرش. وبعد موافقة عدد من الشعراء المميزين ووجهاء العرب بدأنا حملة غير مسبوقة وكل ما كان يدفعنا هو الشعور بمسؤولية إنسانية لإنقاذ إنسان من حبل المشنقة. لم يكن يتبقى من المهلة المحددة سوى أربعة أيام وهي مدة زمنية قليلة لجمع مليارات الريالات، حقاً أنه أمر أشبه بالمعجزة”.
ويقول الكعبي وهو أول الناجين جراء حملات الإنقاذ: “بعد عشرين عاماً من السجن تم نقلي الى الزنزانة الانفرادية كما هي العادة في السجون الإيرانية بحق من يقترب موعد إعدامهم فانقطعت عن العالم الخارجي تماماً، وأصبحت على يقين من اقتراب موعد الإعدام، وكل ما كنت أرجوه لقاء أخير بأهلي، وعند صباح ذات يوم فتح الجندي الباب وبيده ورقة الإفراج قائلاً: أهلك دفعوا الديّة فتم الإفراج عنك”.
نجاح الأحوازيين في إنقاذ جبار الكعبي من المشنقة كان دافعاً كبيراً لتكرار التجربة التي جعلت من الأحوازيين أكثر ثقة بالذات، وأثارت عندهم الميل والشغف لتذوق طعم الفوز المنبعث من الإصرار، فتكررت الحملات عند كل حكم قضائي يرون فيه خلفية عنصرية أو تمييزاً، فبعد الكعبي تم إنقاذ عادل غزلاوي، وعباس سعدي بني عقبة وفي هذه الأيام تجري المحاولات على قدم وساق لإنقاذ الشاب محمد نجم وذلك تحت هاشتاغ #محمد_نجم_لن_يعدم.
كعب أخيل إيران
وبحسب تصريح وزير التربية والتعليم الإيراني الأسبق حاجي بابائي فإن “أكثر من 70 في المئة من الإيرانيين هم من مزدوجي اللغة”، أي أنهم من الشعوب غير الفارسية، وعند هذه الأكثرية المطلقة أخذت تزداد وتيرة المطالبة بالحقوق الثقافية والاقتصادية والسياسية وترتفع درجات التكاتف الاجتماعي، لیس بین أبناء الشعب الواحد وحسب، بل تعدت لتشمل التكاتف بين مختلف الشعوب.
ويعتقد الكاتب بني طرف أن “الأحوازيين بعدما نجحوا في خلق حالات من التكاتف الاجتماعي، بدأوا التقارب مع سائر الشعوب غير الفارسية، وبرزت نتائج هذا التقارب في دعم سائر الشعوب كالأتراك والأكراد والبلوش واللور انتفاضة الأحوازيين في تموز (يوليو) 2021، وهي كانت حالة من التكاتف غير المسبوق في تاريخ إيران شكلت، من دون شك، بداية لعصر جديد في هذا البلد، وهو عصر ستکون فيه الشعوب في مقدم المطالبين بالتغيير، وإحداث تحولات جذرية تحظى عبرها الکیانات والأفراد بنسب أکبر من الحریات”.
المصدر: النهار العربي